عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ريهام رأفت سليمان تكتب: ومضات ذات أثر

ريهام رأفت سليمان تكتب: ومضات ذات أثر
ريهام رأفت سليمان تكتب: ومضات ذات أثر

(قصة قصيرة)



 

ينعكس ضوء شمس النهار على سطح الجدار، وطائر من جنس الجوارح يحوم فوق إحدى البنايات ويصدر صوتًا غير مألوف، السحب ملبدة، والشبابيك موصدة، خوفًا من لسعة برد الشتاء، أو اختراق  الرياح منازل الناس.

يحاول أن يجد مخرجًا لشخصه القابع في متاهات ذهنه، وأسئلته غير المجدية، يحدق في السماء ويستجمع بحواسه المشهد السابق كاملًا.

يدور من شدة انتباهه ويغرق في غفوة متوسطة لا زيادة فيها، فتكون نومًا ولا نقصان لا يحسب.

يرى أثناء غفوته ذلك النسر تزيد قوته عن الواقع الشيء الكثير، ويرى نفسه مقذوف في صحراء سرمدية، والشمس تضيق على بصره بأشعتها المركزة هدفها نحو عينيه ورأسه تمامًا مباشرة.

يظهر له من العدم شخص يلف حول رأسه شالا ملونا، يشبه ذلك الذي يرتديه البدو ساكنو الصحراء.

يسأله عن سبب وجوده في هذا المكان، فيصدم أول الأمر بصوته الغليظ ولهجته الجامدة الصلبة، التي تبعث في القلب القلق والنفور، يستمر في صمته الذي فرضته عليه الصدمة!

فيعيد الغريب ذو الهيئة البدوية سؤاله من جديد: ما اسمك؟

هذه المرة ينتبه: اسمي ثائر، لا أعرف لماذا أنا هنا.. يتردد ويتلعثم في الكلام ثم يقول.. النسر!

لا يفهم منه الغريب شيئا، يرمي إليه نظرات صارمة، ثم يقول.. اتبعني!

يستيقظ من غفوته، يجد ساعته مكسورة، دون أن يلمسها أحد، فيغيب فترة عن الزمن.

يشتد ألم عظامه فيلجأ للمسكنات، ويأوى إلى مكتبه، لينشغل عن أوهامه بالعمل.. فيقطعه عليه رنين جرس الباب.

أحد عمال الهيئات الحكومية، يطالبه بحصته التي قدم مقابلها خدماته.

يغلق الباب ويعود.. يستقبل رسائل زملاء العمل، وبريدًا من مجهول، تابع لمحل عمله ربما كان واحد من المؤسسين، الذين لا يظهرون أبدًا، يخبره  في البريد أنه مكلَف بالسفر إلى واحدة من المدن العربية، غير المؤهلة عصريًا.

تحل ظلمة الليل وهو غارق بين أفكاره، تزوره بين اللحظة والأخرى ومضات من حلمه، الذي ظل يحمل أثره حتى بعد مرور ساعات على استيقاظه، عجب لنفسه وتساءل لماذا ذكر للبدوي في حلمه أن اسمه ثائر، رغم أن اسمه في الحقيقة ليس كما ذكر؟ سرعان ما تلاشى ناقوس السؤال من فوق رأسه، إذ هو في الأساس لم يكن يؤمن بوجود مثل هذه العلامات الغيبية التي يهتم لها الآخرون.

يجهز لسفريته ويرتب منزله لغيابه، الذي لا يعرف إلى متى يمتد.

مقبل على بلد لا خبرة  له بها، يقابل ويسأل ويعد التقارير اللازمة لعمله.

نزل بمنطقة جبلية، وتحتم عليه أن يخيم حيث نزل، ويتأقلم على أحوال المكان، رغم نواقصه التي تقترب من وجود اللاشيء.

الفراغ الذي أحاطه ألهمه بأفكار جمة وزاد السؤال في إلحاحه، ما جدوى الحياة؟

يقطع عليه نغم السؤال صوت النسور، إنها قريبة مرعبة، تلائم رهبة المكان المعبأ بضباب الساعات الأولى من الصبح، دخان كثيف، يلزمه خيمته حتى ينجلي فيقدر على الحركة والانتقال،

يشق ضوء الشمس ثنايا خيمته، معلنًا وقت الخروج، يسير وحيدًا إلا من حقائبه، ومسجل الصوت رفيقه وشاهده الأول على قصته.

يقطع مسافة ثم تستوقفه رائحة اشتعال شيء ما، تدل على وجود أحدهم غير بعيد عن مركزه، يتتبعها، فيصل إلى مجالس تتوسطها شعلة نارية، يحيط بها رجال يصعب التحقق من ملامحهم، حتى لهجتهم غير مفسَرة لغريب!

ينظرون إليه بعيون نصف مغلقة، نظرات جامدة ذكّرته بنظرات الرجل الذي شاركه حلمه غير المكتمل، يقف أحدهم ويسير خطوتين في اتجاهه، بينما آخر يحاول أن يزود النيران ببعض الحطب.

يحاول أن يجمع المشهد ويركز بصره على كل حركة وإيماءة، يقترب الرجل منه ويقف محافظًا على مسافة قصيرة تسمح بتبادل الكلام، يعرفه بنفسه وأسباب مجيئه - دون أن يخبره اسمه- فقط عرّف موطنه وعمله.

يشير إليه بيده أن يتبعه، لم يهتم أحد بمعرفة اسمه، أو ينتبه أنه لم يقله من البداية.

دون أن ينطق جالسهم، تعرف إليهم بصعوبة، وفطن إلى أنهم جماعات مغلقة، لها أسرار، لهجتهم من أصل لغة عربية عُدلت إلى حد انفصالها عن أصولها، لتناسب انغلاقهم، لهم عادات قديمة غير مبررة.

تثيره أمور فيسأل عنها، فيحصّل إما جواب وإما صدمة!، حياة مختلفة لكن فيها ماهو شاذ وواجب تغييره، بالقياس إلى ما يليق بالحياة الإنسانية وليس إلى أعراف خارجية، يذكر نفسه دائمًا بحدود دوره ومهمته، يحاول ألا يغرق في عالمٍ كهذا، لكن شيئًا ما كان يجذبه.

النساء يعاملن بجفاء قد طال أرواحهن وقبع فيها، كل شيء هناك مستخدم بطريقة ما، بتعدد المسميات التي تغلف الأمور، وتغطيها، لا تعليم، فقط أمور تورث لتكون عونًا في مواجهة القادم. 

يلح السؤال أكثر: ما جدوى الحياة؟

يرافقه كالهاجس، الشمس، عبور النسر، ووجه الرجل البدويّ، الاسم  المبدل، يغفو ويصحو ولا يكتمل، تأتيه صورة  فتاة تعلو وجهها ابتسامة، كلما سمع ورأى في هذا المكان تزداد كوابيسه وأفكاره، يحاول أن يقنع نفسه بمحدودية أيامه، فيسجل ويعمل بنشاط.

يعرف أن أي محاولة للاحتكاك بقيود هذا المكان لن يُجنى منها سوى ضحكات عالية على أشلاء جثته.

لكن ما المانع من المجازفة؟، إن الحياة بالنسبة له كانت دائمًا ورطة!

الوقت مناسب، والإرادة كاملة يريد أن يعلمهم شيئا يخفف من حدة قلوبهم في معاملة الأشياء، خاصة نساء مدينتهم!

تصادق الأحداث إرادته، تبعث له بفتاة تشبه التي تبتسم له في الخيال، فطرتها لم تزل على خيرها غير قاسية، مهما أظهرت عكس ذلك، رأت فيه اللطف من محاولات تتبع ومراقبة بعدد الأيام التي مكثها، بصعوبة يتواصل معها، يهبها ثقة لا يعرف من أين تأتي، تشاركه " مُغيّرة"  -وهو اسمها-  سرًا حكايته، تساعده فيما يريد من تبديل.

 يحاول أن يعلمهم شيئا أن يترك  فيهم ما لا ينسى، بطريقة غير معلنة يزرع.

يصل إلى بعضهم، ويتجنب آخرين لشراستهم، لكنه وبطريقة ما ينجح.

يعرف أنها بداية يتكفل بتوابعها الآخرون، ممن أجادوا العمل والتعلم.

 لا يمكن أن يكون عبوره بين هؤلاء بغير معنى، هذا ما أورده عليه دماغه المحترق من تعاقب المشاهد، وتداول الأفكار. 

الساعات الأخيرة، يستعد للعودة إلى حياته، محمّلًا بجديد له ولعمله.

في مشهد لا يحتوي سوى اثنين هو وآخر يلف شال على رأسه، يوقفه لحظة استعداده للرحيل، منتبهًا يسأله عن اسمه.

يبتسم ثم يقول: اسمي.. اسمي "ثائر".

ثائر الذي يثور عقله ووجدانه، إذا ما رأى جمالًا في شيء، فيحاول أن يزرعه بخفة وذكاء النسور.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز