عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

"لم تكن حناء الزواج قد جفت".. حكاية مأساة عمرها 100 عام

"لم تكن حناء الزواج قد جفت".. حكاية مأساة عمرها 100 عام
"لم تكن حناء الزواج قد جفت".. حكاية مأساة عمرها 100 عام

كتب - عادل عبدالمحسن

سردت الكاتبة الكردية نورجان بايسال في مقال نشرته بموقع "أحوال تركية" مآسي الأكراد في جبال الأناضول، حيث استجلبت ما عاشته جدتها من عمر امتد 102 عام، ذاقت خلالها الظلم أصنافا وألوانا، وبينما تستجلب الكاتبة الماضي الذي عاشته جدتها ترى الحاضر الكردي أكثر مأساوية، لما يتجرعونه يوميا من الظلم التركي.



ولنترك الكاتبة تسرد الظلم الذي يخيم على بني جلدتها، دون أن يكون له صبح يتبدد فيه، فتقول "نورجان بايسال" في مقالها بموقع "أحوال تركية": قبل أربع سنوات، فقدنا جدتي عن عمر ناهز اﻟ102 سنة. دائمًا ما كانت جدتي تقص عليّ أحداثًا قديمة؛ تعود إلى ما يزيد على مائة عام. كانت تحكي لنا عن جيرانها الأكراد، وكيف تعرضوا للضرب المبرح بمجارف حديدية؛ حتى فارقوا الحياة. كانت عيناها تفيض بالدمع في كل مرة تحكي لنا عن جيرانها، وما آل إليه مصيرهم.

كانت جدتي تحب أن تحكي، وهي تترنم ببعض الأغاني، معظمها مراثٍ حزينة. أذكر من بين هذه الحكايات واقعة حدثت عقب تمرد الشيخ سعيد؛ حيث قامت السلطات وقتها بتعليق بعض رجال المنطقة في الأشجار الموجودة في الفناء الخلفي لحديقة منزلنا في القرية. كان بعض من هؤلاء أقارب جدي، الذي كان شيخًا هو الآخر. ظلت جدتي، طوال عمرها، ترثي هؤلاء الرجال، الذين عُلِّقوا على الأشجار في ذلك اليوم. كانت جدتي تبكي بشدة، وهي تحكي، من بين دموعها، عن هذه الحادثة، وهي تقول "كانت أياديهم لا تزال في الحناء، والبعض منهم كان قد تزوج حديثًا. لم تكن حناء الزواج قد جفت بعد..".

حكت لنا جدتي كذلك كيف فرّت مع أسرتها إلى الجبال، وهي لا تزال في سن الطفولة، عندما داهمهم الجنود، الذين جاءوا بأعداد كبيرة، وكيف أنّ القرويين لزموا مواقعهم فوق الجبال، ولم يغادروها حتى غادر الجنود ديارهم، وتذكر كذلك أن بعضًا من الأطفال الذين فروا إلى الجبال كانوا يتعرّضون للهلاك بسبب نقص الطعام، وشدة البرودة على الجبال، في وقت كان الجنود يرابضون في منازلهم في القرية التي هجموا عليها لشهور؛ يأكلون ويشربون من طعامهم.

كانت جدتي تصف هذه الدولة بالدولة "الظالمة"، التي استمر الظلم والاضطهاد بها طيلة مائة عام. لم تستطع جدتي أن تنام طيلة هذه الفترة، ودائمًا ما كانت تردد "لقد سلب الظلم النوم من أعيننا".

ومن بين الأشياء التي سببت إزعاجًا كبيرًا لجدتي كذلك أننا صرنا نتحدث بنفس اللغة التي يتحدث بها هؤلاء الطغاة الظالمون. أخذنا لغة الظالم، الذي فرت منه جدتي طوال قرن من الزمان، ولجأت إلى الجبال، وهي لا تزال في سن الطفولة؛ لذلك كانت جدتي تقول "أصابتنا قذارتهم، وصرنا أتراكًا مثلهم. نتحدث بلغتهم، فوصمنا ظلمهم أيضا".

لم أكن أعي، عندما كنت طفلة، ما الذي تعنيه جدتي بحديثها هذا، ولكني أدركت الحقيقة عندما كبرت، ورأيت صنوف الظلم والقسوة على أيدي هؤلاء الظالمين في حي الشهادة "شهيدليك" الذي نشأتُ فيه. انتزع الظالمون أصدقاءنا وأقاربنا وجارنا "فيدات أيدينا" من بيننا. لم يسرق الظالم لغتنا فحسب، ولكنه سرق حياتنا كلها، وتركنا مع عار العيش في هذه الحياة.

كان أكثر ما يجعلني أشعر بالدهشة خلال تلك السنوات المظلمة، خلال فترة التسعينيات، أنني كنت أرى من يصفق بحرارة لهذا الظالم، عندما يقوم بقتل المواطنين في كل يوم تقريبًا، في الحي الذي كنت أعيش فيه. كان مثل هذا التصفيق للظلم والقسوة يخيفني كطفلة لم تكن تعي الكثير. كنت أتساءل ببراءة الأطفال "لماذا؟". كانت الحياة بسيطة جدًا بالنسبة إليَّ. كنتُ أقسم الناس إلى صنفين؛ أناس صالحين وآخرين أشرار. وفي حقيقة الأمر، إنني لا أزال أؤمن إلى الآن بهذا التصنيف لبني البشر، ولكني كنتُ أتساءل: لماذا لا يرى الآخرون ما نتعرّض له من ظلم واضطهاد؟

ومرّت السنوات. لم يتغير حال الظالم، أو من يصفقون له، بل ويمكننا القول إن أعداد الداعمين له قد زادت. وها هم الظالمون الطغاة يمارسون نفس اللعبة من جديد بنفس الكيفية التي فعلوها قبل قرن من الزمان.

لقد أعطى الطاغية أردوغان أوامره، وراح يدق ناقوس الحرب من جديد، والتفّ الجميع حوله، يؤازرونه تحت شعار "الوحدة والنسيج الوطني".. حتى الذين كانوا يعدون للاحتجاج؛ دفاعًا عن الطبيعة في جبال إيدا (كاز)، أرجأوا، هم أيضا، احتجاجاتهم للسبب نفسه؛ من أجل الوحدة والنسيج الوطني"، وأعلن الجميع؛ من منظمات الأعمال، إلى المجتمع التركي- اليهودي، إلى البطريركية الأرمنية دعمهم للظلم. وبدورها سارعت جبهة المعارضة الرئيسة إلى تقديم الدعم للظلم وللموت بقولها له "نحن جنبًا إلى جنب". لقد تراصّ الجميع من الفنانين والسياسيين؛ ليشددوا من أزر الجنود الأتراك، بل وطالبوهم بأن يعيدوا إليهم الفرح.

إن مثل هؤلاء لم يعرفوا ماهية الحرب، ولم يعرفوا الموت والقتل. إنهم لا يعرفون ما يصيب القلب جراح جراء ذلك. إنهم يجهلون، بكل تأكيد، ماذا يعني الألم والحزن والحداد. إنهم لا يعرفون أنه سواء أكنت منتصرًا أم خاسرًا فإنك لن تستطيع أن تعود بالفرح!

آه يا جدتي! وددتُ أن أصرخ بأعلى صوتي قائلةً "لم يتغير شيء منذ 100 عام". لم يتغير شيء يا جدتي. لا يزال الطفل الذي بكى في جنازة فيدات أيدينا في حي شهيدليك، والطفل الذي فر إلى الجبال في قرية "دجلة"، قبل مائة عام؛ هربًا من بطش الطغاة، لا يزال يبكي الآن أيضا في روج آفا "الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها" ونصيبين يا جدتي! لا يزال النوم يجافي أعين الأكراد مرة أخرى يا جدتي. هناك ألم ومعاناة ودموع وغضب وحداد حيث يوجد الأكراد في كل مكان؛ من ديار بكر إلى إسطنبول ولندن وبروكسل وأمريكا وإيران والسليمانية.. لقد منعنا الظالم من النوم يا جدتي.

أرى مشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي للرئيس العام لحزب السعادة تمل كرم الله أوغلو والعديد من السياسيين الآخرين من قبيل "كان الله في عوننا في عملية نبع السلام". لا سامحكم الله! إن مئات من الناس، وربما الآلاف يحكم عليهم بالموت والتشريد والنفي خارج الوطن بسبب هذه الحرب. لا سامح الله كل من جعل الأطفال يعيشون تلك المأساة، التي تضرب بجذورها حتى مائة عام مضت!

فقدنا جدتنا، عائشة تيفور، في يوم 8 أكتوبر 2014، الذي وافق أيضا أحد الأيام التي أظهر فيها الظالم طغيانه وبطشه، تزامنًا مع الأحداث التي وقعت في مدينة كوباني، وما تبعها من إعلان حظر التجوال في ديار بكر كذلك. كانت تلك هي ممارسات الظالم التي عهدناها. أذكر أننا لم نتمكن من الوصول إلى القرية، ولم نشهد جنازتها.

ربما كان من حسن حظك أنكِ لم تشهدي هذه الأيام؛ فقد مر الآن عقد من الزمان، ولم يتغير شيء يا جدتي!

  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز