عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

عاملات منتصف الليل.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاتهامات

عاملات منتصف الليل.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاتهامات
عاملات منتصف الليل.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاتهامات

كتبت و تصوير - سماح زيدان

أمهات ومراهقات وضعتهن الظروف ضمن عمالة الطرف الأحمر  



 

"نفسي ربنا يحبني والناس تحبني، كان نفسي أكمل تعليمي، لكن الحياة نصيب، هاتجوز بعد شهور، وهاكون أم لأطفال، باشتغل من سنين علشان أجهز نفسي"، بهذه العبارة لخصت نانسي فلسفتها، وأحلامها في الحياة.

هي فتاة في الخامسة عشر من عمرها، ما زالت في سن الطفولة المتأخرة، غير أن قصة حياتها ومعاناتها، ترقى لشخوص رواية البؤساء لفيكتور هيجو.

تتذكر نانسي، أيامها الأولى، تستدعي رواية أمها، حول حملها في أحشائها تقول: كانت أمي "حامل" في الشهر الثالث، عندما طلقها والدي، كان يسيء معاملتها، ويجبرها على السير في طريق غلط، لكنها رفضت، طلقها وتركها وعندما ولدتني قالت: لن أتزوج مرة أخرى سأربي بنتي ولو بعت "هدومي".

تضيف نانسي: دخلت التعليم، أمي كانت تبيع "خضار"، وأنا عندما وصلت لسن-10 سنوات- بدأت العمل، كنت أذهب ثلاثة أيام إلى المدرسة وثلاثة إلى مصنع الطوب، فتركت الدراسة وأنا في الصف الأول الإعدادي وأعمل منذ خمس سنوات.

 

 

في بيت صغير، متهالكة أركانه، تلملم نانسي، حاجاتها، في الثانية بعد منتصف ليل كل يوم، في جنح الظلام والناس نيام، تستعد الفتاة ليوم عمل جديد، تحضر طرحتها، وقفازان وتلفّ إيشارب على عنقها ليقيها برودة الشتاء.

 

 

 

تتحرك نانسي من منزلها إلى مصنع الطوب، تصل عملها في الثالثة فجرًا، هي ورفيقاتها، ليبدأن في حمل الأحجار المعدة للبناء، الطرحة تسدلها على عينها، لوقايتها من الأتربة، والقفازات تحمي يديها من خشونة الطوب، وحرارة الخارج من الفرن بعد حرقه.

تقول نانسي: "نعمل حتى الواحدة ظهرًا، لا يسمح لنا بأن نرتاح دقائق، أحمل الطوب على رأسي، وأذهب به للعربية (السيارة)، أكل عيشي، باجهز نفسي (أشتري مستلزمات الزواج) فأنا وحيدة، وأمي تعمل هنا أيضًا لمساعدتي، فبيع الخضار لا يكفي".

 

 

 تحت وطأة الحاجة، تعمل نانسي ورفيقاتها، في مهنة قاسية تتطلب خشونة الرجال، لكن "الألسنة"، كما تقول أم محمد-31 عامًا: " لا ترحمنا، ففي العمل شباب ورجال والخروج كل يوم بعد منتصف الليل والعودة ظهرًا تجعل هناك من يدعي أن البنات التي تشتغل بورش الطوب، بتدخل وتخرج منها حامل". في إشار ة إلى الاتهام بسوء السلوك.

تضيف أم محمد: هذا كلام فارغ، البنات والستات بتشتغل علشان أكل العيش والمحترمة محدش يقدر يبصلها (لا يستطع أحد أن يتجاوز التعامل المحترم معها).

 

 

أم محمد لها معاناتها، ترويها قائلة: تزوجت وأنا صغيرة، أنجبت ثلاثة أطفال، زوجي كان يعمل باليومية في الحقول، كان بيشتغل يوما ويجلس في البيت عشرة، فأجبرني على العمل أنا وأطفالي، وكل يوم ضرب وإهانة.

وتكمل غاضبة: "لما اشتغل أحسن ما اعمل حاجة غلط أو أمد إيدي لحد أنا أجبرتني ظروفي علي العمل ده لأنه المتاح ومنه لله جوزي.. اتجوز عليا وبهدلني أنا وعيالي وكان بيضربني هو ومراته ومشيت من البيت وخدت عيالي عشان كان واخدهم مني في إجازتهم من المدارس من اربع سنين وشغل البنات يخدموا في البيوت في مصر (تقصد القاهرة) وبنتي الكبيرة كانت عندها 10 سنين وقتها والتانية 8 سنين اتسبب في خروجهم من التعليم والولد وقفه علي عربية عصير بس كان بيرجع في الدراسة وهو حاليا في 3 إعدادي لكن البنات قالي واخد تمن شغلهم من الناس لسنتين قدام.. كان بيشغلني أنا وعيالي وياخد الفلوس يصرفها علي المخدرات ومكانش بيصرف علينا.."، واستكملت: "لما عيالي رجعوا من مصر بعد أربع سنين أخدتهم ومشيت ورفعت عليه قضية طلاق عايشة معاهم وبشتغل واتبهدل عشان اصرف عليهم وعمري ما اخلي واحدة من البنات تشتغل في الورشة وتتبهدل".

 

 

نانسي وأم محمد وغيرهن، بنات تحت السن، تتفاوت أعمارهن بين عشر سنوات و عشرين سنة، ما بين تلميذة فاتها قطار التعليم، وأخريات رفضن الزواج بسبب المسئوليات، وسيدات من 25 و40 سنة مطلقات وأرامل ويعولن، سيدات فوق الخمسين، كل هذه الأعمار يجمعها العمل في مصانع الطوب الأحمر، نعم مصانع الطوب الأحمر، مهنة الرجال،  حيث الخشونة والعضلات، ومرارة العمالة المؤقتة الشاردة من مظلة التأمينات، هكذا كان الاعتقاد قبل أن تقتحمه البنات سواء جبرًا أو اختيارا .

تتصاعد الدهشة وربما تصل حد الصدمة، مع سماع قصة كل واحدة وفي نهايتها:"الناس مش بيسيبونا في حالنا بسبب خروجنا من البيوت بعد نص الليل ورجوعنا بعد الظهر وإن الشغل في الورشة فيه رجالة معانا.. بنخرج وكل الناس نايمين في عز البرد ومحدش حاسس بينا.. لكن هنعمل إيه؟ أحسن ما نمد إديينا لحد".

 

 

 

" تراب الحُمرة " بديلًا عن الكحل

تراب الحُمرة ، هو تراب أحمر ناعم يتسلل إلي أعين العاملات، أثناء حمل الطوب رغم حرصهن علي تغطية الوجه بوشاح شفاف أسود.

 

 

" مستعمرة سرية "

هنا.. في برج رشيد وقرى مثل الشمامسة ومحلة الأمير بمحافظة البحيرة ما يزيد على عشرين مصنعًا، بقوة  عمالة تتراوح بين 50 و60 عامل في المصنع الواحد، منهم من 5 إلي 10 سيدات وفتيات يعملن فقط في حمل الطوب ونقله من داخل المصنع لسيارات النقل خارجه.

العمالة في مصانع الطوب قسمين، القسم الأول هو عمالة الطرف الأخضر، أي العاملين بالمراحل الأولي، والثاني هو الطرف الأحمر، أي العاملين في مرحلة ما بعد خروج الطوب من الفرن ولا يعرف هذه المسميات سوي العاملين بالمجال، كل قسم مستقل بذاته، وله معلم خاص به يحاسب عماله ويعطيهم اليومية.

 

 

عمالة الطرف الأخضر تقتصر علي الرجال حيث التعامل مع اللوادر والآلات والفرن، أما السيدات والفتيات مسموح لهن فقط بالتواجد ضمن عمالة الطرف الأحمر..

 

 

بعد منتصف الليل بساعة أو اثنين -علي حسب مسافة بيت كل منهن وبعده عن الورشة-، تخرج العاملات إلى المصنع في أسراب، كل ثلاث يتفقن مع سائق "توكتوك" لنقلهن، يخترن السائق من أهل القرية، لابد أن يكون معروفا ومحل ثقة، يدفعن له عشرة جنيهات يوميا مقابل رحلة الذهاب والعودة، وهذا أجر زهيد، فالمصنع يبعد كثيرًا عن بيوتهن، والتوكتوك ينقل بعضهن من عزبة عمرو وعزب بعدها تابعة لمحافظة كفر الشيخ إلي قرية الشمامسة التابعة لمحافظة البحيرة.

ويبدأ العمل في الثالثة قبل الفجر وحتي طلوع النهار، حيث استراحة لا تتجاوز نصف ساعة لتناول وجبة الإفطار، بعدها يتواصل العمل حتي الواحدة ظهرًا، تسع ساعات عمل صافية ليس فيها دقيقة واحدة مهدرة.

كل فتاة منهم لم تتزوج تظل تعمل حتي الزواج ولا تعد لهذا العمل مطلقًا إلا بعد تدهور حالها أسريًا.

 

 

رحلة البحث.. مَن تكشف لنا عالم عاملات الطرف الأحمر؟ ولماذا تخشى العاملات في مصانع الطوب أيا كان سنها التصوير أو تواجد الإعلام؟

تجيب سلمى - 14 سنة: "هتنزلوا كلامنا وصورنا على النت ونتفضح" ، بينما قال عامل شاب: "عندنا هنا ممكن البنت تتعاير بالموضوع ده ولا أحد يرتضي الزواج منها، والبنات هنا تتحمل مسئولية نفسها لفقر الأسرة فبمجرد أن تتم إحداهن العاشرة تخرج للعمل في الورشة مع أقرانها حتي تبدأ في تجهيزات الزواج التي لا تستطع الأسرة توفيرها، هنا لا مجال لرفاهية التعليم".

 

 

 

 

تحدي الوصول لـ100 جنيه يومية.. عمل شاق والحساب بالإنتاج.. وفي مصانع أخرى باليومية..

في بعض المصانع يتم حساب يومية عمال الطرف الأحمر ب20 جنيه مقابل لكل ألف طوبة يتم حملها للسيارات حمولة تلو الأخري.. ويتمنين الحصول علي مائة جنيه كاملة لكن يحكمهم إنتاج وطلبيات اليوم بحسب ما يخرج من الفرن.. ومصانع أخرى اليومية بـ70 أو 80 جنيها بالاتفاق حتي لو نقلت الواحدة منهن 7000 طوبة، بحسب ما قالت راوية التي تعمل في مصانع الطوب منذ 20 عاما، حيث أوضحت أن هذه الحسابات يحددها المعلم مقاول الأنفار بمعايير المكسب الخاص به.

أما عن الحساب بالإنتاج: من تستطع نقل 5000 طوبة تحصل علي 100 جنيه في هذا اليوم، ونقل هذا الرقم صعب جدًا في تسع ساعات، فتحقيقه يعني حمل وزن  يتخطي 7575 كجم، من داخل المصنع لخارجه بواقع ثلاثين طوبة للمرة الواحدة  بما يزن 46 كجم حملًا علي الرأس، أو نصف تلك الحمولة علي الكتفين، فالحمولة علي الرأس أفضل في عدد الطوب المنقول، أحيانا يحملن ٢٤ طوبة وأحيانا  ثلاثين  فكلما زاد عدد الطوب قلت مرات الذهاب والعودة، والتي تصل لـ334 مرة.

 

 

 

أيادٍ ناعمة رغم قسوة العمل.. وراوية: مرضيتش أتجوز غير لما أجوز إخواتي البنات أنا باعتبر نفسي راجلهم

ترتدي بعضهن قفازات من البلاستيك السميك للحفاظ علي نعومة وجمال أيديهن حيث تطغي شخصية الأنثي، رغم العمل الرجولي فيعملن مع الرجال  بهذا العمل القاس دون تفرقة بل يتفوقن علي الرجال في حمل عدد أكبر من الطوب حينما يقررن أن تكن الحمولة علي الرأس لا الكتفين.

أجواء من الفكاهة و"الأكشن" تسد العمل مع تحفظات من المعلم المشرف علي العمل وأمره لهم بعدم إضاعة الوقت وإلا ينهال عليهم بأفظع الشتائم، طريقة صعبة في التقاط أول صف طوب مكون من ستة قوالب علي لوح خشبي عن بعد، رغم إمكانية الإصابة من سقوط الطوب علي الأقدام.

حيث أوضحت راوية ذات ال 35 عام: بدأت في هذا العمل الشاق منذ أن كنت في العاشرة، وكثيرًا ما تحدث لنا إصابات لو لم ننتبه أثناء التقاط الطوب أو لم ينتبه "اللي بيحدفه لينا لو الطوب جه في وش واحدة فينا يضيعها.. أنا أتصابت قبل كده وخيطوا رجلي 15 غرزة لكن هنعمل إيه لازم نشتغل أحسن ما نمد إيدنا لحد ونقوله ادينا" واستكملت: "أبويا معلمناش لأنه كان شغال بيجمع المحاصيل باليومية وكان يا دوب بيأكلنا وكنت بانزل أشتغل معاه وأجمع القطن من وأنا عندي 5 سنين ومات وسابنا 4 بنات فرفضنا إن أمنا تخرج تشتغل واشتغلت أنا وإخواتي وساهمت في جهاز اثنين منهم وجوازهم ونفسي أجوز اختي الثالثة وكل ما عريس يجيلها ترفض بسبب ظروفنا المادية.. وانا مش مهم اتجوز احنا مالناش أخ وانا بعتبر نفسي راجلهم وكلام الناس مش مهم طالما باشتغل وارجع بيتي بأدبي وشرفي واللي بيتكلم عننا وحش عشان بنخرج بعد نص الليل لشغلنا لو قعدنا من الشغل هيصرف علينا؟ الناس مش سايبينا في حالنا رغم اننا بنخرج في عز البرد وبنكون نفسننا نرتاح وننام".

 

 

 

وراء كل عاملة كبرت أو صغرت معاناة بطلها الاحتياج، ولكل منهن حلم يكاد يتشابه كما هو حال المعاناة، كل عاملة تحلم ببيت وأولاد تكون حظوظهم أقل قسوة وخشونة من حظهن في مصانع الطوب .

 

 

أم احمد: "نفسي أعلم بنتي وأجوزها عشان ماشغلهاش وتتعذب زي انا ما اتعذبت".. وبدور: "نفسي اعلم عيالي واخليهم حاجة كويسة" ونانسي: "أمي قالتلي هربيكي واجوزك حتي لوهبيع هدومي ومكانش ليا نصيب أكمل تعليمي.. كل واحد ونصيبه في الدنيا ديه".

تقدير واعتراف بأهمية التعليم رغم كونهن جمعًا لم ينلن حظًا منه.. جميعهن حريصات علي تعليم الأبناء حتي لو تكلف ذلك الكثير من الشقاء والتعب في أعمال تحتاج مجهود قاس.

فقالت بدور التي تبلغ من العمر 43 عام: "عندي 3 أولاد أكبرهم عنده 17 سنة وخرج من التعليم وبيشتغل يساعدني من بعد وفاة زوجي من سبع سنين ومعايا نور في 5 ابتدائي واحمد في 3 ابتدائي نفسي اعلمهم ويبقوا حاجة كويسة".

 

 

 و تروي  فاطمة محروس التي ينادونها أم احمد قصتها حيث  تبلغ من العمر 55 عاما فهي أم لأربعة أبناء طلقها زوجها ولم يتحمل معها مسئولية الأبناء فمنهم بنتين زوجت إحداهما والأخرى في الصف الثاني الإعدادي أما الأولاد فتزوجوا وكل منهم يحمل مسئولية نفسه بالكاد.. تقول: "اشتغلت في خدمة البيوت ومصانع الهريسة ومصانع الطوب ومحتاجة عملية في عيني وعملية البواسير ومعيش فلوس يا دوب باكفي المعيشة وأسدد ديون جواز بنتي الكبيرة".. وعن أحلامها قالت : نفسي اقعد مرتاحة في بيتي وربنا يديني اعلم بنتي  اللي فاضلة وأجوزها.. أنا باعلمها عشان ماشغلهاش وتتعذب زي أنا ما اتعذبت كده."

 

 

 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز