عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ياسر عمر أمين يكتب: حقُّ مؤلِّف النَّحات وإشكاليَّة التَّماثيل الميدانيَّة

ياسر عمر أمين يكتب: حقُّ مؤلِّف النَّحات وإشكاليَّة التَّماثيل الميدانيَّة
ياسر عمر أمين يكتب: حقُّ مؤلِّف النَّحات وإشكاليَّة التَّماثيل الميدانيَّة

في البدءِ، لأ يخفى على جلِّنا أنَّ الفنَّ شُعاعٌ يُشرِقُ نورُه على الأممِ، فيَزيدُ سلوكيَّاتِ بشرِها بهاءً وروْنقًا، وإنِّي أرى أنَّ الأمرَ لن يكونَ على مُرادِنا إلَّا إذا استطعنا أنْ نَبذُرَ في أراضينِ الفنونِ بذورَ المِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ لاسِيَّما في مجالِ الفنونِ البصريَّةِ وأنْ نُرسِّخَ فيها لحقوقِ مؤلِّفِ الفنَّانِ إزاءَ مصنَّفِه الفنيِّ.



أقولُ هذا بعدما باتت الاعتداءاتُ حجمًا وكمًّا تُخيِّمُ بسحائِبِها السَّوداءِ على إبداعاتِ حقوقِ المؤلِّفِ النَّحاتِ في الآونةِ الأخيرةِ؛ بل أمستْ تنخُرُ في جسدِ فنِّ النَّحتِ ذاتِه، وما كان ذلك إلَّا لأنَّنا أغفلنا أو تغافلنا تلك الحقوقَ التي أقرَّها تقنينُ المِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ المِصريِّ كي يحفظَ بها ومن خلالِها حقَّ مؤلِّفِ النَّحاتِ على مصنَّفِه .

فإِذا ما جالَ بصرُك فيما حولَك من "تماثيلَ ميدانيَّةٍ" على وجه الخصوصِ لَتُؤكِّدَ لذاتِك أنَّ الاعتداءَ صارَ يَسريِ على هذه التَّماثيلِ مَسْرىَ الدَّمِ من العروقِ، بل باتَ ينبُضُ بوجوه التَّشوُّه والقبائِحِ التي - أعزَّكَ اللهُ - لا ينبغي أنْ تراها الأبصارُ ولا تشعرُ بها القلوبُ لِمَا لها من تأثيراتٍ غايةً في السُّوءِ على هؤلاءِ المواطنين الذين نسعى وتسعى الدَّولةُ جاهدةً على تنْشِئَتِهِم تنشئةَ الشُّعورِ بالجمالِ لتنميةِ حِسِّ التَّذوُّقِ بداخِلِهِم، هذان هما اللذان تحْيَا بهِما المجتمعاتُ.

وتعودُ خصوصيَّةُ "التَّماثيلِ الميدانيَّةِ" كونُها تدخلُ في عِدادِ المصنَّفاتِ الكائِنةِ في أماكنٍ عامَّةٍ، تلك التي يَحكُمُها إطارٌ قانونيٌّ حادٌ وحاكمٌ، وهي في هذا تنتهِجُ نهجينِ: أحدهما يتعلَّقُ بذاتِ المبدعِ، وأمَّا الأخرُ فيتعلَّقُ بمقتضياتِ الدَّولةِ ودورُها في كيفيَّةِ الحفاظِ على ذا المصنَّفِ الفنيِّ المحميِّ بما يعِزُّ له كيانُه، وتبتهِجُ له رُوحُه. وهذا ما حَرَصَ عليه القضاءُ المقارَنُ حينما رسَّخَ لضرورةِ التَّوفيقِ بين مصلحتينِ متلازمتينِ لا ينبغي أنْ تفارِقَ إحداهُما الأخرى: مصلحةُ الفنَّانِ النَّحاتِ من جهةٍ، ومصلحةُ الدَّولةِ من جهةٍ أخرى، ناهيك عن ضرورةِ مراعاةِ مقتضياتِ المصلحةِ العامَّةِ والسَّلامةِ وكذا قواعدُ النِّظامِ العامِ.

وإِذا كان تمثالُ النَّحاتِ جسدًا ورُوحًا، فإنَّ الأمرَ لا يعني أنَّه حالَ انتقالِ الجسدِ تفنى الرُّوحُ، ومن هنا لابدَّ أنْ تلوحَ في الأُفُقِ حقوقُ مؤلِّفِ النَّحاتِ، المتمثِّلةُ في تلك الرُّوحِ التي ستظلُّ تهفو إلى جسدِها مهما انتقلَ أو تحرَّك، تلك الرُّوحُ هي حقوقُ الفنَّانِ الأدبيَّةِ الأبديَّةِ على مصنَّفِه التي لا يمكِنُ أنْ تغادرَه مهما بَانَ عنها. وهذا انعكاسٌ لمرآةِ القانونِ الذي أقرَّ صراحةً بأنَّه لا يترتَّبُ على تصرُّفِ المؤلِّفِ الفنَّانِ في مصنَّفِه الفنيِّ الأصليِّ - أيًّا كان نوعُ ذا التصرُّفِ - نقلُ حقوقِه الماليَّةِ أو بالأحرى حقوقُه الأدبيَّةُ.

هذا لأنَّنا لا يمكِنُ أنْ نتغافَلَ عن الحقِّ الأدبيِّ الذي يتمتَّعُ به الفنَّانُ النَّحاتُ على مصنَّفاتِه الكائنةِ في الأماكنِ العامَّةِ لاسِيَّما حقُّه الأدبيُّ في احترامِ المصنَّفِ، هذا الحقُّ الذي يُخوِّلُ له دفعَ أيِّ اعتداءٍ أو تجاوزٍ محتملٍ قد يقعُ على تمثالِه ويكونُ من شأنِه تعديلُه أو تشويهُه أو تحريفُه وفقًا لأحكامِ القانونِ. ويشملُ الأمرُ فيما يشملُ الإضافةَ أو الحذفَ أو التَّغييرَ كتغييرِ مكانِ التِّمثالِ أو الإضرارِ بوضعيَّتِه أو تغييرِ الخامةِ المستخدمةِ في صياغةِ التِّمثالِ، تلك التي يحلو ليَّ أنْ أقِفَ بحذْوِها كونُ "الدُّعامةِ الماديَّةِ" جزءٌ لا يتجزَّأُ من إرادةِ الفنَّانِ على تمثالِه الذي بَذَلَ من أجلِه أقصى عنايةٍ لإخراجِ عملِه الفنيِّ المأمولِ في أبهى صورةٍ يتمنَّاها.

ومن هنا كان لنا من ضرورةٍ للوقوفِ على احترامِ "الدُّعامةِ الماديَّةِ" كونُها تُعَدُّ عَصَبَ التِّمثالِ إنْ لم تكُنْ عمُودَه الفِقريَّ، ولِأنَّ الجسدَ بلا عَصَبٍ لا قيمةَ له والإنسانَ بلا عقلٍ يُعَدُّ فاقِدًا للهويَّةِ فكذلك المصنَّفُ بلا دُعامةٍ ماديَّةٍ، لأنَّها الظلُّ اللَّاصيقُ للفنَّانِ تسيرُ في رحابِه وتستظلُّ بظلِّه، ومن ثمَّ فلابدَّ معها من الحفاظِ على سلامةِ التَّكاملِ الماديِّ للمصنَّفِ ككلٍّ.

وحسبُك في هذا واقعةُ تمثالِ "أمِّ كُلْثُومِ" الكائنُ بناحيةِ الزَّمالكِ والذي أثارَ بدورِه إشكاليَّةً قانونيَّةً وجدنا من الواجبِ علينا أنْ نُدلِيَ فيها بدلْوِنا وهى: متى يكونُ إضافةُ الطِّلاءِ للتِّمثالِ "تزيينًا" أو "تجميلًا" أو "تحسينًا" ؟ ومتى يكونُ تقبيحًا أو تشويهًا بما يُمثِّلُ بدورِه اعتداءً على الدُّعامةِ الماديَّةِ للتِّمثالِ أو بالأحرىَ حقُّ المؤلِّفِ في احترامِ مصنَّفِه ؟

ومن هنا كان لابدَّ من أنْ يستوقِفَنِي نصُّ المادةِ (143/ ثالثًا) من تقنينِ المِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ المِصريِّ أنَّ للمؤلِّفِ "الحقَّ في منعِ "تعديلِ" المصنَّفِ تعديلًا يعتبرُه المؤلِّفُ "تشويهًا أو تحريفًا له"، لأنَّها بدورِها تدفعُ إلى الذِّهنِ بسؤالٍ يتعلَّقُ بمعرفةِ عمَّا إِذا كان "التَّزيينُ" أو "التَّجميلُ" أو "التَّحسينُ" يُعَدُّ من قبيلِ "التَّعديلِ" الذي يقعُ تحت طائلةِ القانونِ أم لا ؟ فإِذا ما عُدنا إلى المعجمِ اللُّغويِّ وجدنا أنَّ التَّجميلَ أو التَّحسينَ أو التَّزيينَ كلُّها صِفاتٌ انتقاليَّةٌ تعني الانتقالَ من حالٍ إلى حالٍ، وإِذا كان جلُّها يميلُ إلى "الحالِ الأفضلِ" فهل "الانتقالُ" في ضوءِ ما سبقَ يُعَدُّ بدورِه صورةً من صوَرِ "التَّعديلِ" طبقًا لنصِّ المادةِ ؟ في الحقِّ إنَّه بالتَّأمُّلِ فيما وَرَدَ في المعنى المعجميِّ لكِلْتَا اللَّفظتينِ وجدنا أنَّ "الانتقالَ" يعني "التَّحويلَ" أو "التَّغييرَ". فالانتقالُ إذن لا يعني بالضَّرورةِ "الحالَ الأفضلَ"، فقد يكونُ الانتقالُ من حالٍ أفضلٍ إلى "حالٍ أسوأ".

وبما أنَّ لفظةَ "التَّعديلِ" واسعةُ المحتوى، متعدِّدةُ المداليلِ، فإنَّها يندرجُ فيما يندرجُ تحتَها لفظةُ "التَّغييرِ"، إذن "التَّجميلُ" أو "التَّزيينُ" أو "التَّحسينُ" يُعَدُّ "تعديلًا" تنصرِفُ إليه عباراتُ النَّصِ، وربَّما ما كان هذا إلَّا لحكمةٍ ساميَّةٍ، ذلك لِأنَّ المُشرِّعَ في ضوءٍ من فنِّ الصِّياغةِ التَّشريعيَّةِ أرادَ أنْ يفتحَ البابَ على مِصراعيْهِ كي يتمكَّنَ القضاءُ من تكييفِ كلِّ عمليَّةٍ على حِدَه حتى لا يكونُ في ذلك لَيٌّ ليَدِ القضاءِ بل إرادةٌ لإطلاقِها إمعانًا في حمايةِ حقوقِ المؤلِّفِ. وإِذا كان "التَّعديلُ" قد يكونُ بالإضافةِ أو بالحذفِ فإنَّ "الإضافةَ" أو "الحذفَ" يجبُ ألَّا يُؤثِّرَا بدورِهما على سلامةِ المصنَّفِ، وإلَّا عُدَّ الأمرُ اعتداءً بلا جدالٍ. والأمرُ في البدايةِ والنِّهايةِ يخضعُ للسُّلطةِ التَّقديريَّةِ لقاضيِ الموضوعِ، إِذْ إنَّ للقضاءِ دورًا فاعِلًا وبارزًا ينبغي أنْ يضَّطلِعَ به عند تفسيرِه لمدلولِ ومفهومِ لفظةِ "التَّعديلِ" تبعًا لكلِّ حالةٍ على حِدَه.

ولنا في القضاءِ الفرنسيِّ أُسوةٌ حسنةٌ؛ ذلك حينما توسَّعَ في تفسيرِ عبارةِ "احترامِ المصنَّفِ" تفسيرًا واسِعًا لدرجةِ أنْ جعلَ معها مجرَّدَ "إضفاءِ لمْعَةٍ" على لوحةٍ فنيَّةٍ يُعَدُّ من قبيلِ الاعتداءِ على حقوقِ الفنَّانينَ، لأنَّه يخِلُّ بمبدأِ احترامِ حقِّ الفنَّانِ على مصنَّفِه باعتبارِه مرآةٌ لشخصيَّتِه (محكمةُ استئنافِ باريس، 12 ديسمبر 1997). ويحضُرُنيِ على سبيلِ المثالِ واقعةَ النَّحاتِ ريموند سودر Sudre الذي كان قد صمَّمَ ونفَّذَ نافورةً بُناءً على تكليفٍ من بلديَّةِ بيكزاس الفرنسيَّةِBaixas ،‏ لكنَّها تُرِكَتْ لأطفالِ القريةِ يعبثونَ بها، ممَّا أدَّى إلى تشويهِ جمالِها نتيجةً لإهمالِ صيانتِها؛ الأمرُ الذي جعلَ عُمدةَ البلديَّةِ يُصدِرُ قرارًا بهدمِها بعدما ساءَ حالُها،‏ فلجأَ النَّحاتُ إلى القضاءِ مطالِبًا بالتَّعويضِ نتيجةً لوقوعِ اعتداءٍ علي حقِّه الأدبيِّ، وقد حَكَمَ مجلسُ الدَّولةِ لصالِحِه بتاريخِ 3 إبريل 1936‏.

والشَّيءُ بالشَّيءِ يُذكَرُ، إِذا كان هذا هو الحالُ في فرنسا، فأنَّى حالُنا مع واقعةِ تمثالِ "أمِّ كُلْثُومِ" الذي كان قد صُبَّ من "خامةِ البرونزِ"؟ وتتجلَّى الإشكاليَّةُ عن كَثَبٍ ذلك حينما تمخَّضت أذهانُ البعضِ عن رغبةٍ فجَّةٍ في طِلاءِ التِّمثالِ، وعلى الرَّغمِ من أنَّ الهدفَ يبدو في ظاهرِه الرَّحمةُ إلَّا أنَّ العذابَ يضمُرُ في باطنِه، إِذْ إنَّ ما قامَ به هؤلاءِ عُدَّ تشويهًا صارِخًا للتِّمثالِ بما يُعَدُّ بدورِه اعتداءً سافِرًا على المصنَّفِ. فما اُعتُقِدَ - على غيرِ الحقيقةِ - أنَّه "تجميلٌ" أو "تزيينٌ" ما هو في الحقِّ إلَّا "تشويهٌ" أو "تقبيحٌ"، ذلك أنَّهم حينما قاموا بطِلاءِ ذا التِّمثالِ مستخدمين دهاناتٍ ملوَّنةً لا تتَّفِقُ مع طبيعةِ خامةِ البرونزِ، طمسوا بما فعلوه ملمسَ ثنايا التَّفاصيلِ، وأهدروا قيمةَ التِّمثالِ الثَّمينةِ التي أُبدِعَ من أجلِها لاسِيَّما أنَّ قيمةَ "البرونزِ" في حدِّ ذاتِها لا تظهرُ إلَّا من خلالِ ذاتِه كمعدنٍ، لا من خلالِ دِهانِه أو طِلائِه بما يَذهَبُ بقيمتِه وبريقِه كمعدنٍ نفيسٍ، ناهيك عن الأثرِ المدمِّرِ لاستخدامِ مثلِ ذه الدِّهاناتِ تلك التي سيترتَّبُ عليها مستقبلًا نوعًا من التَّشقُّقِ لا نتوقَّعُ منه إلَّا أنْ يُزادَ القُبحُ قُبحًا.

والخلاصةُ، أنَّه لا يستطيعُ كائِنٌ أنْ يستأثِرَ بمفهوميِّ "الجمالِ" و"القُبحِ" إلَّا مبدعُ المصنَّفِ ذاتِه باعتبارِ التِّمثالُ ثمرةَ إبداعِه، وانعكاسٌ لشخصيَّتِه ولرؤيتِه، خَرَجَ به إلى حيِّزِ الوجودِ وبالكيفيَّةِ التي أرادَها بمقتضى حقِّ المؤلِّفِ في تقريرِ النَّشرِ.

 

باحثٌ ومحامٍ فـي مجال الملكيَّة الفكريَّة

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز