عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

رمضان زين الزمان (12).. ليلة من ألف ليلة في الجمالية والتُمبكشية

رمضان زين الزمان (12).. ليلة من ألف ليلة في الجمالية والتُمبكشية
رمضان زين الزمان (12).. ليلة من ألف ليلة في الجمالية والتُمبكشية

كتبت - د. عزة بدر

فى تسعينيات القرن الماضى قابلته، على مقهى محمود عبد الصمد، حيث المشروبات على "النوتة"، والمشروب فوري، والحساب مؤجل حتى تتيسر!



إنه الشيخ سوسو فنان ومسحراتي ومغنواتي الجمالية، وأشهر من نار على علم في شارع التمبكشية، أحد شوارع القاهرة المعزية، والذي يقع بالقرب من سيدنا الحُسين، ومن حوله أجمل ما يمكن أن تراه العين من أماكن أثرية.

فشارع التمبكشية يطل على الجامع "الأقمر"، وهو من أهم وأجمل مساجد مصر الفاطمية وفي رحاب "الأقمر"، وقد شكل هذا الفنان التلقائى سوسو بهجة المكان في ذلك الزمان، فقد كان بحق فنانا تلقائيا، بما يصنعه من فوانيس ذات طابع خاص، وكان شاعرا له مقامات يحفظها أهالى الحى، وكان بستانيا يزرع الورد والصبار، وكان مسحراتيا يعيش أهالي التمبكشية ما بين صوت الأذان الساحر وأغنيات سوسو وتسحيره!، كان واحدا من الذين أدركوا أن الحياة رحلة قصيرة، وأن عليك أن تستنشق عبيرها طول الرحلة ، بل كان واحدا من الذين أدركوا أن الحياة ابتسامة ما أجملها عندما ترسمها على شفاة الآخرين، وأن الدنيا لقمة لا تحلو إلا لو اقتسمتها مع أخيك ومن بجوارك، وأن قطرة الماء من سُكر إذا قدمتها إلى عابر سبيل لذا كان مغرما بتهيئة أسبلة جميلة للعابرين.

فى ذلك الحين كان الشيخ سوسو أشهر ظرفاء أهل الحى فهو مُسحرهم، وفنانهم، وشاعرهم فإذا سألت عنه كان يدلك عليه الناس أينما سرت من شارع المعز إلى شارع الجمالية، ويتميز شارع التمبكشية بوجود عدد من الوكالات العريقة وأشهرها وكالة التفاح التي ورد ذكرها في كتاب وصف مصر، وكذلك يوجد عدد من الوكالات أهمها وكالة الدخان، ووكالة عبدالله باشا الأرنؤدي ووكالة عباس أغا وقد تحولت أنشطة هذه الوكالات من بيع السلع الواردة من الشام والحجاز إلى صناعات حرفية أبرزها صناعة النارجيلة "الشيشة" حيث اشتهر الحي في الزمن القديم بصناعة الدخان منذ أواخر العصر العثماني وفي هذا المكان الحافل بالعمال والصنايعية، والحمالين والعتالين، ومبيضى النحاس تجد سوسو يحول شقاء النهار إلى بسمات لا تلبث أن تتعالى إلى ضحكات فينقضي نهار الكد ليبدأ ليل السمر والفكاهة لذا كان يتمتع سوسو بالشاي المجاني ودور الدخان العجمي والتفاحة والحساب على النوتة.

 

فإذا جاء رمضان تحول الحي إلى مهرجان من الفرح والألق من بعد الإفطار، وحتى الساعات الأولى من الصباح وشهد شارع التمبكشية هذه الليالي الساهرة في قلب القاهرة المعزية، والتي كان يتوجها سوسو بصوته وفوانيسه وتسحيره ومقاماته، التي يحفظها عنه رواة يعشقون فن الزجل، بل استطاع حينها أن يزين شارع التمبكشية والذي يمتد بين شارع الجمالية وشارع المعز، بالتعاون مع أهل الحى بالأعلام الملونة والورق المفضض بالإضافة إلى عدد كبير من الفوانيس التي تتدلى كالثمار بين النوافذ والشرفات، كان يتأملها المارة بسعادة، أما الفوانيس الخصوصى، التي يصنعها سوسو بمهارة فهي وحدات من الفن الشعبى التلقائى تستوقف العابرين خاصة من الأجانب، والمتخصصين في مجالات الفنون الجميلة.

 

 

 

اسمه رزق والدلع سوسو

 كان الذي يحظى بمقابلة سوسو جالسا على مقهى محمود عبد الصمد يضحك من القلب حتى تدمع العين، كان وجهه يشبه وجه الفنان على الكسار وملامحه الطيبة الباسمة، كان يقص على مريديه ما تستأنس به لياليهم، وترق له نفوسهم، قال لى سوسو: أن اسمه الحقيقي رزق صالح أحمد، وقد ولد في ربع الحمص المتفرع من التمبكشية، ويعمل جناينيا وعامل نظافة في ميدان التحرير، أما هوايته فهي صنع الفوانيس التي كان يعتبرها إلهاما من الله ، يعبر بها عن فرحة رمضان، وأما التسحير فوظيفة موسمية كان يقوم بها على خير وجه ، كان يضحك من قلبه وهو يقول إذا أكلت كيلو خيار يرطب الخيار على قلبي فأنادي على عباد الله ليسحروا في ليالي رمضان،  وكمان مغنواتي.. "وليه لأ!.. والصوت رباني وشعري جاهز على لساني.. تلقائي له رواة يحفظة عم محمود القهوجي وأولاده، ويلقيه عبده قلطة، ويذكرني بما نسيته محمد ضبو وسيد العسكري".

 فلماذا لا يكون إذن شاعر الدرب ومطربه؟، وكلاهما يعرف قصة حبه وأيام شقاه، سألته عن سر شهرته في الدرب وعن سر اسمه ولماذا أطلقوا عليه اسم الشيخ سوسو؟ ، ضحك طويلا وهو يقول لي: الأسبلة اللى قمت بتنفيذها خدمة للدرب فيها الشجر وفيها الأزيار اشتريتها على نفقتي ليشرب العابرون، وفي كل سبيل مجموعة منها ولذا فهم يدعون لي كلما شربوا منها وهم يقولون هنيالك يا شيخ، وهكذا أصبحت شيخا بلا عمامة، أما اسم سوسو فلا حيلة لي فيه، فمنذ زمن بعيد كانت أمي تعمل عند ناس أجانب، وكانت ربة البيت الأجنبية لا تنجب فطلبت من والدتي أن أقيم لديها على أن تراني أمي كلما شاءت، وكذلك أراها كلما أردت أنا، وكان إخوتي كثيرين فوافقت أمي فسمتني السيدة الأجنبية سوسو وظللت عندها حتى أرادت أن ترحل مع أسرتها بعد قيام الثورة عام 1952 وتأخذني معها وكان الله قد رزقها بفتاة أسمتها "استر"، ولكن والدي رفض أن تأخذنى وقال لها: لا.. ولو أعطيتني ثقله ذهبا.. فلك "استر" ولنا "سوسو".. ومن يومها وأنا أعتز بهذا الاسم ولا أضيق بمن يناديني به لأن السيدة الأجنبية التي أسمتني به كانت رقيقة جدا وعاملتني معاملة راقية فأحببتها كأمي.. ولذا فأنا الشيخ سوسو لا أكثر ولا أقل!.. قالها.. فابتسم المريدون، وقال الحاج محمود عبدالصمد: " الشيخ سوسو.. بركة الحي وفناننا".

 

وما لبثت النارجيلات أن اصطفت، وجمرها قد اشتعل.. وتصاعدت طبقات صوت فنان الحي، وهي تزجي إلينا أناشيده وأغانيه فيتمايل الجالسون في طرب وشجن.

"يارب بالمصطفى حل العسير عني/ ده إحنا الضعاف ياكريم/ وأنت القوي عني/ يا رب نطلب رضاك والعفو والجنة، ولن تخيب عشمنا فيك يا الباري/ أنت المسامح وتعفي يا كريم عنا".

 

ابتهل الجالسون وتمتم كل واحد بنجواه، مرت حبات المسابح في صمت بين الأيدي، كل حبة تعانق أختها في رقة.. لينتقل الشيخ سوسو من مقام لمقام ومن سيكا لنهاوند.. ومن حجاز لبياتي.. وبين قرار وجواب.. وسكون وشوق وعتب حتى تسلطن الجميع وقال سوسو: "رمضان يا شهر الكرم.. يا شهر الزكاة والصوم، يا شهر كلك خير على السائل وعلى المحروم، أهدي لك سلامي ياللي كلك هَنا وسرور".

 

 

 

 ازرع شجرة

تأملت الأسبلة التي صنعها رزق الشهير بسوسو، كان في كل سبيل شجرة يقوم رزق بزراعتها أولا وغالبا ما تكون شجرة من "الفيكس" فهي كما يقول: لا تحتاج إلى الري اليومي وإنما تشرب وتختزن، سقيتها أو لم تسقها لا يهم، فهذا الشجر قادر على أن يتغذي من تربة الأرض وطالما دق في التربة جذوره ربت ونمت تشرب من باطن الأرض، وتعد شجرة الفيكس أو الصبار وحدة أساسية ضمن التشكيل الفني لأسبلة رزق ويفسر سر ذلك فيقول: "ازرع الشجرة أولا لأن الشجرة نعمة في السبيل فحتى لو لم يكن هناك ماء في الزير فلن نُحرم من ثواب الشجرة ووجودها يعني الظل لعابر السبيل "، أما سر وجود الصبار في تصميم شكل السبيل فيقول رزق"، لأن الصبار البلدي أو الصبار الأفرنجي، ويطلق عليه اسم الشمعدان من النباتات التي يشعر الإنسان عندما يراها بالصبر، فالصبار نبات وحيد، نبات ليس فيه ذكر وأنثى، فهو دايما كرجل وحيد ليست له امرأة، واقف بطوله في الحياة وعندما اشتكى لله وحدته وعرف أن الله مع الصابرين تصبر ووقف شامخا ولذلك فهو يزرع الصبر في قلب الحزين".

 

يملأ رزق الأزيار في الصباح ويغسل الأكواب ويصفها، وهي مقيدة في الأحبال فتنزل إلى أعماق الأزيار المغسولة التي تبرق فتصعد بالماء الزلال إلى شفة كل عابر.. فيتمتم رزق: الحمد لله.. ويتصاعد صوت أهل الحي: "بركاتك يا شيخ سوسو".

 

في درب "الخرنفش"، صنع رزق سبيلا، وفي درب التمبكشية شيد أكثر من سبيل، وفي أول الجمالية أيضا أنشأ سبيلا، حرص رزق على أن يكون في كل سبيل شجرة ومجموعة أزيار، أما التصميم نفسه والذي يلقى عناية العابرين وكان يلتقط له الأجانب الصور الفوتوغرافية فهو تشكيل جمالي تلقائي غالبا ما يلعب اللون الأخضر الزاهي لون البطولة في محاكاة لعالم الشجر والنباتات، وحيث يكون تصميم السبيل نفسه على هيئة سفينة ذات أشرعة أو جامع له مآذن، وعلى جنباته تستطيع أن تجد وحدات فنية مختلفة ، قطعة جميلة من "الخيامية" بقماشها المشغول بقماش منه فيه، وتشتمل على وحدات زخرفية إسلامية، كما تستطيع أن تجد قطعة من خشب الأرابيسك المزخرفة وقد وضعت بجمال على أحد جانبي التصميم، بينما يستدير السبيل، وفي استدارته تجد طيورا بدائية ذات أفواه ومناقير وأجنحة ولكنها لا تطير وأمامها صحون من قصدير ونحاس وصفيح مطروق في أشكال بسيطة وعلى جوانب السبيل تمتد أعمدة مزخرفة من الخشب تزدان قممها بأهلة بينما تتمركز صورة الكعبة أو المسجد النبوي الشريف في قلب التصميم، ومن حوله آيات قرآنية وعبارات مثل "يا رب الحج"، "يا رب العمرة"، "يا رب قِنا شر أنفسنا"، وأدعية مكتوبة على بطاقات من التي نستخدمها في التهادي، ومن أهم ما يميز تصميمات السبيل لدى رزق ، صور الشيخ الشعراوي، التي تزين الكيان الضخم للسبيل الذي يمكنه أن يتسع لستة أزيار معا.

 

 

 

 

أحبابي

وسألت رزق عن حبه للشيخ الشعرواي، واستخدام صوره كوحدات فنية في تصميم السبيل فقال: "إنني أحبه ولا أستخدم سوى صوره وهو يصلي أو وهو جالس بين مريديه، ولا ينافسه في قلبي أحد سوى الشيخ صالح الجعفري، وهو شيخ له جامع باسمه في الدراسة، وملحق بالجامع مستشفى، وكلاهما الشعراوي والجعفري أحبا الفقراء، ولذا فأنا أحبهما فأنا من زمرة الفقراء".

 

ورشة الأرزاق على الله

ورزق صالح الشهير بسوسو، له من العيال خمسة، ثلاث بنات وولدان، وهو لا يملك إلا راتبه كجنايني، ولكنه رغم ذلك إذا جاء شهر رمضان المبارك فهو يقوم بصناعة فوانيس جديدة لم أر مثلها، فهي فوانيس ضخمة ذات أشكال فنية متميزة، فتارة يصطنعها على شكل مراكب الشمس الفرعونية فتتداخل الفوانيس، التي قد تتجاوز الثلاثة عشرة فانوسا لتنضم معا في صرة فانوس واحد، كأنه مركب شمس فرعونية لن تبحر من ورشة سوسو، التي سماها ورشة الأرزاق على الله إلا مجانا بشرط أن يرغب فيها مالكها ومريدها ويحبها مثلما أحبها سوسو كما قال لى فهو ينفق نهاره في صناعتها من بقايا الصناعات الحرفية من بواقي النحاسين والنجارين والتمبكشية لتصبح فوانيسه أحد فنون البيئة.. جمال وبساطة، وإذا ساأته عن سر هذه التصميمات الفرعونية والعثمانية التي تتجاور معا في ألفة وبساطة يجيبك بأنها.. أي الفوانيس "إلهام من الله".

 

تتجاور فوانيسه المخروطية والمستديرة والمكعبة في أشكال متعددة ضخمة عالية شامخة كالمآذن تحتل كوحدات زخرفية مداخل البيوت وقاعات الجلوس كفن شعبي راق، ولكنه يهبها لمن حوله من أصحاب المحال ابتهاجًا بشهر رمضان الكريم ويعلقها في مداخل دروب القاهرة المعزية ويحيطها بالزينة والأعلام الملونة والورق المفضض واللامع، ويهيئ لها ما استبرق حتى تستحيل دروب القاهرة المعزية بلمسات فنانها التلقائي درة للأعين تستوقف فلاشات التصوير وتصمد أمام عدسات المصورين ولمسات ريشة طلبة كلية الفنون الجميلة، الذين كانوا يلتفون حول فوانيس سوسو يشاهدون جمالها وبساطتها ويرسمونها بشغف وحب، وكانت بسنت عبدالدايم نصير الطالبة بكلية الفنون الجميلة حينذاك تختار فوانيسه، ليكون مشروعها الدراسى، والذي تحصد به درجات أعمال نصف السنة، فترسم فوانيسه وتلتقط ملامح الفنان بمهارة لتسجلها في لوحات معبرة.

 

 

 

مقامات الشيخ سوسو

وعند رزق تجد ما تشتهي فهو فنان ومسحراتي ومغنواتي وجنايني ومزيكاتي وشاعر.. فلا يمكنك أن تتحدث عن جانب من مواهبه إلا وتجد موهبة أخرى فيه تستحق أن تتأملها وتعجب من تألقه الفطري، وفنه الساحر، وفكاهات رزق لا تنتهي فالجميع في درب التمبكشية يعرف أن ورشته، ورشة الأرزاق على الله تحتل هضبة عالية من بناية متهدمة في درب التمبكشية، وجدها مصادفة بلا خلو ولا إيجار، وأن العمل بالورشة متاح لأي إنسان بشرط خاص وهو الحصول على "شهادة فقر" من أربعة موظفين قراري! كما يقول سوسو، شهادة بأن الراغب في العمل فقري ابن فقري ومن سلالة فقرية، وبالطبع "مافيش ماهية"، أما الذين التحقوا بالعمل بورشة الأرزاق على الله فهما جعفر وزكية، حيث يتسلم جعفر العمل في الصباح فينام على الهضبة المنسية، التي هي موقع الورشة في درب التمبكشة وتكون فترة نومه من الصبح حتى العصرية فهو خفير نائم، لا يحرك ساكنا ولا يهش قطة فقد تبين بعد البحث والتحري أنه فقري ابن فقري ولذا توظف من فوره، وفي العصاري تستلم زكية نوبة النوم وحراسة الورشة "من العين اللي شافتها ولم تصل على النبي"، فتتولى عقد البخور فتمسّكه بالبخور والجاوي والمِسك وعين العفريت، وزكية بالذات وكما يقول عنها صاحب الورشة رزق الشهير بسوسو حاصلة على شهادة الفقر بامتياز، وهي تنام وقت ما تنام وتمشي وقت ماتمشي، وهي إن شئت الصراحة تريد الذي يحرسها بعد أن أصابتها عين الزكام في المفاصل والكيعان.

وتتمثل أحلام رزق صاحب ورشة الأرزاق على الله فقط في الستر دنيا وآخرة، ومن أشعاره التي جسد فيها أحلامه في الدنيا والآخرة ويلقيها على سامعيه مبتسما:

"يوم 17 إبريل كنت باركب أتوبيس من التحرير وركبت يا سادة وبقت حالتي حالة/ وأوام في الزحمة رحت منشول وبقيت في الأتوبيس زي المجنون/ أبص للكمساري ألاقيه مبلم مش قادر يتكلم/ والسواق في الزحمة مش قادر يسوق/ وأنا قلت يالا هاتولي تعويضاتي أوام/ واعملوا للشيخ سوسو مقام/ لما يكون رايح يزورالسيدة أو رايح يزور الإمام/ ده أنا ابن الشيخ على ميخا الحاوي/ ساكن في مرجوش/ في ملك حلق حوش/ ونمرة البيت مفيش حاجة / ونهاركم سعيد يا جماعة".

 

تعب محمود

ومحمود هو أحد تمبكشية الحي، فهو يورد "الليّ" وهو أحد أجزاء الشيشة بالجملة والقطاعي لتأخذ مكانها من النارجيلة، وهي تلتقم أجزاءها قطعة قطعة من عمال الحي المهرة الذين يستكملونها حتى تستوي تعجب الناظرين، فعم عبده "قلطة"، والذي اشتهر بـ "القلاطة"، فهو رغم حاجته للنقود فهو يشتغل يوم ويبطل عشرة حسب إرادته ومزاجه" كما قال لى سوسو، وعم عبده يقوم بإصلاح قلب النارجيلة، بينما يقوم محمود بتصنيع "الليّ" ويصنع عم سيد كرسي الدخان ذلك الذي يرقد عليه الفحم ويبصبص بالنار، أما الماشة فيصطنعها بمهارة أحمد المعجباني، وهو لا يرضى عن "ماشة" الإمساك بالفحم إلا إذا نقشها ورقشها وحفر عليها اسمه بالمسمار بعد أن ينظفها ويرقق حواشيها بالقدوم والفارة، ومع دورة إتمام كل نارجيلة ينشد رزق أشعاره فيخفف عن المرهقين ما أحسوا به من رهق، ويرفع عن المكدودين عناء ما أصابهم من كد وتعب.

 

.

 

 

أبو قورة والحمار

بالقرب من مقهى محمود عبدالصمد يوجد موقف للعتالين والحمالين، يقفون في انتظار أي نداء أو إشارة من الوكالات التي يحفل بها المكان أو حتى صاحب قدرة فول تكون في حالة (أبهة) لامعة ومجلوة ليحملها أحدهم على عربته التي غالبا ما يجرها حمار متعب من كثرة الأحمال، ورغم أن الحمالين وعرباتهم دائما تحت الطلب وخصوصا أن درب التمبكشية حافل بالوكالات ولكن أحيانا مايعم الكساد، فيربط الحمّال حماره ويجلس بلا عمل، يأسى على الزمان ويتأسى وفي مثل هذه الأحوال ينشط شاعر الدرب رزق صالح فيقول محاولا إدخال البهجة على النفوس: "محسبكو اسمه أبو قورة / والصنعة بلا قافية حّمار! / طول النهار واقف صورة/ أفش غُلبي في الحمار / وعليق منين وأكل منين؟ / مادمنا مابنستفتحش/ ده كار وحياتكو غار/ يمكن أنا والحمار وطول النهار / مانلاقيش قوت النهار/ وأعدد وأقول على القانون/ يا موقف الغُلب أعمل إيه في الكار؟/ عندي سبع بهايم تنهق لم جابولي فطار!".

يضحك الحمّالون ويضحك رزق، ومع أول نقلة في موقف "الغُلب" يتصايح الجميع "بركاتك يا رزق، بركاتك يا شيخ سوسو".

 

دور الفرح

ولا يقتصر دور الزجل ولا تتوقف قريحة سوسو عند الأسى ولا الهم، فهو لا يسهم فقط في تحمل الأسية وإنما بلبل صداح، وشاعر لا يُشق له غبار ولا يخلو الأمر من بعض المعارضات ومكايد ومقالب ظريفة يذكرها الجميع، عبده قلطة وسيد العسكري وأحمد المعجباني ويرويها سوسو: "كنت معزوم في فرح ببولاق وواحد كان يريد أن يغيظ مراته فقال لي: "قول عن كيد النسا دور يخلي كل واحد يعرف خلاصه"، فانطلق لساني يقول: "كيد النسا كيد!، ومن كيدهم صبحت أنا هارب دولم يتحزموا بالحنش ويتبرقعوا بالعقارب!".

 

وهنا طلعت من وسط النساء معلمة شديدة واسمها كما عرفت بعد ذلك "نعمة"، وكانت هي زوجة هذا الذي حثني على دور عن كيد النسا، وقد فطنت لما أراد الزوج من لمزها فقد كان قد تزوج عليها فكادت له كيدًا، وانطلقت "نعمة" تقول: "عقارب مين؟ وتعابين مين؟ عقربة لما تلوشك.. غني للناس الحلوين " فأطعتها وإلا لن أسلم من يدها وغنيت دور بالأمر للناس الحلوين وقلت: "ودا على عليوة بنى له في وسط الجبال اخصاص/ قصده يحوش الهوى هو الهوى ينحاش؟/ والرمل لم ينفتل/ والشوك لم ينداس / والبيت لن ينبني إلا بجدار وأساس/ والبنت لم تنخطب إلا بجملة ناس / يا وردتين في الطبق/ يا فُلتين في الكاس/ ربنا يحرسك يا حاجة نعمة من عيون الناس".

وهنا انفرجت أساريرها وابتسمت ونفحته ورقة "بعشرين"، وبذلك نجا من كيد النسا وكيد الرجال معا.   

وكما نقش سوسو على فوانيسه حمائم وطيور ذات أشكال خرافية، وكما حفر عليها العبارات المأثورة "الله لطيف بعباده"، "لا تنس ذكر الله"، "توكلت على الله"، "الصبر جميل"، وكما أحاط الأسبلة بالأزيار المغطاة بأغطية خشبية تحفظها صالحة عذبة نظيفة للعابرين وكما يغير الماء كل صباح لهذه الأزيار، فهو يسجل مظالم أهل الدرب: الحمّالين والفوالين ومبيضي النحاس، وأولئك الذين أرزاقهم على الله ليس لهم عمل ثابت وإنما يغيرون أعمالهم حسب الحاجة وحسب المطلوب وغالبا ما يقعون تحت طائلة المساءلة بلا ذنب جنوه حيث تكون البطالة في حد ذاتها مبررا للاشتباه ويسجل رزق متاعب "الأرزقية"، وما يحصدون من متاعب فيقول: "بعد التحيات والسلامات، أنا كل اللي برجوه عدم التلطيش عشان الشاويش، مخللاليش/ كل ما أمشي يمشي ورايا/ وطاخ طاخ على قفايا/ ويجرجرني أنا واللي معايا/ كل اللي بارجوه عدم التلطيش/ عشان الشاويش مخللاليش".

 

 

 

مظلمة سوسو

ولأن جذوره تمد لسابع جد، فهو يمت بصلة شرعية بجذور فرعونية للفلاح الفصيح، الذي استمهله الحاكم ليحل مشكلته فأنشد سبع قصائد عن المظالم تعد من عيون الأدب المصري القديم، أما سوسو الجنايني والشاعر فقد تعرض لمشكلة وهي نقله من جنايني إلى عامل رصف، واحتار في مواجهة وكيل الوزارة الذي نقله من أحواض الورد ومشاتل العبير إلى أعمال الرصف وما يتصاعد منها من روائح يضيق بها صدره العليل وكان أن واجه وكيل الوزارة بقصيدة عصماء أوقفه بعدها عن العمل! يقول فيها:

"يوم القيامة فيه محكمة القاضي/ فيها الله والشاهد حبيبي محمد رسول الله/ والكل هايقف أمام الكريم عريان/ ولا فيه محامي يترافع ولا نقض في الأحكام".

وتصاعدت مشكلة رزق حتى وصلت شكواه وقصائده إلى وزير الزراعة حينذاك، فأنصفه وأعاده إلى الحدائق.. إلى عمله الذي قضى به حوالي ربع قرن.

 

ذاكرة الشعر

تتدفق ذاكرة سوسو بالأزجال، فيحكي عن أحب الأدوار إلى أهل الدرب فأسأله ماهي؟ فيقول: "الدور الذي غناه شاعر شعبي وقاله أمام الملك فاروق، وبعدها تم إيداع الشاعر السجن ستة أشهر، ولا يذكر الراوي اسم الشاعر، ولكنه يذكر الدور والكلمات كأنها حُفرت في الوجدان الشعبي، لا يمحوها زمن ولا تمتد إليها يد النسيان، يقول الدور: "شوف الزمن لوع اللي كان ماشي على كيفه وعيّشه عيشة رضية ماجتش على كيفه/ وآدي الإنجليز عملتلنا في الشرق حرية/ لأولاد الأصول / في السجون مرمية/ وابن الهفية صبح يمشي على كيفه".

 

 

 

في ليالي رمضان

يحلو السهر في رمضان وخصوصا بعد تناول الإفطار على موائد الرحمن كما يقول رزق صالح الشهير بسوسو وصار يحكي لي عن جمال وغني مائدة الرحمن، التي تقام بالجامع الأقمر، تلك التي كانت تمتد بطول الشارع فيفطر فيها الفقير والعابر وحكي لي عن جمال ما يقدم من قطايف وما يكون على المائدة من أطايب ولذائذ، ووجه لي حينذاك دعوة مفتوحة للإفطار طوال شهر رمضان في رحاب الجامع الأقمر فشكرته على كرم الدعوة، وقلت له: وماذا عن السمر في ليالي رمضان تلك التي تكون في هذه المقهي؟ فقال: طالما المشروبات على عمك محمود عبدالصمد تبقى " القوالة " تمام والغزالة رايقة، فابتسم صاحب المقهى.. ولكزه سيد العسكري في ذراعه وهو يقول: قول لها يا سوسو حكايتك والبنت اللي حبيتها وتزوجت غيرك.. فأطرق سوسو مرتبكا.. وحثه عبده قلطة قائلا: "امسك الدور خلي السهر يحلى، ولا يحلى إلا بذكر الحب وعجايبه وما فعله الهوى بالشيخ سوسو من مُر وحلو، فرفع سوسو وجهه إلينا وقد لونه الشجن ثم ابتسم.. "نحكي عن العشاق" فصفق الجميع وأصلح أحمد المعجباني العود، فشد أوتاره واختبره ودندن ببعض النغمات، فلما تنحنح سوسو وانجلى ورشف آخر رشفة من كوب القرفة باللبن مجانا، انطلق صوته الصافي، وهو يشدو بقصة حبه فإذا الدرب يرهف السمع ويردد أشجانه تجاوبا من القلب المفعم بالتعاطف معه، "يا حلو يا جميل يا أبو قلب قاسي/ فاكر لما كنت معانا زمان راسي/ طب فاكر لما قعدنا سوا وشربت كاسك مع كاسي/ كاس الزمان عليا دار/ شربت كاسك طب ليه رميت كاسي؟/ يا حمام السلام روح سلم على احبابي وعلى ناسي/ راح الحمام ورجع وشه كله مآسي/ وقاللي زي ما حبيبك هجرك اهجره وفضي م الغرام كاسي/ هجرتك يمكن أنسى هواك/ وأودع قلبك القاسي".

 وهنا طفق الجميع يرددون بحنان عبده قلطة، وسيد العسكري ، والمعجباني " لقيت روحي في عز جفاك/ بفكر فيك وأنا ناسي".

 

طاقية العز

وهنا تملكه التأثر.. ولم يستطع أن يكمل بعد أن تحنن وتذكر وأطرق مليا وتفكر.. وانتظر الجالسون أن يكمل.. فلما أطرق احترموا صمته، وانبرى راويته عبد قلطة بصوته القوي ذي البحة فأكمل ما يحفظه عن ظهر قلب من دور الهوى والحب فقال: "ياللي دعتني أنا جيت لك/ قلت لي: غني غنيت لك/ واجب على أغني وأشيل الناس على راسي/ وأقول كلام بالأدب من عقلي ومن راسي وليه يا طاقية العز/  ليه تميلي من على راسي/ ليكي حق تميلي من على راسي/ الشعر أهو اتنحل وراحت سناني مع ضراسي/ ويلك من الله يا جميل/ يا أبو قلب قاسي".

 

وهنا أدرك الجميع التأثر.. وانبروا قائلين: "هجرتك يمكن أنسى هواك/ وأودع قلبك القاسي".

 وأدركت أن هذا الوجدان الشعبي الذي يسري فيه الشعر بالآلام والأحلام معا يمتد في عروق الجيمع بلا استثناء وأن كلمات أحمد رامي وقد تألقت بصوت أم كلثوم صار لها فعل السحر في القلوب التي تجاوبت معها بالأخذ والرد والمعارضة الشعرية ثم تواءمت معها وتأثرت بها، شجن عميق يأخذ بمجامع قلب المحب والمحبوب معا.. فإذا بأحمد المعجباني يلقي بالعود جانبا ويترك الريشة من بين أصابعه وقد أخذته الفكرة وغني وقد برح به التأثر " نادرين عليا يا حمام لاعمل فرح وأعزم فيه جميع قرايبي وجميع ناسي/ وأحوِّل البحر بالفنجان على راسي/ بقول مليون مسا الخير ياللي أنستونا/ بفضل ما أشكر لكم جمايلكم على راسي/ هجرتك يمكن أنسى هواك وأودع قلبك القاسي".

 

وهنا استفاق سوسو ورش على وجهه بعض الماء وكفكفه بطرف أكمامه، وقام واعتدل في جلسته وأصلح العود وطفق يغني: " ليه يا صبايا بترموا للحمام الحب، هو الحمام الصغير يترميله حب ؟، ولا حد اما عشق ولا حد اما حب/ إذا كنت تعبان يا جميل ومضايق/ روح زور ستنا السيدة زينب في ليلة الحد / تجبر بخاطرك/ ولا تكسر بخاطر حد".. فهدأت الخواطر، واعتدل أحمد المعجباني، وقد سكنت خواطره وقرت بلابله.. فطلب "واحد شيشة عجمي وصلحه".

وقال الحاج محمود عبدالصمد "رمضان كريم"، فكأنما استل بيديه مخزون الشجن من القلوب فهش الجميع وبشوا وانفرجت الأسارير وتفتحت القلوب لموال جديد، فأصلح سوسو من عوده وانطلق صوته شجيا يشق سكون الليل في درب التمبكشية وهو يغني: "مراكب السلطنة يا جميل اتفتحت لهوايا وهواك/ قاموا يكتبوا ربع شوقي اللى شفته أنا وياك/ روحي وعقلي يا بلبل والكل فداك/ يا عود يلم الصبايا جوة بستان/ غني يا بلبل وسمع الناس موالى/ عن النبي الزين اللي راح له العباد في ميعاد / رجب وشعبان ورمضان وبينات الأعياد/ وهات لي حجاب مغربي/ وأنا أحلف عليه منعاد / انت اللي في القلب يا شهر الصيام/ باهواك، القلب لم يهجرك/ والعين لم تنساك".

 

ودعتهم.. وهم في رحاب الجامع الأقمر، يتغنون بالحب.. برمضان.. لياليهم سهر وشجن.. وتفكر، وأيامهم كدح وكد وعناء ولكن أحلى ما فيهم هو التواصل والتواد والتحاب.. إن قلوبهم ترفرف كأفئدة الطير في صفاء فإذا مررت بشارع التمبكشية فتذكر الشيخ سوسو، والحاج محمود عبد الصمد، وعبده قلطة، وأحمد المعجباني، وجعفر، وزكية، تذكر بسطاء حى الجمالية، والتمبكشية، تذكر مقامات سوسو وفوانيسه العجيبة وحكاياته الغريبة التي تشبه حكايات ألف ليلة وليلة.

وإلى حلقة قادمة

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز