عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

رمضان زين الزمان (9)

رمضان زين الزمان (9)
رمضان زين الزمان (9)

كتبت - د. عزة بدر

روائع فنون العمارة في مساجد القاهرة



"شهر به الله يفتح جنة للصائمين.. ويغلق النيرانا.. والله واعدنا به دار الرضا.. طوبى لعبد صامه إيمانا.. بالله يا شهر الهنا.. لا تنسنا واذكر لربك خوفنا ورجانا".

هكذا كانوا يرددون، ويبتهلون في جامع السيدة سكينة حين زرته ذات رمضان، كنت متشوقة لزيارة المسجد الذي يقع في منطقة الخليفة حيث يزدحم المسجد بالمصلين، والمبتهلين خاصة في ليالي رمضان.

والسيدة "سكينة" هي بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، ولدت عام 47هـ، وكانت سيدة المجتمع الحجازي الأولى، فقد كانت أديبة عالمة وشاعرة أيضا.

وقد اختلف المؤرخون في حقيقة وجود ضريحها في القاهرة، وتذكر د. سعاد ماهر في كتابها: "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" أن ابن خلكان قال بأنه قد خطبها والي مصر الأصبغ بن عبد العزيز، فسارت إليه فوجدته قد توفي، وقال بعض المؤرخين إنها أتت إلى مصر مع عمتها السيدة زينب، وإذا كان مجيء السيدة زينب إلى مصر لم يؤكده بعض الباحثين، فبالتالي لم تأت السيدة سكينة معها إلى مصر.

لقد كانت السيدة سكينة أول من أقام ندوات نسائية في القرن الأول الهجري في المدينة المنورة، وتذكر د. سعاد ماهر في كتابها أنه إذا كان الغرب يفخر بندوات النساء العلمية وصالوناته في القرن الثامن عشر فإن العرب قد سبقوا الغرب بعدة قرون، فلقد كانت المجالس الأدبية للسيدة سكينة في المدينة المنورة في القرن الأول الهجري، وكان الشعراء ومنهم" الفرزدق وجرير وجميل وكثير" قد ذهبوا إليها في موسم حج، يحتكمون إليها في من يكون أشعرهم؟ كما كان في مجالس أدبها وشعرها، من العلماء والفقهاء من الرجال، وكان الكثير من الشعراء يطلبون الإذن منها لينشدوها أشعارهم.

وقد اختلف الرواة في عدد أزواج السيدة سكينة، فمنهم من قال إنها تزوجت مصعب بن الزبير ثم عبد الله بن عثمان بن عبد الله ثم زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، أما المراجع الشيعية فتقصر زواجها على ابن عمها عبد الله بن الحسن.

والمسجد الموجود حاليًا في القاهرة يقع في حي الخليفة، ويرجع إلى عهد عبد الرحمن "كتخدا" سنة 1173هـ، والذي عني بتجديد جوامع آل البيت ومنهم السيدة "زينب" والسيدة "سكينة" والسيدة "عائشة"، أما بالنسبة لمسجد السيدة "سكينة"، فقد جددته وزارة الأوقاف 266هـ في القرن الثالث عشر الهجري، وعلى باب المقصورة النحاسية نجد لوحة تذكارية، مؤرخة بعام 1266 ه.

 

جامع السيدة عائشة

أما جامع السيدة عائشة بالقلعة فقد سمي باسم السيدة عائشة بنت جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر من نسل الحسين، وقد توفيت السيدة عائشة بمصر عام 145 ه ودفنت بها، وقد ظل قبرها حتى القرن السادس الهجري مزارا بسيطا يتكون من حجرة مربعة تعلوها قبة ترتكز على صفين من المقرنصات، أما في العصر الأيوبي فقدتم إنشاء مدرسة بجوار القبة وذلك أنه عندما أحاط صلاح الدين الأيوبي عواصم مصر الإسلامية الأربع: الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة بسور واحد، حتى يحصن البلاد من هجمات الصليبيين، فصل السور قبة السيدة عائشة عن باقي القرافة فرأى صلاح الدين أن يقيم بجانب القبة مدرسة كما أنه فتح في السور بابا سماه باب السيدة عائشة، وهو معروف بباب القرافة.

أما المسجد فيقع بشارع السيدة عائشة الموصل إلى مدينة المقطم، وقد تهدم المسجد القديم وأعاد بناءه الأمير عبد الرحمن كتخدا في القرن الثامن عشر، وقد كُتب على باب المسجد البحري أبيات شعر تقول "مسجد أمة التقى فتراه.. كبدور تُهدى بها الأبرار.. وعباد الرحمن قد أرخوه.. تتلألأ بحبه الأنوار"، أما القبلي فقد كُتب عليه "بمقام عائشة المقاصد أُرخت.. سل بنت جعفر الوجيه الصادق".

وبالشعر أيضا نُقش على باب القبة ما نصه: "لعائشة نور مضيء وبهجة/ وقبتها فيها الدعاء يجاب"، وقد ورد في كتاب "مشاهد الصفا في المدفونين بمصر من آل المصطفى"، ترجمة وافية للسيدة عائشة، كذلك في كتاب تحفة الأحباب للسخاوي.

 

جامع السيدة نفيسة

"حي على الصلاة.. حي على الفلاح" يتواصل الأذان في القلوب منذ أقدم العصور فتخفق القلوب وتتفتح بين الضلوع وتلهج بذكر الله، "حي على الصلاة" فيهرع الناس إليها.. الله أكبر كلما هل فجر وتوهج أذان، والله أكبر كلما خفق قلب وارتعش بدن، "حي على الصلاة" في مساجد مصر المحروسة، فإذا تعالى صوت المبتهل في ليالي رمضان من مسجد كريمة الدارين السيدة نفيسة رضي الله عنها "مولاي كتبت رحمة الناس عليك، فضلًا وكرمًا.. فالمرجع والمآل والكل إليك عرب وعجم.. مالي عمل يصلح للعرض عليك بل صار عدمًا.. فارحم ذلي ووقفتي بين يديك إن زل قدم".. يهرع الناس إلى المسجد يشهدون صلاة التراويح يزاحم بعضهم بعضا في ليالي رمضان، في مسجد السيدة نفيسة التي حضرت إلى مصر في ليلة السابع والعشرين من رمضان عام 193هـ، حيث توافد عليها المحبون من الوجهاء والعلماء والصالحين وأهل مصر جميعا، فأبوها سيدي حسن الأنور بن سيدي زيد الأبلج بن الحسين رضي الله عنهم أجمعين، ولدت بمكة سنة 145هـ، ونشأت بالمدينة المنورة، تزوجت إسحق المؤتمن بن جعفر الصادق ورحلا معا إلى مصر، وكانت زاهدة عابدة فيقال إنها تتعبد فلا تنام الليل، وتصبح فلا تفطر بالنهار إلا في أيام العيدين والتشريق، فلما سئلت.. أما تترفقين بنفسك؟

قالت: "عندما قدمت إلى مصر وقدامي عقبات لا يقطعها إلا الفائزون، عندما قدمت إلى مصر تلقاها الرجال والنساء بالهوادج من العريش، وقد أحبها أهل مصر حبًا جما، وكان يفد إلى زيارة السيدة نفيسة في حياتها كبار العلماء فقد زارها الإمام الشافعي.

وعاشت في مصر سبع سنين وتوفيت في شهر رمضان 208هـ، ودفنت السيدة نفيسة في درب السباع بين القطائع والعسكر في المنطقة التي تسمى بكوم الجارحي، حيث يزورها المصريون ويحرصون على أداء الصلوات بجامعها استنادا إلى مقولة للرسول صلى الله عليه وسلم: "النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض"، كما قال لي حينذاك الشيخ حسن السيد الجمال إمام مسجد السيدة نفيسة.

 

جامع الإمام الشافعي

قدم إلى مصر عام 198هـ فهو الإمام بن محمد إدريس الشافعي، المولود في غزة عام 150هـ ويمتد نسب أبيه إلى جد النبي صلى الله عليه وسلم وأمه حفيدة أخت السيدة فاطمة بنت أسد أم الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم، فهو عالم من قريش تفقه في علوم الدين، تتلمذ على يد الإمام مالك إمام المدينة المنورة، ودرس فقه الإمام أبي حنيفة على يد تلميذه محمد بن الحسن، وطالع فقه الإمام الليثي على يد تلميذه يحيى بن حسان المقيم باليمن، وقد أسس الشافعي مذهبه بالعراق، ثم أعلن مذهبه الشافعي بمصر، والذي كان يلائم الحياة المصرية، فانضوى تحت لوائه الكثير من المصريين، وقد توفي عام 204هـ، وبالتأكيد أن الجامع قد أنشئ بعد هذا من حول الضريح، ولم نعثر بالضبط على تاريخ إنشاء الجامع، وفي الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك رصد تجديدات حدثت في الجامع، فقد شرع صلاح الدين الأيوبي سنة 572هـ- 1176م في بناء المدرسة الصلاحية بجوار قبر الإمام الشافعي، كما أنشأ الملك الكامل محمد بن العادل قبة له عام 608هـ- 1211م، عندما دفنت أمه هناك، وقد عني بالمسجد أيضا الأمير عبد الرحمن كتخدا خصوصًا بالمنطقة التي توجد بها المدرسة الصلاحية وكان ذلك عام 1175هـ، كما جدد عمارة المدرسة الشريفية وتبييضها وعمارة الميضأة، "الخاصة بالوضوء" الأمير اللواء الشريف السلطاني على بك دفتردار مصر في عام 1204هـ، والجامع عريق له ملامح معمارية خاصة مميزة، ففيه ستة عشر عمودًا من رخام عليها تيجان من حجر وقبلته في احدى زواياه وهي من الرخام، وعلى أحد أبوابه كُتب بيت من شعر يقول "مسجد الشافعي بحر علوم/ أشرقت شمسه بنور محمد"، وعلى باب آخر "الله نور مسجدا تاريخه/ يزهو به إشراق مجد الشافعي" وهو باب من الرخام بداخله رحبة، وعن شمال الداخل سبيل من رخام عليه شباك من النحاس وله كيزان من نحاس أصفر مربوطة بالسلاسل مكتوب عليه "أنشأ الشباك لهذا السبيل المبارك الأمير اللواء علي بك دفتردار مصر 1211هـ، وفي الجامع عن شمال الخارج من القبة مقصورة من الخشب فيها أضرحة لبعض فضلاء الشافعية ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري والشيخ أبو الحسن المفسر والشيخ شيبان الراعي وفي حائطه الغربي باب يوصل إلى زاوية السادة البكرية وللجامع منارة واحدة.

ولقد أحب المصريون الإمام الشافعي وتعلقوا به وبمذهبه، ومن أكثر الأحداث دلالة على هذا، الرسائل التي يكتبها البسطاء ويعلقونها في جدار الضريح والتي تحمل شكاياتهم ومشاكلهم، وما زالوا يفعلون، إنه هتاف الصامتين الذين يرسلون بأمنياتهم للإمام الشافعي والتي سجلها عالم الاجتماع المصري د. سيد عويس، وكنت قد سألت إمام الجامع الشيخ محمد محمود إسماعيل حينذاك عن ليالي رمضان في المسجد فقال الاحتفال بالشهر الكريم يتم من خلال إحياء الِذكر وقراءة القرآن فهناك كُتاب لتحفيظ القرآن- وكان يقوم برئاسته وقتذاك الشيخ ياسين عرفة والشيخ محمد متولي يوم الاثنين والجمعة في شهر رمضان، وكذلك في باقي الشهور، ومكتبة المسجد مفتوحة من الظهر إلى بعد العصر.

 

جامع ومدرسة السلطان حسن

ويعد هذا المسجد فخر العمارة الإسلامية في مصر قاطبة وأجمعها لمحاسن فن العمارة، ويقول عنه جاستون فييت المدير السابق للمتحف الإسلامي بالقاهرة: "إنه لأبدع آثار القاهرة وأكثرها تجانسًا وتماسكًا وكمال وحدة، وأجدرها بأن يقوم بجانب تلك الآثار المدهشة التي خلفتها مدينة الفراعنة".

ويشغل الجامع مساحة ضخمة تقرب من فدانين، ويقع في نهاية شارع القلعة في مواجهة جامع الرفاعي.

والسلطان حسن هو ابن الناصر محمد بن المنصور قلاوون وقد جلس على عرش مصر في 14 رمضان سنة 748هـ- 18 ديسمبر سنة 1347م، وكان عمره في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة، وما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه حكاية الابن بحكاية أبيه!، فلقد شرب السلطان حسن من نفس الكأس من مخاطر الصراع على كرسي السلطنة، فقد كان صغيرًا وكان أمر المشورة في الدولة لتسعة أمراء ومنهم من قسا على الرعية بالإتاوات في وقت تفشى فيه الوباء بين الناس وقد أصاب هذا الوباء بلاد الشرق جميعًا، وقد حاول السلطان حسن عندما بلغ سن الرشد أن يتخلص من بعض الأمراء الذين تسلطوا عليه لكنه لم يستطع بل هم الذين خلعوه وأجبروه على التنازل عن السلطنة بعد ولاية دامت ثلاث سنوات وتسعة أشهر!، وكانت مدة انفراده الحقيقية بالمُلك تسعة أشهر.

إلا أن صراع الأمراء على السلطة دفعهم لخلع الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد الذي حل مكان أخيه الملك الناصر ثم أرسلوا في طلب السلطان حسن من محبسه في القلعة، وكلموه في العودة على شروط قبلها وبايعوه ثانية بالسلطنة، واستطاع السلطان حسن أن يتخلص من أقوى خصومه "صرغتمش" فسجنه في الإسكندرية حتى توفي، وهنا أصبح السلطان حسن سلطان مصر بلا منازع وتعد مدرسة السلطان حسن التي بدأ في عمارتها سنة 757هـ، واستمر العمل بها ثلاث سنوات دون انقطاع إحدى عجائب البنيان ويقال إن الإيوان الكبير لهذا المسجد أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن في العراق، وعلى جوانب صحن الجامع أربعة إيوانات معدة لإقامة الشعائر الدينية وفي كل زاوية من زواياه باب يوصل إلى إحدى المدارس الأربع التي شيدها منشئ الجامع ليدرس في كل مدرسة منها مذهب من المذاهب الأربعة، ويتميز هذا المسجد بأن جميع الزخارف داخله وخارجه تستدعي التأمل خاصة باب الدخول العام والواجهة القبلية الشرقية التي تعلوها المنارتان.

أما الأواوين الأربعة التي تمثل المدارس المذهبية الأربع فكل واحدة منها وحدة معمارية متكاملة ومستقلة عن غيرها من المباني وتتكون كل مدرسة من صحن يتوسطه فسقية كما تحتوي على إيوان وتحتوي كل مدرسة على ثلاثة طوابق تشتمل على غرف الطلبة والدرس ويطل بعضها على صحن المدرسة والبعض الآخر على الواجهات الخارجية وتحتوي بعض الإيوانات على شريط من الكتابة يحيط بصحنها جاء فيه ("بسم الله الرحمن الرحيم "الَّذِينَ إِن مكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" ثم دعاء يقول نصه "اللهم أكثر الخير واتبع العطا، نسألك وأنت خير مسؤول دوام دولة من أسس هذا الخير وأصله مولانا السلطان الأعظم").

وفي الجامع يستلفت النظر عدد كبير من المشكاوات وقد فقد معظمها ولم يبق منها غير 34 مشكاة من الزجاج المموه بالمينا تعتبر من روائع الفن الإسلامي بالنسبة للتحف الزجاجية.

وقد وصف علي مبارك وقفيات السلطان حسن الخاصة بجامعه ومدرسته وما خصص للمدرسين من رواتب كما تقول د. سعاد ماهر في كتابها "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" أما القبة فقد حظيت باهتمام كبير من الواقف على اعتبار أنه سيدفن بها فقد رتب لها ستين من القراء يتناوبون القراءة ليلًا ونهارًا، كما رتب خازنًا للمكتبة ورجلين لخدمة "المزيرة" التي تحتوي على أواني الشرب وغيرها، وقد عني السلطان حسن بمشروع لمحو أمية الأطفال اليتامى فجعل في المدرسة من يعلمهم القرآن والخط وقرر لهم رواتب وكسوة، كما عني بالناحية الصحية لأهل المدرسة فرتب لهم خبيرًا لمعالجة الأبدان وآخر عارف بصناعة الكحل، كما عين مع الطبيبين جراحًا، كما قرر أن يصرف كل سنة قيمة ألف قميص وألف طاقية وألف مداس تفرق على الطلبة وأرباب الوظائف والفقراء.

ومن العجيب أن السلطان حسن الذي هيأ القبة والمدفن يلقى مصرعه على يد أقرب الناس إليه من مماليكه، وهو يحاول الهرب من القلعة فيُقتل بالقرب من مدرسته التي شيدها، والتي تعد آية من آيات فن العمارة الإسلامية.

 

جامع الرفاعي

وهو من جوامع القلعة ومن أشهر جوامع القاهرة، والإمام أحمد الرفاعي ينتسب إلى جده السابع رفاعة، ويسمى بأبي العلمين لانتسابه إلى الإمامين الحسن والحسين رضي الله عنهما، ولد في جزيرة أم عبيدة قرب واصل من محافظة البصرة بالعراق عام 512هـ، والمقام الموجود بالقاهرة هو مقام سيدي علي الرفاعي المشهور بأبي الشباك، وهو ابن الإمام أحمد الصياد وحفيد الإمام الرفاعي، وقد عاش علي الرفاعي بمصر واتخذ طريق جده الرفاعي الكبير سبيلا إلى التصوف، واتخذ الرفاعية من بعده منطقة سوق السلاح بالقلعة مسكنا ومقاما، وكان في مكان الجامع الحالي قديما مسجد الذخيرة وصفه المقريزي بقوله: يقع مسجد الذخيرة تحت قلعة الجبل بأول الرميلة تجاه مدرسة السلطان حسن، وجاء في الخطط التوفيقية أنه كان يشغل جزءا آخر من مسجد الرفاعي، زاوية تعرف باسم الزاوية البيضاء أو الزاوية الرفاعية، وكان بها عدة أضرحة منها ضريح سيدي علي أبي الشباك، وسيدي يحيى الأنصاري، والسيد حسين الشيخوني شيخ سجادة الرفاعية سابقا، وكان يرد لزيارة سيدي علي أبي الشباك (حفيد الإمام الرفاعي) خلق كثير من مصر، تيمنا للاستشفاء كما ذكرت د. سعاد ماهر في كتابها "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون"، وقد اشترت السيدة خوشيار والدة الخديو إسماعيل الأرض، أرض مسجد الذخيرة والأماكن الواقعة بجوار زاوية الرفاعي من الجهات الأربع، وأمرت بإنشاء الجامع (خوشيار هانم) عام 1268ه- 1869م، في مكان يحتوي على قبور المشايخ (علي أبو شباك) و(يحيى الأنصاري) وغيرهما، ولم يُعرف الجامع باسم خوشيار بل بقي باسم الرفاعي نسبة إلى زاوية الرفاعي، وأمرت بإقامة ضريح لسيدي علي أبي الشباك الرفاعي، وسيدي يحيى الأنصاري، ومدافن لها ولمن يموت من ذريتها، وقد استغرق بناء هذا المسجد ثلاثة وأربعين عاما، والسبب في ذلك يرجع إلى وفاة السيدة خوشيار، فتوقف العمل به فترة طويلة ثم استؤنف مرة ثانية.

وصمم المشروع حسين باشا فهمي المعماري المعروف، وافتتح المسجد عام 1329هـ، ويوجد بالجانب البحري منه مدافن أسرة محمد علي، فهناك ضريح الخديو إسماعيل وضريح خوشيار هانم والدته، وضريح الملك فاروق وضريح الملك فؤاد الأول، وضريح والدته وضريح السلطان حسين كامل وضريح زوجته، كما يوجد ضريح شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي.

كيف اجتمع مشايخ الطرق الرفاعية مع أفراد الأسرة الخديوية؟! كيف اجتمع على أبو الشباك الرفاعي الصوفي الزاهد مع الملك فاروق الذي نهل من أطايب الدنيا ومظاهر الثراء؟ كيف اجتمع البسطاء الذين عاشوا بجرعة ماء وقليل من الزاد، وأولئك الذين عاشوا حياة الترف ونهلوا من دنيا الرفاهية؟ وأكلوا في صحاف الذهب والفضة؟

سبحان الله، قلتها وأنا أتأمل التراب والقبور التي تضم الناس سواسية لا فرق بينهم، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

 

جامع محمد علي

من أجمل مساجد مصر ويوجد بالقلعة، وقد وضع أساسه عام 1244هـ- 1828م، وبدأ تشييده عام 1246هـ- 1831م، ليكون جامعا للقلعة بما فيها من القصور والدواوين وتصميمه على طراز مسجد السلطان أحمد بالأستانة، وسارية الجبل بالقلعة، ووضع تصميمه المهندس التركي يوسف بوشناق، وأحضر له محمد علي الرصاص من أوروبا وبنى لنفسه مقبرة داخل المسجد من الجهة الجنوبية الغربية، دفن بها بعد وفاته عام 1265هـ- 1848م، ويتكون الجامع كباقي الجوامع من جزءين: الأول يحتوي على الصحن ويلتف حوله أربعة أروقة من الرخام، ويفتح على الصحن ثلاثة أبواب، الأول بالجهة الشمالية الشرقية للداخل من الباب الحديد، والثاني من الجهة الغربية الجنوبية للداخل من قصر الجوهرة، والثالث من الجهة الجنوبية الشرقية ويؤدي إلى المصلى، ومئذنتي الجامع بالركن الغربي والركن الشرقي، وتم إصلاح وتجديد الجامع في عهد الملك فاروق في 24 فبراير عام 1939م، ويقال أن المسجد قد استغرق تشييده خمسة عشر عاما، ومن أجمل ما يميز هذا الجامع أبيات قصيدة البردة للإمام البوصيري التي تزين جنبات المسجد، فأينما تولي وجهك تجد بيتًا من الشعر "لولا الهوى لم ترق دمعا على طلب.. ولا أرقت لذكر البان والعلم"، و"يا لائمي في الهوى العُذري معذرة.. مني إليك ولو أنصفت لم تلم"، أما باقي القصيدة فهي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحب الإلهي.

في مسجد محمد علي طراز مميز يحلو للعين أن تتأمله، ويُذكر أن هذا المسجد كان يسمى مسجد القلعة، وكانت تعقد فيه حفلة جامع القلعة كما كانت تطلق عليها الصحف عام 1900م، وكان يحضرها الخديوي، كما كان يأمر بإرسال العلماء والفقهاء إلى الجامع لتلاوة القرآن الكريم بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك بينما كانت تقام شعائر الصلاة الرسمية في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، جريا على العادة المتبعة في كل عام، كما كان الخديو يصلي في أكثر من جامع على مدار الشهر الكريم.

إنها مساجد مصر تتجلى فيها صور الحياة السياسية، والاجتماعية والدينية، فيها أجمل فنون العمارة، وأصفى قصص الصوفية، في محبتها عاش المصريون، وقد تجلت سماحتهم واحترامهم للمذاهب الفكرية والدينية، وتعلقت قلوبهم بحب آل البيت، إنها جوامع مصر التي شهدت الثورات، وشهدت على هتاف الصامتين، شكايات المغلوبين على أمرهم، فيها اطمأنت القلوب بذكر الله، وتعطرت بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل بيته، إنها مساجد مصر رمز السلام والمحبة، فيها أرقى فنون المعمار الإسلامي، وزيارة المساجد والصلاة بها، خاصة في رمضان أحد تجليات الذات الإنسانية في بحثها الدائم عن الاكتمال..  وإلى حلقة قادمة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز