عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ياسر عمر أمين يكتب: تأملات في العلاقة بين الملكية الفكرية والسياحة والتراث الثقافي

ياسر عمر أمين يكتب: تأملات في العلاقة بين الملكية الفكرية والسياحة والتراث الثقافي
ياسر عمر أمين يكتب: تأملات في العلاقة بين الملكية الفكرية والسياحة والتراث الثقافي

ما أشبه الليلةَ بالبارحة؛ فلقد أثرني أثناء رحلة اطلاعي في دروب وطرقات الملكيَّة الفكريَّة دراسةٌ حديثةٌ أعدَّتها الباحثةُ الميدانيةُ/ مي محمد حسن حول العلاقة الحاكمة التي تربطُ بين الملكيَّة الفكريَّة من جهةٍ والسياحة والثقافة من جهةٍ أخرى بعنوان: "الملكيَّةُ الفكريَّةُ والسياحةُ والثقافةُ: دعمُ الأهداف الإنمائية والنهوض بالتُّراث الثقافي في مصر" بالتنسيق مع وزارة الخارجية؛ وذلك في إطار مشروعٍ كانت قد اقترحته مصرُ من خلال أجندة التنمية للمنظمة العالمية للملكيَّة الفكريَّة (إحدى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة). وفي الحقِّ وأنا أبحرُ في خِضم هذه الدراسة متأمِّلًا دروبَها، متعمِّقًا طرقاتِها، أجدني دون أن أدري سابحًا في مقالٍ ليَّ سَبَقَ أن نشرتَه ببوابة روز اليوسف بتاريخ 16 نوفمبر 2014 وكان يحملُ عنوان: "الأهرامات والملكيَّة الفكرية بين حلاوة الحُلْم ومرارة الواقع القانوني"، فردَّني ذلك مَرَدًّا جميلًا على التَّوِ إلى تلك العلاقة الرابطة والحاكمة التي توثِّقُ العُرى بين الملكيَّة الفكريَّة والسياحة في مصر، كونُ الأهرامات هي أحدُ أهم روافد السياحة المصرية، ولكي نُجلي حقيقةَ تلك العلاقة ونسبرَ أغوارها، فما لنا إلَّا أن نخترقَ سطحَ هذه الدراسة الميدانية، لنغوصَ في أعماقها كي تكشفَ لنا عن معالمها التي بات من الجدير أن نُلقيَ الضوءَ عليها، أو قل لنُلقِ بأشعتها في بؤرة المثقفين والمهتمين بهذا المجال، ونظرًا لحِرَفيَّة هذه الدراسة أكادُ أزعمُ أن تلك الدراسةَ إذا ما نالت حقَّها من البحث والتقدير لدى المسئولين، وسعوا حثيثًا نحو العمل على تفعيل توصياتها على أرض الواقع العملي، لكان لذلك عظيمُ الأثر على تنمية موارد الدولة وتهيئة وتعظيم هوية مصر الثقافية والسياحية وإذكاء القدرة التنافسية في قطاع السياحة.



وإذا كانت هذه الدراسةُ قد نالت ما نالت من المنظمة العالمية للملكيَّة الفكريَّة تقديرًا مجلَّلًا كان على أثره أن دَعَتْ المنظمةُ الباحثةَ المصريةَ إلى جنيف حيث مقرِّها، لتُلقيِ برؤيتها أمام اللجنة المعنية بالتنمية والملكيَّة الفكريَّة في دورتها الثالثة والعشرين التي عُقدت مؤخرًا في الفترة من 20 إلى 24 مايو 2019 وتشاركَ نتائجَ دراستَها أمام ممثِّلي الدول الأعضاء بالمنظمة، فمن الأجدر علينا – كمهتمين بمجال الملكيَّة الفكريَّة – أن نتلقَّفَ تلك التوصيات العامة والخاصة التي شملتْها تلك الدراسةُ لنضعَها نصبَ أعيُننا، لاسِيَّما وأننا في حُقبةٍ زمنيةٍ تكادُ تكونُ نادرةً بالمقارنة لما سبقها من أزمانٍ، حيث إن الملكيَّةَ الفكريَّةَ باتت ركيزةً تعتمدُ عليها الدولةُ المصريةُ في سياستها، كونها أحدَ أهم الروافد المهدرة التي تمثِّلُ مصدرًا من مصادر الدخل القومي إذا ما أُحسِنَ استغلالُ أهدافها التنموية وتطويعُ آلياتها القانونية تلك التي أشارت إليها الباحثةُ في دراستها القيِّمة التي امتدت لتصلَ إلى قرابة الثمانين صفحةً، والتي أكَّدت من خلالها أن شجرةَ الملكيَّة الفكريَّة في مصر لم يجفْ ثمارُها بعد، فها هي تثمرُ لنا بُرعُمًا جديدًا في شكل باحثةٍ مجتهدةٍ هي مي محمد حسن، تلك الباحثةُ التي عملت من خلال بعض أبحاثها على توثيق التداخل بين الملكيَّة الفكريَّة والمجالات العلمية الأخرى بهدف خلق جسرٍ من السياسات والاستراتيجيات التي تُمكِّنها من استخدام أدوات الملكيَّة الفكريَّة للنهوض بالقطاعات المختلفة، بما يتواكبُ مع دعم الأهداف الإنمائية الوطنية، لذا لا عجبَ حينما يقعُ اختيارُ المنظمة الدولية عليها لأن تتولى إعدادَ هذه الدراسة بصفتها خبيرٌ استشاريٌّ.

ولأجَلُّ ما يُعظِّمُ تلك النظرةُ لهذه الدراسة هو اهتمامُ سياسة الدولة بتعظيم مفاهيم الملكيَّة الفكريَّة ودورها التنموي ومدى إمكانية الاستفادة من أدواتها في إطار ما كرسَّته المادةُ (69) من الدستور المصري - لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ البلاد - حينما أضفت بُعدًا دستوريًّا جديدًا على الملكيَّة الفكريَّة من خلال تضمينه مادةً خاصةً بحماية حقوق الملكيَّة الفكريَّة عُدَّت نقطةَ تحوُّلٍ فارقةٍ في تاريخ ذا المجال والتي اعتقدُ أنها سيكونُ من شأنها الدفعُ بعجلة الدولة لوضعِ سياساتٍ وطنيةٍ موحَّدةٍ لحماية الملكيَّة الفكريَّة من خلال جهازٍ مختصٍّ مزمعُ إنشاؤُه لرعاية تلك الحقوق وحمايتها القانونية، على أن تكونَ نتائجُ وتوصياتُ تلك الدراسة التي قامت بها الباحثةُ محلَّ اعتبارٍ ونظر الدولة أو ذلك الجهاز؛ كونُ الباحثة ركَّزت فيما ركَّزت على اقتراح بعض التوصيات الخاصة بالاستخدام الاستراتيجي لأدوات الملكيَّة الفكريَّة في قطاعين حيويين هما السياحةُ والمُتاحفُ.

ولك أن تعلمَ أن كلَّ متأملٍ متبحرٍ في تلك الدراسة لا مندوحةَ له من أن يجدَ أن هذه الباحثةَ قد حرصت - قدر إمكانها - على حصر الفوائد التي ستعودُ على الدولة المصرية من وراء هذه الدراسة حال تفعيلها لهذه التوصيات والنتائج التي توصَّلت إليها، والتي تقومُ على استخدام موارد التُّراث السياحي والثقافي استخدامًا يعملُ على تعظيم قيمة السلع والخدمات المرتبطة بها بما يؤثرُ بدوره على نمو الأعمال المحلية المرتبطة بالسياحة تأثيرًا إيجابيًّا، واضعين نصبَ الأعين العملَ على تحويل تراثنا الثقافي المصري - المادي واللامادي - إلى منتجاتٍ وخدماتٍ قابلةً لأن تكونَ مشمولةً بالحماية القانونية إذا ما تمكَّنا من تفعيل استخدام آليات الملكيَّة الفكريَّة.

ولما كان البحثُ بحرًا زاخرًا، مائجَ الأفكار، ولما كانت الباحثةُ غواصةً ماهرةً فقد حرصت في خِضم هذه الأمواج العاتية أن تلتقطَ الأصولَ الملموسةَ وغيرَ الملموسة من الحقوق القائمة والمحتملة للملكيَّة الفكريَّة من خلال مواقعٍ سياحيةٍ أربعةٍ تمَّ اختيارُها بمعرفة لجنةٍ توجيهيةٍ وطنيةٍ خاصةٍ رَصَّعَتْ بها دراستَها الميدانيةَ وقامت على أثرها الباحثةُ بزيارةٍ لكلِّ موقعٍ منهم على حِدَه، متسلِّحةً في دراستها بنظرةٍ متعمقةٍ وثاقبةٍ لحقوق الملكيَّة الفكريَّة استطاعت بوعيها المهني من تطويعها لترصدَ المواردَ الطبيعيةَ والثقافيةَ (كالمعارف التقليدية وأشكال التعبير الثقافي التقليدي...) التي تشتهرُ بها تلك الأماكنُ بما يمكِّنها من تحديد الآلية القانونية المناسبة والناجعة للاستفادة منها على أرض الواقع.

وقد تمثَّلت هذه المواقعُ الأربعةُ في طريق أسوان نوب تماري "Nub Tamari" المعروف باسم "الأرض الذهبية"، بالإضافة إلى مسار رحلة العائلة المقدسة، وكذا طريق واحة سيوة، وأخيرًا المُتحَف القومي للحضارة المصرية، وانطلقت الباحثةُ من خلال مفرداتٍ تراثيةٍ سياحيةٍ وثقافيةٍ فريدةٍ تميَّزت بها هذه الأماكنُ لتؤسِّسَ لمنهجيتها التي تقومُ على استكشاف واستخلاص أصول الملكيَّة الفكريَّة الكامنة في تلك المواقع ومدى إمكانية الاستفادة من أدواتها في المواقع السياحية المختارة كطريق أسوان نوب تماري الذي تجولَّت فيه ما بين المعابد والمقابر والكنوز الأثرية وكذا الكنائس والعمارة القديمة والأديرة ناهيك عن التقاليد الشفوية، ورصدت فيما رصدت من خلال ذلك كله اللهجات والآداب والحكايات والأمثال والأزياء التقليدية والرقصات الشعبية والأغاني أو بالأحرى الفلكلور الوطني. أما في خِضم حديثها عن واحة سيوة، فلم يفُتْ الباحثةُ أن تشيرَ إلى رحلات السفاري وأنشطة التزلج على الرمال راصدةً الطرقَ المختلفةَ للسياحة العلاجية ولا يخلو البحثُ من وصفٍ دقيقٍ للصناعات المحلية والحرف اليدوية الأصيلة وفنون التطريز وتقاليد الطهي الواحي. وعند الحديث عن السياحة الروحية نجدُ أن الباحثةَ قد استلهمت بكل صفاءٍ رحلةَ العائلة المقدسة لرصد المعالم والمواقع التاريخية والأثرية المؤثرة بما يخدمُ والهدفَ من دراستها كجزءٍ لا يتجزَّأُ من الهوية الثقافية. وفي السياحة التعليمية نجدُ أن الباحثةَ استنشقت ببراعةٍ عَبَقَ الحضارة المصرية من خلال تعرُّضها لكنوز المُتحَف القومي للحضارة المصرية كونه المُتحَفَ الوحيدَ في مصر الذي يعرضُ لكلِّ عصور حضارتنا.

وهكذا نجدُ أن تلك الدراسةَ لا تخلو من عزيمةٍ وثَّابةٍ في استخدام آليات الملكيَّة الفكريَّة وطوائفها المختلفة للنهوض بالسياحة والتُّراث الثقافي كأداةٍ للتنمية الوطنية تهدفُ إلى صون الوجهات السياحية واستغلال السمات التقليدية لكلِّ موقعٍ من المواقع الأربعة وكذا اقتراحُ الحلول لمواجهة التحديات الراهنة، ولا يسعُني أمام هذه الدراسة إلا أن انحني تقديرًا للباحثة التي استطاعت بمهارةٍ فائقةٍ أن تُرسِّخَ لتلك العلاقة الآنية والمستقبلية، والعملُ على إذكاء الوعي بهما.

 

* باحثٌ ومحامٍ فـي مجاليِّ الملكيَّة الفكريَّة وقانون سوق الفنِّ

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز