عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

مقامات الأسر

مقامات الأسر
مقامات الأسر

كتبت - هند سلامة

يأتي الأسر من فرط العشق، فالعشق وصول المشاعر إلى ذروة الحب، وعادة في تناول الأعمال الصوفية خاصة عند التطرق لأحد كبار أقطابها محيي الدين بن عربي الملقب بإمام العارفين لديك خيارين لا ثالث لهما، إما أن تقع في حب وعشق يوصلك إلى مرحلة الأسر، وإما أن تنفر وتعزف عن متابعة العمل الفني بسبب سطحية وسذاجة الطرح وشتان بين الشعورين.



في المسلسل السوري "مقامات العشق"، الذي يعرض ضمن الدراما الرمضانية على القنوات العربية هذا العام يتناول العمل رحلة حياة ابن عربي في سرد درامي آسر وبديع للبيئة التي نشأ فيها هذا العارف الجليل فمن الحلقة الأولى ستقع في حب العمل ثم حب والد الرجل ثم التعلق والشغف بالمتابعة إلى أن تصل إلى عشق العمل بإدمان متابعته واستمرار المشاهدة، وهي المرحلة الأخيرة التي يصل إليها المتصوفون في سلك الطريق إلى الله، لن ترتبط كمشاهد بالعمل الفني ارتباطا تشويقيا فلا تكمن مهارة الكاتب هنا في وضعك بحالة من الإثارة والتشويق كي تخفزك على الاستمرار حتى تعلم نتيجة الصراع أو ماذا سيحدث غدا؟!.. بينما ستسأل ماذا حدث لك؟! هكذا يفعل بك "مقامات العشق" سوف ترتبط به ارتباطا شعوريا من نوع آخر ليس له علاقة بالإثارة أو التشويق بل له علاقة بتدرج نمو مشاعر الحب، حب شخوصه وعشق المعرفة؛ معرفة المزيد عن ابن عربي وعن كيفية وصوله إلى ما وصل إليه من حال حتى لقب نفسه بخاتم الرسالة المحمدية، فأصبح العمل الدرامي دعوة تامة وكاملة للحب نسج فيه المؤلف علاقات حب متعددة ومتشابكة حب الزوجة نور لزوجها الفقيه الإمام علي ثم حب الجارية لأهل بيتها وحب ست الحسن للإمام علي وحب السيدة فاطمة للجميع وعشق الناس لها ثم حب الطفل الصغير الذي شعرت به أمه قبل ولادته "محيي الدين"، الذي جاء وأحيا على لسانه دين الحق من جديد وعشقه لفاطمة وعشقها له، أصبح العمل الدرامي، وكأنه كتابا يقرأ عليك بكرة وأصيلا تطور وتدرج مراحل العشق، نجح بل وتفرد المؤلف في وضعك بهذه الحالة الروحانية الفريدة من الوله والهيام.

 

 

في "مقامات العشق" كتابة وتأليف واطلاع غير مخل على الصوفية بشكل عام واتضح فيه مدى إدراك الكاتب الأردني محمد البطوش ووعيه الشديد بابن عربي بشكل خاص؛ رغم صعوبة السباحة في بحر ابن عربي الذي قال عنه الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه هكذا تكلم ابن عربي.." قراءة الشيخ تتطلب تفرغا كاملا فكان من المستحيل الاندماج في عالم الشيخ من خلال تخصيص ساعتين فقط من ساعات اليوم للجلوس إلى الشيخ ومسامرته ليس أقل من أن تكون مع الشيخ يومك وليلك، صباحك ومساءك، يقظتك ونومك، أن تكون باختصار واحدا من المريدين لا مجرد زائر عابر"، وبالفعل هذا العمل قد يحولك إلى مريد وليس مجرد متابع عابر لحلقاته فلم يعتمد المسلسل خصوصا في بدايته على مجرد ترديد مقولات صوفية أو تغليفه بمقطوعات موسيقية وحركات اشتهرت بها الصوفية في البلدان العربية بينما رسم المؤلف بحكمة وحنكة وجودة فنية حوار ممتع ومشبع يدور على لسان شخوص عمله الدرامي مختزل وغير مبتذل ملم وغير مخل جمع فيه بين علم التصوف والفلسفة وجدل أهل الوجدان وأهل المنطق في سرد حواري كتب بدقة ووعي ومهارة غير مسبوقة فهو يتبع مبدأ خير الكلام ما قل ودل ثم ينساب الحوار على لسان ناطقيه كي يخلق حالة روحية وفكرية قلما ما تتوافر لدينا في الأعمال الدرامية، حوار يجعلك تراجعه وتردده كي تفكر فيه وتتأمل معانيه فهو دعوة للفكر والتأمل وإعادة النظر.

 

 

رسم "مقامات العشق" خطوطا درامية ترسخ لبداية ظهور ابن عربي وأولها قصة الحب أو الكشف التي بدأت بين أبيه وست الحسن أو كورنيكا التي جاءت ساعية لقتله لكنها وقعت أسيرة في حبه ثم بدأ الشيخ علي ابن عربي في تعليمها منهج سلك الطريق إلى الله بالتطهر الداخلي من كل ما يدنس الروح من غل وحقد وكراهية ورغبة في الانتقام فبهذا الصفاء تجلو النفوس، ويتكرر نفس الحديث فيما بعد بين الطفل محيي الدين ومعلمته فاطمة بنت المثني القرطبية التي تقول له "لن تبلغ من الدين ذروته إلا عندما توقر جميع الخلائق ولا تكن بوجهين يا بني فإذا دخلت عند قوما دخلت إليهم بكلك وإذا خرجت من عندهم خرجت بكلك" إلى تتابع ظهور ونضج الفتي وجنوحه للخلوة مكتفيا بعلوم الكشف التي تأتي له وهبا من الله والقرآن الكريم دون تعلم من شيخ أو فقيه، كما قدم ابن عربي للقارئ غير المسلم صورة أخرى لروحانية الإسلام ولمفهوم الجهاد الذي أصابه من التشوه الكثير.

 

 

نسج هذه الأجواء الروحانية الجليلة صناع المسلسل جميعا مع المخرج أحمد إبراهيم أحمد بحركة كاميرته الهادئة الآمنة المطمئنة الباعثة على السكينة والبارزة لروعة الديكور والملابس والإضاءة والأماكن الطبيعية، خاصة أماكن الترحال والخلوة فهو عمل يوقعك في أسر متابعته من الوهلة الأولى لا يكتفي بمجرد التعريف بابن عربي وتسلسل حياته إلى أن أصبح إماما جليلا بينما يحرضك على التفكير ومراجعة نفسك ودينك ودنياك؛ عمل فني يعيد للمسلمين إحياء روح العقيدة بداخلهم فهو يؤثر في حياة متابعيه وليس مجرد عمل درامي صنع لمتعة المشاهدة، لكنه عمل صنع لإعادة المسألة هل ما نحن عليه اليوم من دين صحيح؟!، هل ما يلقيه علينا الشيوخ والفقهاء هو روح الدين وقلب العقيدة أم أننا في غفلة لن ننتبه منها إلا بالموت.. كما تردد على لسانه في سيرته الدرامية "مقامات العشق"، ففي هذا العمل الدرامي الكبير تتلخص أزمة الإسلام والمسلمين ويفتح صناعه لنا طريقا للحل بإتباع دين "الحب" وهي القصيدة التي اتخذ منها ابن عربي منهجا لحياته ويستهل بها العمل الفني يوميا حلقاته، وإذا أردنا بالفعل تغيير الخطاب الديني عن طريق الفن فهذا نموذج يحتذى به في الاتباع بضرورة إعادة تقديم وإحياء شخصيات تاريخية من هذا النوع، وبهذا المستوى الفني الرفيع فمن شأن هذه الأعمال أن تغير وتبدل وجدان الشعوب، وكما قال الإمام الغزالي "المشهد هناك لمن يريد أن يراه".

 

 

شارك في بطولة المسلسل الفنان يوسف الخال في دور علي ابن عربي ويعيد الخال اكتشاف نفسه دراميا بهذه الشخصية الثرية التي تلبسها حتى التصقت به وكأن هذه هي هيئة والده ونبرة صوته وعمق نظرته وإيماءته التي عبر بها خاصة عن حبه لست الحسن بلا كلمات، وكذلك الفنانة نسرين طافش، التي بدت محبة عذبة مريدة وطائعة وأحيانا شريرة وقاتلة جمعت بمهارة بين النقيضين ثم الممثلة القديرة نادين خوري في دور فاطمة القرطبية، التي استحضرت روح الشخصية بإبراز أحوالها الوجدانية، وكذلك مصطفى الخاني في دور الشيخ حامد الذي جمع بين وجهين وجه الشيخ المنافق المستفز بنبرة صوته الرفيعة والتي تشبه كثير من مشايخ اليوم ممن يهتمون بجمع المريدين والأتباع الجهلاء حولهم ثم وجه الرجل الماكر ولكلاهما شأن آخر لديه، والفنان لجين إسماعيل الذي كان لأدائه الهادئ الرصين المدرك والمتشبع للمعنى بما ينطق به من كلمات دور كبير في تصديقه فهو يحمل عبء التحفيز على الرغبة في الاستمرار بمشاهدة المزيد من حلقات المسلسل أو الاكتفاء بحلقاته الأولى التي رحل فيها عنا والده، تميز لجين بإتقان احتوي به المشاهد منذ ظهوره واستطاع التعلق بذهنه في تجسيد شخصية ابن عربي، كما برع كل من عاكف نجم في دور ابن رشد وزيناتي قدسية في دور قاضي مرسية، وكان لمروة الأطرش حضور خاص في شخصية رياح خادمة فاطمة القرطبية وست الحسن من بعدها.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز