عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

رمضان زين الزمان ( 2 )

رمضان زين الزمان ( 2 )
رمضان زين الزمان ( 2 )

كتبت - د. عزة بدر

ليلة الرؤية



 

تنطلق أصواتهم مغردة شجية أمام مسجد الحسين- رضى الله عنه- يتردد صداها في أرجاء المكان، لأصواتهم طعم الرجاء، تلهج بالدعاء والذِكر.. تتوالى مواكبهم وفى وجوههم الفرحة فالليلة هي «ليلة الرؤية.. الليلة الخالدة في تاريخ عبادة الصوم، ولها مكانة خاصة في قلوب المسلمين، تولد فرحة هلال رمضان فترفرف الأفئدة كالحمائم ويتردد الصوت العذب «أهلًا وسهلًا يا رمضان.. شهر الصوم والقرآن».

 

في الموكب

الوجوه المصرية الصميمة، الريفيون بعماماتهم وجلابيبهم، والأزهريون بملابسهم المميزة.. بالقفاطين، يحيطون رءوسهم بالشيلان البيضاء، والشباب بملابسهم الأفرنجية يحملون البيارق والأعلام وقد نقش عليها لفظ الجلالة واسم النبي «صلى الله عليه وسلم»، كما طرزت على حواف البيارق من الجهات الأربعة أسماء الصحابة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

إنه موكب أهل الطرق الصوفية جاءوا من مختلف أنحاء مصر يحتفلون في رحاب الحسين بقدوم شهر رمضان ويغنون: «جيناكم.. جيناكم.. طلبنا رضاكم.. لولا فضل الله علينا ما رأيناكم».

الموكب الصوفي هو الأثر الباقي في موكب الرؤية أحد الملامح الاحتفالية الشعبية بليلة الرؤية.

أتأمل ما كتبوه على البيارق والأعلام التي صارت ترفرف أمام المشهد الحسيني: «أهل الطريقة المحمدية» وشيخها سليمان سامي محمود من وراق العرب، وعموم السادة البرهامية وشيخها محمد علي عاشور من بيت قايتباي، ومضى أهل الطريقة الرفاعية يشد بعضهم بعضًا يحملون أعلامهم عن أولاد الشيخ الشريف الرفاعي من المطرية، أما السادة البيومية الصوفية فقد أتوا من عزبة بخيت بمنشية ناصر وهم يذكرون «الله حي.. الله حي».

يؤازرهم أبناء الشيخ محمد يوسف من الأقصر وقنا.. موكب الرؤية الذي يصل الماضي بالحاضر ويصل الفرع بالجذور، احتفال نادر يستوقف المارة وعدسات التصوير، أرقب ألوان البيارق: الأخضر والأحمر والأصفر، أتتبع أسماء الطرق الصوفية وتنسيبها فهناك الطريقة الزاهدية، والسادة الأحمدية الشعيبية وشيخها الشعيبي من سلالة بني شيبة سدنة الكعبة المشرفة، والسادة البيومية وغيرها.

موكب يحيي أفراح ليلة الرؤية حيث يستطلع المسلمون هلال رمضان فإذا رأوه في هذه الليلة أصبحوا صائمين، وإذا لم يروه أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته».

 

فرحة الهلال

وحيث تثبت الرؤية إذا رأى هلال رمضان شاهدًا عدل ويمكن الاستعانة في الرؤية بكل الوسائل العلمية الحديثة كالمناظير المكبرة وغيرها وللعلماء رأيان في بدء الصوم، تبعًا لرؤية الهلال، الأول: هو أن رؤية الهلال في أي بلد من بلاد المسلمين تقتضي صومهم لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد متى بلغهم خبر رؤية الهلال وكان يجمعهم جزء من الليل وذلك جمعًا لشملهم في عباداتهم وأعيادهم وبداية صومهم ونهايته

والثاني: أنه يعتد بأن لأهل كل بلد رؤيتهم ما داموا بعيدين عنهم ولا يتفقون معهم في خط طول واحد، ولكن تبقى الفرحة برؤية هلال رمضان في أي بلد فرحة الجميع الذين ينتظرون الشهر الكريم ويتلقون بشرى قدومه بكل الشوق والحنين فهو شهر القرآن وخير شهور العام.

 

في المشهد الحسيني

تطلعت إلى حلقات الذِكر من خلال فتحات الشبابيك من مكان صلاة النساء في جامع الحسين.. رأيتهم يذكرون.. يمسكون بأيدي بعضهم البعض، وقد ارتدوا عباءات بيضاء وطواق بيضاء، تهتز أجسادهم ذات اليمين وذات اليسار يسبحون: «الله.. الله».

يتحلقون في حلقات داخل المسجد، وكان ثمة أغنيات جميلة أرهف السمع إليها تصلني من خارج المسجد فينشرح لها الصدر وتتفتح القلوب، فإذا بالمنشد رهيف الصوت يهمس حتى يرتفع صوته شيئًا فشيئًا في مناجاة أشبه بالحلم «أشرقت أنوار محمد فاختفت منها البدور، مثل حسنك ما رأينا قد طوى وجه البدور، أنت شمس، أنت قمر، أنت نور فوق نور» فتعظم في عيني غناؤهم وهو يدخل القلب شاهق البياض في عتمة الليل، صوت واحد من قلب واحد يمرق كالسهم يعرف طريقه إلى القلوب يذكرون ويسبحون ويحمدون ويثنون على النبي- صلى الله عليه وسلم- بما هو أهله، ويذكرون سبطه الحسين سيد شهداء الجنة، ها هو المشهد الحسينى الذي يقسمون بحياته الطاهرة واستشهاده، ألم تقل أمينة لسي السيد «وحياة سيدنا الحسين يا سي السيد؟ ألم تقسم بحياة الشهيد الذي يحظى بحب أهل مصر؟ ألم تخالف «أمينة» نجيب محفوظ أوامر سي السيد لأول مرة في حياتها لتزور الحسين؟ فكيف لا تتوافد مواكب الاحتفال بالرؤية إلى المشهد الحسيني من كل قرى ونجوع ومدن مصر كلها؟

هنا في قلب القاهرة الفاطمية تسير المواكب كما سارت عبر الزمن.. احتفالات دينية وشعبية وصفها الأجانب والرحالة والمؤرخون، حيث كان موكب الرؤية يتكون من موكب المحتسب ومشايخ الحرف المتعددة كما يقول «إدوارد لين» في كتابه «المصريون المحدثون» فيسير في الموكب الطحانون والخبازون والجزارون وباعة الفاكهة وآخرون من ممثلي هذه الحرف وفرق من الموسيقيين تتقدمهم فرق من الجنود من القلعة إلى مجلس القاضي وينتظرون هناك عودة أحد المرسلين لرؤية الهلال وتزدحم الشوارع التي يمر منها هذا الموكب بالمشاهدين على الجانبين، وقد جرت العادة في هذا الوقت أن تقاد خيول مسرجة بأجمل السرج في هذا الموكب، ويتناجى الجميع بأصوات عذبة: «الصلاة.. الصلاة.. صلوا على النبي عليه الصلاة والسلام»، وعندما يصل خبر رؤية الهلال إلى مجلس القاضي يقسم الجنود والمجتمعون أنفسهم إلى عدة فرق تعود إحداها إلى القلعة ويجول الآخرون في الأحياء المختلفة صائحين: «يا أمة خير الأنام.. صيام.. صيام» فإذا لم يروا الهلال يقولون: «غدًا من شهر شعبان فطار.. فطار».

 

من مرصد حلوان السلطاني

لقد كانت لليلة الرؤية دائمًا طقوسها وكان الاحتفال بها على مر الزمن دليلًا على قدسيتها ومكانتها في النفوس، حرص الناس والحكام في مصر على الاحتفاء بها وتبجيلها وكان الاحتفال برؤية رمضان في مصر، يتم في دار المحكمة الشرعية العليا فيعلن رئيسها الرؤية وتخطر بذلك وزارة الداخلية رسميًا وتتولى إبلاغ القصر الملكي، ثم يذاع ذلك في المديريات والمحافظات، وفي الحال تطلق المدافع وتنار مآذن المساجد إيذانًا ببدء الصوم، ففي السنوات الأولى من القرن العشرين كان موكب الرؤية يجتمع في محافظة القاهرة ويهلل ويكبر سائرًا إلى المحكمة الشرعية، حيث تسير في الموكب أورطة من البيادة تتقدمها موسيقاها وعند ثبوت الروية تطلق المدافع تبشيرًا برؤية الهلال.

أما احتفال المحكمة الشرعية العليا فكان احتفالًا جليلًا يحضره العلماء والعظماء وكبار القوم ورئيس المحكمة الشرعية العليا أو نائبه ووكيل المحافظة ووكيل الأزهر وبعض القضاة كما كان يحرص على حضور هذا الاحتفال الضيوف العرب كمندوب جلالة ملك اليمن والقائم بأعمال المفوضية السعودية ومفتي ليبيا، ويتم في هذا الاحتفال باستطلاع رؤية الهلال إلقاء القصائد العصماء وفي أثناء ذلك كانت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية حتى قدوم شاهدي الرؤية فيعرضان شهادتهما حول رؤية الهلال، وبعد ذلك يتقرر الصيام إذا ثبت رؤية الهلال، ثم تدور الحلوى والمرطبات على المدعوين ويخطر في الحال القصر الملكي والمحافظة ووزارة الداخلية.

ومن الطريف أن المحكمة الشرعية العليا كانت تحرص في أواخر شهر شعبان على نشر إعلان في صحف هذا الزمان يحث سائر المهتمين أن يعنوا برصد الهلال عناية تامة وألا يتعجلوا في شيء من أمر رؤيته أو عدمها إلا بعد التحقيق لما يترتب على شهادتهم من الحكم الشرعي في ركن من أركان الدين.

كما كانت وزارة الأوقاف تطلب من المؤذنين في المساجد الكبرى المشهورة في القاهرة رصد الهلال، أما المحكمة الشرعية العليا فكانت تطلب من قسم الطبيعيات التابع لوزارة الأشغال العمومية بتكليف من يرصد هلال رمضان من مرصد حلوان السلطاني.

 

احتفالات رغم أنف الإنجليز

وعندما تثبت الرؤية يتم الإعلان في الصحف عن مواعيد التشريفات الخديوية أي مقابلات الخديو في سراي عابدين حيث يستقبل وفود المهنئين فيحدد لكل رتبة ولكل مقام موعد المقابلة بالساعة والدقيقة.

كما كانت الصحف تنشر بلاغ وزير الداخلية بتمهيد الوسائل والاتفاق مع السلطة العسكرية لإزالة بعض القيود للتسهيل على الناس في مصر الذين يحيون ليالي رمضان، فكانت تصدر الأوامر إلى المناطق العسكرية بضرورة إقناع جنود الإنجليز بما لهذا الشهر الكريم عند المسلمين من المكانة والحرمة الخاصة به، كما كانت تصدر الأوامر بعدم التضييق على المسلمين في استعمال الأنوار بمساكنهم وعدم التعرض لهم في غدوهم ورواحهم مع احترام ما جرت عليه العادة من حيث تمضية ليالي هذا الشهر المبارك كلها أو بعضها في المطاعم والمقاهي.

 

شال كشمير

أما إذا كانت ليلة الرؤية قد وافقت يوم الجمعة فإن الملك ورئيس الديوان الملكي ووزير الأوقاف ومدير المساجد يحضرون صلاة شعائر الجمعة.

وإذ يشعرون بتهدج صوت الخطيب وفرحته بليلة رؤية هلال رمضان فإن الملك يصافح خطيب المسجد بعد خطبة عن أسرار الصوم، بينما يقدم ناظر القصور الملكية الهدية الملكية لخطيب المسجد وهي شال من الكشمير قد تناقلت أخباره الصحف، وقد حظي به خطيب المسجد الأشرف الشيخ حسين حسان وحصل عليه من إبراهيم فؤاد بك ناظر القصور الملكية في عهد الملك فاروق.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن أول حديث ديني من دروس رمضان الدينية كان يتم في قصر رأس التين ويلقيه مفتي الديار المصرية.

أما خطيب المسجد السكندري فقد انحاز لزعيم الأمة مصطفى النحاس باشا، فكانت خطبة الجمعة التي وافقت ليلة الرؤية عن فضائل الصوم واحتفالًا برؤية الزعيم فقال الخطيب: «إنه لإسعاد لي ولكم وشرف نالني أن يكون بيننا زعيم الأمة فيشاركنا درسنا».

 

كما ذكرت صحف عام 1944م

وزارة الشعب وبرامج رمضان

ويبدو أن الاهتمام ببرامج الإذاعة في رمضان هو عادة قديمة وامتياز خاص بهذا الشهر المبارك، فكانت الصحف تنشر أوامر «وزارة الشعب»- الوفد- بأن تكون برامج الإذاعة في رمضان ممتازة، وبمجرد ثبوت رؤية الهلال أو حتى نشر خبر استطلاعها كان يتم الإعلان عن رصد مبالغ مالية تقارب أربعة أضعاف ما يرصد لها في الأشهر العادية.

واختلطت أسمار ليالي رمضان وأنباء برامج الإذاعة بأخبار الحرب العالمية الثانية! فقد كان الحلفاء على أبواب باريس والألمان قد خسروا في نورماندي 400 ألف قتيل وأسير وجريح، وكان الأمريكيون قد وصلوا إلى «رامبوييه» و«سان أرنو» وأصبحوا يرون برج إيفل بالعين المجردة، كان نصر الحلفاء يوشك أن يتحقق بعدما روعت أصداء الحرب سكان القاهرة فرحل بعضهم إلى حي الحسين احتماءً بوجود الحسين وطلبًا للأمان بعد الخوف، ألم يقل الأب لابنه في رواية «خان الخليلي» لنجيب محفوظ: «هذا الحي في حمى الحسين رضوان الله عليه وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين، هنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به جارًا ومجيرًا».

 

تحت الميكرسكوب

وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، لم تَحَل وزارة الوفد، ولا ما أعقبها من وزارات دون رؤية الواقع المصري تحت الميكروسكوب، لم تفلح أسمار رمضان ولا برامجه المسلية أن تحول دون رؤية هلال الحق بل أهلة الاستقلال والتخلص من ظلام الاحتلال، توار شال الكشمير هدية الملك! ولم تحسن صورته ولا التشريفات الملكية، ولا حرصه على حضور الدروس الدينية.

فلقد بزغ هلال الرؤية، هلال رمضان عام 1951م، وحصحص الحق وارتفعت أنات الناس قاسية ملحة، فمنهم من يقول: «صلوا وسلموا على شهيد الكادحين وإمام المتفانين في خدمة مصر، صلوا وسلموا على ضحية الإهمال المزري سواء من قبل حكومته أو من قبل القادرين على انتشاله من وهدته، صلوا وسلموا أيها الناس على الفلاح المصري مطعمنا وكاسينا فهو جدير بالصلاة عليه.

مصانع في قلب القاهرة تحت سمع الحكومة وبصرها لإنتاج ششم الديك من الدقيق، وتصنيع الملح الإنجليزي من الملح الجبلي وزيت الخروع من السيرج، وتصدير هذه السموم ومواد العمى إلى المدن والقرى والدساكر وتجد لها موزعين ووكلاء ووزارة الصحة وإدارات البوليس تغط في نومها»!

ففيم يدفع المواطن الضرائب إذ هي لم تُصرف على حمايته؟ وبأي حق ترصد ملايين الجنيهات باسم وزارة الصحة إذا هي لم تقم بأول الواجبات المفروضة عليها نحو الشعب»؟

هكذا كتب محمود حسني العرابي على صفحات جريدة "المقطم" يشكو حال أمة لم يظلم فلاحها فقط، وإنما ناسها جميعًا بأيام المحتل، وكأنه قد بزغ هلال رمضان عام 1951م ليفتح العيون التي أرمدها الششم والتي أوجعها زيت القنديل لتتخلص من معاناتها على أنغام الحرية قوية مدوية قد أثارتها ثورة يوليو في النفوس.

 

فوانيس ملونة لغير القادرين

ومع سنوات الثورة الأولى كان الاحتفال بليلة الرؤية يتم في دار الإفتاء بالحلمية الجديدة، وقد اتخذ هذا الاحتفال بعدًا اجتماعيًا واضحًا، فنشرت الصحف أن الإدارة العامة للتخطيط الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية؛ اقترحت تأليف لجنة بكل وحدة اجتماعية تضم مندوبين عن مختلف هيئات الخدمات الحكومية لدراسة ما يمكن أن تقدمه كل هيئة من ألوان النشاط مع طبع البرامج العامة مع إمساكية توزع على الأهالي لمعرفة مواعيد النشاط ليمكنهم الحضور والمشاركة فيها، كأن تزود المنشآت الاجتماعية بالراديو وتفتح للجمهور وتنظيم الندوات والمناظرات في الريف والمدن، وتنظيم حفلات سمر مسائية تتضمن موسيقى وأناشيد وتمثيليات تاريخية وفكاهية مناسبة، وإقامة حفلات الأطفال الشعبية المسائية مع تزويد غير القادرين منهم بفوانيس ملونة، أما موكب الرؤية فقد كان يصل إلى دار الإفتاء قادمًا من دار المحافظة وكان يمثل وحدات الجيش والبوليس وطوائف المواطنين وأرباب المهن تتقدمهم الموسيقى والفرسان بقيادة قائد منطقة القاهرة وحكمدار البوليس أو وكيله، كما كان الموكب أيضا يتم تنظيمه في المحافظات المختلفة، ففي الإسكندرية على سبيل المثال كان الموكب يتكون من القوات البرية والبحرية والطيران والحرس الوطني والكشافة، وكان يبدأ من ملعب البلدية مخترقًا أهم شوارع المدينة وكان محافظ المدينة يستقبل الموكب هو وحكمدار البوليس وشيخ المعهد الديني وكبار رجال المدينة في السرادق الذي أعد خصيصًا لذلك بالقرب من مسجد أبي العباس، فإذا أعلن ثبوت هلال رمضان وتأيد ذلك من القاهرة تضاء مئذنة مسجد أبي العباس إيذانًا ببدء شهر الصوم، أما هيئة التحرير العليا فكانت توجه الدعوة إلى استقبال شهر رمضان بالمقر الرئيسي للهيئة في ميدان الجمهورية.

 

صفارات إنذار في ليلة الرؤية

كانت الثورة تخوض معركة التحرير وكانت العمليات الفدائية في ذروتها إذ نفذ الفدائيون خمسين غارة انتحارية انتقامًا من الأعمال العدوانية التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين في قطاع غزة، ولذا نشر في الصحف ليلة الرؤية 29 شعبان 1375هـ- 11 إبريل 1956م أن صفارات الإنذار تطلق في مدينة القاهرة لاختبار صلاحياتها، وليست تجربة لغارة جوية، ولا يترتب عليها اتخاذ الإجراءات الواجب اتباعها من المواطنين في الغارات الجوية.

وفي هذا اليوم تعذرت رؤية هلال رمضان، حيث حاول ستة من شهود الرؤية الصعود إلى أعلى مكان بمناطق الهرم والقلعة وحلوان، فلم يروه بينما سجل مرصد حلوان في تقريره الرسمي إلى مفتي الجمهورية المصرية أن الهلال الرمضاني ولد ومكث 33 دقيقة في سماء القاهرة! وأن الغيم يعم الوجه البحري والقاهرة وجزءًا من الصعيد.

 

لأول مرة في تاريخ الرؤية

وهنا ولأول مرة في تاريخ رؤية الهلال يعتمد فضيلة المفتي على حساب الفلك في ثبوت الهلال في 29 شعبان 1375هـ- 12/4/1956م على أساس صحة العلم الفلكي في حسابات الأهلة والنجوم.

وقال مرصد حلوان إنه لو كان الجو صحوًا لأمكن رؤية الهلال في جميع أنحاء مصر فثبتت الرؤية على حساب الفلك لأول مرة في تاريخ الرؤية وكان مفتي مصر وقتها فضيلة الشيخ حسن مأمون، وتم الاحتفال برؤية الهلال في دار الإفتاء بالحلمية الجديدة، حيث حضره مفتي الجمهورية والشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف نائبًا عن الرئيس جمال عبد الناصر، كما حضره الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الجامع الأزهر ومفتي ليبيا.

 

أشهر المقرئين في ليالي رمضان

وفي ليلة الرؤية كان يعلن في الصحف أيضا عن برامج إحياء ليالي رمضان في محافظات مصر، بل في الدول الإسلامية أيضا، فكانت وزارة الأوقاف تكلف خمسمائة قارئ بإحياء ليالي رمضان في جميع المحافظات، وترسل مائة من مشاهير القراء إلى بلاد العالم الإسلامي، فسافر الشيخان محمود الحصري ومحمود عبد الحكم إلى الهند وباكستان، ومصطفى إسماعيل إلى المغرب وفرنسا، وعبد الباسط عبد الصمد وإبراهيم المنصوري إلى السودان وطه الفشني إلى الجزائر ومحمد صديق المنشاوي وحجاج السويسي إلى ليبيا، وهم أشهر المقرئين الذين برزت أسماؤهم في الستينيات ولا يزالون حتى الآن من أكثر المقرئين شهرة.

 

.. وخطط للمرور

وفي السبعينيات بدأت تفاصيل جديدة في ليلة الرؤية وفى حياة القاهرة كمدينة ازدحمت بالسكان، فكان يتم الإعلان في الصحف عن تعديل المرور في الشوارع خلال رمضان، لمنع الاختناقات المرورية وأصبحت خارطة المرور في كل عام تتزامن مع إعلان ثبوت الهلال.. فكان يتم دخول السيارات لساحة المشهد الحسيني ومنع مرور عربات النقل البطيء بمفارق الأزهر والغورية، وحتى أصبح الوصول إلى شبرا يحتاج إلى خارطة أيضا! وكان يتم إعلان القادمين من العتبة وما جاورها إلى الجيزة أن يمضوا في شوارع حمدي سيف النصر والبييدق حتى شارع الجمهورية فشارع الشيخ ريحان فميدان سيمون بوليفار فشارع عبد القادر حمزة حتى سيالة الروضة فكوبري الجامعة.

وبدأ هذا الملمح من تعديل المرور ومحاولة تسهيل الاختناقات المرورية أحد ملامح الصحف في ليلة الرؤية وثبوت هلال رمضان منذ السبعينيات وحتى الآن؟

فهل أثر هذا على طقس موكب الرؤية الذي كان يخترق ببهجته شوارع القاهرة؟

ربما.. ولكن كان هناك العديد من المحاولات لإحياء هذا الطقس في التسعينيات حيث كان يخرج الموكب بمجرد رؤية الهلال من قصر ثقافة الغوري حاملًا الأعلام والبيارق طوافًا بشارع المعز لدين الله فيبدأ تجواله من عند باب زويلة إلى قصر الغوري فيعزف العازفون ويرقص أصحاب «التنانير» رقصة «التنورة» المشهورة، حيث تتشكل الرقصات على هيئة فانوس وكان من أشهر من يقدم هذه الرقصة عبد النبي الشهير ببندق ومصطفى الغريب الشهير بأنوس وحسين الضو وغيرهم، إلا أن تمثيل أصحاب الحرف ونماذج من آلاتهم التي كان يتم استعراضها في الموكب قديمًا في القاهرة ومحافظات مصر لم يعد يتم وأصبح في عداد ما انقرض واختفى من طقوس واحتفالات الموكب.

وبقى موكب أصحاب الطرق الصوفية في ليلة الرؤية من ملامحها المميزة والتي يرتقبها الناس كل عام في حي الحسين وهم بأصواتهم الشجية المغردة يذوبون القلوب ويذكرون بتقاليد وطقوس شعبية كانت في الزمن البعيد، وظل الاحتفال بليلة الرؤية في دار الإفتاء احتفالًا رسميًا يحرص على حضوره محافظ القاهرة نائبًا عن رئيس الجمهورية ويحضره شيخ الأزهر والوزراء حيث تتعلق الأبصار والأفئدة بالمفتي وهو يعلن أخبار رؤية الهلال وتحديد موعد الصوم فتولد الفرحة في القلوب في ليلة الرؤية التي حرص على إحيائها الناس والحكام بتقاليد خاصة تصل الماضي بالحاضر، والجديد بالجذور ليظل لليلة الرؤية هذا البهاء الخالد على مر الزمن.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز