عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

طه حسين.. هبة المحبة والثقافة للعالم

طه حسين.. هبة المحبة والثقافة للعالم
طه حسين.. هبة المحبة والثقافة للعالم

كتبت - د. عزة بدر

لم تكن الرسالة التى أعدها طه حسين فى السوربون عن ابن خلدون والتى ترجمها محمد عبدالله عنان وحدها درة كتابات طه حسين التى كتبها بالفرنسية، ولا دراسته الشهيرة التى ألفها عن «البيان العربى من الجاحظ إلى عبدالقاهر» والتى ترجمها عبدالحميد العبادى من الفرنسية تحت إشراف طه حسين هى الوحيدة التى عبقت بعطر الشرق الذى نقله عميد الأدب العربى إلى الغرب مُعرفًا بالبيان وبالفكر اللغوى والثقافى العربى، بل إن هناك العديد من الكتابات التى كتبها طه حسين بالفرنسية وحملت عبير هذا التفاعل الثقافى الحُر بين الشرق والغرب، فكان أديبنا سفير الثقافة، القوة الناعمة والمثاقفة التى كان لها صداها تأثيرًا وتأثرًا من خلال ما ترجمه من الثقافة العربية إلى الفرنسية.



 

وما كتبه عن الأدب والثقافة الفرنسية، ومن خلال علاقته الوثيقة بالأدباء والشخصيات المؤثرة التى التقى بها أو تعرف إليها عن قرب مثل الأديب الفرنسى أندريه جيد، ومشاركته فى دورات ومؤتمرات اليونسكو التى عُقدت فى باريس عامى 1950، 1951، بل فى كل المحافل الدولية التى أسهم فى فعالياتها.

 

 سفير الثقافة العربية

بل استطاع طه حسين أن يكون بحق سفيرًا للثقافة العربية، ومثقفًا فاعلًا فهو أول من دعا اليونسكو إلى إنشاء مقر لمركز ثقافى يتكفل بالتعليم الأساسى لا فى إفريقيا وحدها، وفى جميع بلدان القارة فقط، لكن فى كل البلاد العربية، وقد استطاع طه حسين حينذاك أن يحصل على موافقة اليونسكو على إنشاء المركز فى قرية سرس الليان.

 

الدور الحضارى لمصر

لقد كان طه حسين يكتب وهو يؤمن بالدور الحضارى لمصر فكان يقول: «يكفى أن نقرأ هيرودوت حتى ندرك أن مصر واليونان القديمة قد ابتدعتا التعاون الفكرى، وكان ذلك فيما يبدو لأول مرة فى العالم، ولم تفتأ مصر منذ ذلك العهد تضطلع بالدور الذى فرضه عليها تاريخها ووضعها الجغرافى، فهى بحكم مكانها فى العالم همزة الوصل بين الغرب والشرق، وهى بحكم تقاليدها ظلت دائمًا ترجمانًا للغرب لدى الشرق، وترجمانًا للشرق لدى الغرب فقد تلقت الثقافة الهيلينية وحفظتها ونشرتها، كما تلقت وحفظت ونشرت الثقافة الإسلامية، وهى قد استطاعت بأداء هذين الدورين خلال تاريخها وأن تسهم فى التوفيق بين أهم العناصر فى التراث الثقافى.

«من كلمة طه حسين فى الدورة الخامسة للمؤتمر العام لليونسكو التى عُقدت فى فلورنسة 1950». وقد ترجمها د.عبدالرشيد الصادق محمودى عن الفرنسية، ونشرها فى كتابه «طه حسين من الشاطئ الآخر- كتابات طه حسين الفرنسية» الكتاب الصادر عن دار الهلال، عدد 559- يوليو 1997.

 

طه حسين من الشاطئ الآخر

وقد كشف عبدالرشيد محمودى عن أجمل مقالات طه حسين المكتوبة بالفرنسية كما جمع خطبه التى ألقاها بالفرنسية فى دورات اليونسكو كما أشار بالنقد إلى بعض ما ترجم من هذه الكتابات ونقل إلى العربية.

سطر فى رواية الأديب الفرنسى أندريه جيد أشار فيه إلى مقالة لطه حسين بالفرنسية عن أندريه بعنوان: «هبة الحديث والصداقة» فتحت عالمًا ثريًا لعبدالرشيد محمودى ليكشف عن كتابات طه حسين بالفرنسية وأن يكتب عن عمق صلات العميد بالأدب وبالأدباء الفرنسيين، بل استطاع أن يكشف من كتابات العميد ما تناول فيه أثر الحضارة العربية فى الحضارة الفرنسية.

وإن إلقاء الضوء على هذا الكتاب «طه حسين من الشاطئ الآخر» لعبدالرشيد محمودى من الأهمية بمكان للإشارة إلى دور مصر الحضارى، والتفاعل الثقافى تأثرًا وتأثيرًا والذى كان طه حسين من أوائل من دعوا إليه، وأسهموا فيه، وما أحوج هذه الكتابات لتدارسها والكشف عنها بل البحث عن آثار طه حسين المكتوبة بالفرنسية التى يقف منها هذا الكتاب بمثابة الإضاءة القوية فى درس عناصر التفاعل الثقافى، ودور مصر كحلقة للوصل بين الشرق والغرب. وقد أشار عبدالرشيد محمودى إلى بعض ما ترجم من كتابات طه حسين عن الفرنسية ومنها مقالة عن المتنبى، وقد ترجمها عبدالعاطى جلال فى مجلة الثقافة المصرية فى نوفمبر 1974 تحت عنوان: «مغامرة شاعر جريئة»، ومقالة لفؤاد دوارة بعنوان «دور الكاتب فى المجتمع الحديث» نشرها فى مجلة «عالم الفكر» عدد أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر 1980.

وقد أشار عبدالرشيد محمودى إلى مسألة مهمة وهى أن أشمل وأدق قائمة ببليوغرافية نشرت عن طه حسين لا تتضمن أى إشارة تدل على أن لعميد الأدب العربى إنتاجًا بالفرنسية.

 

وثيقة فريدة

وتكشف كتابات طه حسين بالفرنسية عن وثيقة فريدة فهى المقالة الوحيدة التى نقد فيها طه حسين الأستاذ الإمام، فقد كتب عن الإمام محمد عبده أكثر من مقالة وكان يشيد فيها به ويصف تأثيره على تلاميذه لكن هذه المقالة وهى بعنوان: «الأستاذ الجليل الشيخ محمد عبده» والتى نشرها العميد فى مجلة un effort الفرنسية.

فى يونيو عام 1934 تكشف عن رأى العميد- بعد أن يفرغ من حديث الإشادة بالإمام محمد عبده- فيرى مدى المسافة الفاصلة بين رؤية محمد عبده كرائد من رواد الإصلاح وبين الجيل الذى تلاه من أنصار الحداثة كطه حسين.

 

التجديد المنشود

وتكشف المقالة التى كتبها العميد بالفرنسية عن روح التجديد الخلاقة التى حمل شعلتها طه حسين بأفكاره التنويرية، ونقده الثاقب لمحاولات الرواد التجديدية فى مجال الفكر الدينى فهو يقول:

كان المفتى الأكبر هو الشيخ محمد عبده، وكان سيد الأزهر دون منازع، وكان محبوبًا من قلة قليلة، مرهوب الجانب من الجميع، ولكنه كان يدير الجامعة العريقة ويبث فيها حياة جديدة، ويطبعها بطابع العصر بحزم لا يتزعزع، ولكن بلباقة لا متناهية، وهاتان هما الصفتان اللتان تميز بهما فى الواقع ذلك المصلح العظيم، فلقد كان مسلمًا شديد الإيمان بالإسلام، شديد التمسك بالسُنة الفقهية لكنه كان قوى الإيمان بالتقدم، وكان يريد مخلصًا غاية الإخلاص أن يوفق بين هاتين العقيدتين، وبدأ بأن أدخل فى برنامج التعليم الأزهرى عددًا من المواد التى من شأنها أن توقظ الفكر وتوسع من آفاقه ولكن دون أن تفتح أبوابه للشك، وهى التاريخ والجغرافيا والأدب وبعض مبادئ الحساب والرياضيات، وحَرَّم على نفسه كما حَرَّم على غيره ذكر الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية فقد كانت تلك أسماء يقف لها شعر ذلك الجيل من الأزهريين الذين كانوا يعتقدون أن كل المواد التى تُدرّس فى المدارس المدنية ضارة كريهة، ولابد أن تودى إلى التهلكة. ويضيف العميد فى نقد الإمام محمد عبده: «فهو لم يكن يُدرس شيئًا جديدًا كل الجدة، ولم يكن يحيد فى شىء عن التقاليد الموروثة وإنما كان يلتمس أسس تعاليمه فى أقدم الكتب الكلاسيكية، وأكثرها حظًا من التوقير فكان يدرس البلاغة والمنطق والتفسير، وكان ينصرف لهذا الغرض من الكتب المألوفة، ويبعث المؤلفات القديمة التى لم يعد معاصروه يعرفون منها إلا عناوينها، أما منهجه فى التدريس فقد كان جديدًا كل الجدة فقد كان يولى عناية فائقة لما يتعلق بالأفكار، وكان يحرص على كل ما من شأنه أن يحفز إلى التفكير والتمعن، وكان يسائل تلاميذه، ويحثهم على أن يسائلوه ثم كان يحاول أن يدفعهم إلى الإجابة ويناقشهم فيها وينتهى بذلك إلى أن يفتح لهم آفاقًا غير معروفة، ولقد غرس فيهم الرغبة فى الاطلاع والنقاش، ودفعهم إلى حب حرية الفكر، وعلمهم التعبير عن آرائهم ولعل هذا هو ما سيبقى منه على وجه التأكيد فذلك هو إنجازه الحقيقى.

ويصف طه حسين شعوره تجاه الإمام محمد عبده فيقول: «ما من شىء يمكن أن يمحو من نفسى ذلك الصوت الذى لا نظير لعذوبة نبراته وهو يتلو آيات القرآن الكريم أو لحرارة إيمانه، وقد شرع فى التفسير، أو لقوة اقتناعه وهو يحاول أن يثبت أنه لا يخرج على ما أقره العلم الحديث، وأنه لا يعارض فى شىء من متطلبات الحضارة الغربية، وكان طلابه يستمعون إليه فى شغف وإعجاب وفيما يشبه النشوة الصوفية».

لكن العميد لم يستسلم لهذا الإعجاب الآسر بالشيخ محمد عبده وإنما لم يعد كان قادرًا على نقده فقال: «أن محمد عبده مواكبًا للعصر، وإذا بلباقته فى إحداث التجديد تعوزها الجسارة، ولم يعد يكفى التفكير والكلام، فهناك محاولة للعمل، وصارت كل أفكار محمد عبده بشأن العلم والدين لم تعد تتواءم مع انطلاق الشرقيين نحو الحرية الكبرى، وقليل هم المسلمون الذين يهتمون بالتوفيق بين إيمانهم والمعارف التى حصلوها وهم يندفعون بابتهاج نحو الحضارة الغربية ويتخذونها مثلا أعلى.

 

نقد العميد للإمام محمد عبده

ويرى العميد أن مذهب محمد عبده فى حد ذاته لم يكن صالحا للبقاء فقد كان يعتمد على تفسير النصوص للتوفيق بين عبارات القرآن ذاتها وحقائق العلم كما نعرفها اليوم.

 وكان رأى طه حسين هو «أن نتقبل العلم والوحى كما هما، وأن نعترف لكل منهما بمجاله الخاص فى حياة الإنسان، ذلك على الأقل ما تراه الأجيال الجديدة من المثقفين الذين لم يستمعوا إلى الشيخ محمد عبده وإن كانوا قد استمعوا إلى أساتذة الغرب». لكنه يضيف قائلا: «ولاشك لديّ فى أنه عندما ينتهى تطور الشرق إلى شىء من الاستقرار سوف يعود الناس فى بلادنا بدورهم إلى التفكير من جديد فى التقريب بين الدين والعلم، ولكننى لا أعتقد أن هذا سيحدث بالطريقة التبسيطية التى اتبعها محمد عبده فهو رغم صدق نواياه ونقائها قد أقام أدلته – دون أن يدرى – على حساب النصوص الدينية بيد أن هذا لن يمنع كل محب للنفوس العالية المخلصة من أن يعترف لمحمد عبده بعلو نفسه وإخلاصه ومن أن يُكّن له كل ما يستحق من احترام عميق».

 

الإسلام والغرب

ومن مقالات طه حسين التى ترجمها عبدالرشيد محمودى أيضا مقالة مهمة بعنوان «الاتجاهات الدينية فى الأدب المصرى المعاصر»، وقد نشرت فى عدد خاص من مجلة فرنسية عام 1947 عن «الإسلام والغرب»، وقد تولى إعداد هذا العدد إميل درمنجم، ومن المقالات التى تضمنها العدد فضلا عن مقالة طه حسين، بيان للشيخ مصطفى عبدالرازق «شيخ الأزهر حينذاك»، ومقالة للدكتور محمد حسين هيكل عن «أوروبا والإسلام لما لا يتفاهمان»، وقد تعرض العميد فى هذه المقالة إلى حديث عن كتابه «الشعر الجاهلى» وما أحدثه من ضجة مؤكدا على أنه ليست هناك قطيعة حقيقية بين الحداثة والإسلام فيقول: «ثمة حدثان يدلان على التقدم الذى أحرزه استقلال الفكر فى مصر خلال تلكم السنوات السعيدة – ويقصد وقت انبعاث الحركة الوطنية فى عامى 1918-1919.

فيقول: «كان أولهما صدور كتاب على عبدالرازق عن الخلافة حيث حاول المؤلف أن يثبت أن هذا النظام دنيوى بطبيعته لأنه لم يذكر لا فى القرآن ولا فى الحديث ولأن النبى نفسه لم يعين خليفة له، ومن سوء حظ هذا الكتاب أن توافق صدوره مع ظهور حركة رجعية مناهضة للدستور الديمقراطى، فقد عبأت السلطات العامة الشيوخ من علماء الأزهر، ولما كان المؤلف قد تخرج فى هذا المعهد العريق فقد حاكمه أقرانه وأدانوه، وفصل من وظيفته كقاضٍ شرعى، ولكنه حقق بذلك شعبية ضخمة، وحظيت دعواه بتأييد كل من كان له شأن فى مصر بما فى ذلك الأغلبية الساحقة من الأزهريين أنفسهم !، ولم يتعرض المؤلف لأى أذى خلاف ذلك ويضيف طه حسين: والآن وقد مر على صدور كتابه عشرون سنة تقريبا لم يعد أحد يعتقد أن الخلافة نظام دينى حتى بين الذين أدانوا على عبدالرازق من قبل، ويبقى أن نذكر أنه اليوم عضو بمجلس الشيوخ، وأن أخاه هو شيخ الأزهر الأكبر. هكذا كان حديث طه حسين وهو ما يشير إلى تطور الفكر الدينى فى عصره، ولم يكن يعلم بالطبع أن هناك من سيدعو إلى الخلافة فى عصرنا الحالى.

 

انتصار حرية التفكير والتعبير فى العالم الإسلامى

ويشير العميد إلى كتابه «الشعر الجاهلى» فيقول: «وقد انتهيت فيه إلى رفض قدر كبير من هذا الشعر الذى وُضع حسبما رأيت – فى وقت متأخر هو القرن الثانى للهجرة لأسباب مختلفة، وفى إطار ذلك المسعى شككت فى بعض المعتقدات التى لا تمس الدين، وإن كان قد ذكرت فى القرآن أو فى الأحاديث النبوية، وكانت الصدمة قاسية والاستنكار واسع النطاق فقد كان احتجاج الأزهريين وأساتذة التعليم المدنى عنيفا، وثارت ثائرة السلطات العامة، وعُرضت القضية على البرلمان وطالب البعض بفصل المؤلف بل بإلغاء كرسى الأدب العربى الذى كان يشغله، ولكن على الشمسى باشا وزير المعارف العمومية فى ذلك العصر وقف إلى جانب حرية الفكر، وطرح رئيس المجلس عدلى باشا موضوع الثقة، وتقرر تلافيا لوقوع أزمة وزارية خطيرة إحالة الموضوع إلى النيابة فأمرت بعد التحقيق ومواجهة المؤلف بممثلى الأزهر بحفظ القضية»..

ويؤكد طه حسين أنه بفضل هذين الحدثين توطد بصفة نهائية انتصار حرية التفكير والتعبير فى العالم الإسلامى لا فى مواجهة السلطات فحسب، ولكن فى مواجهة الرأى العام خاصة وهو الأهم فقد ترك الكاتبان وشأنهما فيما عدا ذلك، وأصبحت آراؤهما فى النهاية أمورًا مقررة، وقد صارت قدسية الخلافة وصحة الشعر الجاهلى فى عداد الأساطير بل إن اللغة العربية التى كانت فى الماضى معصومة من النقد لقداستها أصبحت تعتبر الآن ظاهرة دنيوية وتحت تصرف الناطقين بها، ومهما تكاثرت الحركات الرجعية السياسية فى العالم العربى فإن الحرية فيما يتعلق بشئون الفكر لم تعد عرضة للخطر، ومثال ذلك ما حدث فى أوج الرجعية «1933» فقد حاولت الحكومة المصرية بناء على طلب من الأزهر أن تحظر نشر كتاب قديم فى التاريخ بدعوى أن فى الكتاب إساءة إلى الإمام أبى حنيفة، لكنها لم تحقق ما أرادت، وكان الرأى العام أقوى من الحكومة والأزهر مجتمعين.

فما أحوجنا اليوم إلى هذه الحرية فى التفكير والتعبير، وما أحوجنا اليوم إلى رأى عام قوى كما وصفه طه حسين فى تلك الأيام البعيدة.

 

تأثير وتأثر

ويصف طه حسين هذا التفاعل الثقافى بين الشرق والغرب من خلال كتابين فرنسيين كان لهما تأثير قوى على أدباء مصر وبفعل التأثير والتأثر أنتج أدباؤنا كتبا رائعة، ويورد طه حسين قطوفًا من ذلك فى مقالته المترجمة عن الفرنسية بعنوان: «الاتجاهات الدينية فى الأدب المصرى المعاصر» فيقول: «الكتابان الفرنسيان اللذان أشعلا ذلك جد مختلفين، أولهما كتاب جول لوماتر «على هامش الكتب القديمة»، وثانيهما كتاب «حياة محمد» بقلم إميل درمنجم، وقد تناول محمد حسين هيكل هذا الكتاب الأخير بالعرض فى سلسلة مقالات عنوانها «حياة محمد» عرض ونقد لكتاب درمنجم، وصدرت فى ملحق السياسة عامى 1931، 1932.

وبعد هذا العرض والنقد الذى حفز حسين هيكل ليدرس هو نفسه حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وأن يكتبها من منطلق حديث إلى حد ما فقد أراد أن يُخضع تاريخ تلك الفترة البطولية للدراسة وفقا للمنهج العلمى الدقيق، لكن طه حسين يوجه نقدا لمحمد حسين هيكل فيقول: لأن مؤدى تلك المحاولة هى خروج السلفية التقليدية ظافرة على الدوام وحسب رأيه: «فقد نسى حسين هيكل أن بعض الوقائع لا تخضع ولا يمكن أن تخضع لضوابط العلم، ومثال ذلك البرهنة على أن إسماعيل وليس إسحاق هو الذى واجه محنة الفداء، والتدليل بطريقة علمية على إمكان الرحلة التى قام بها النبى صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به من مكة إلى بيت المقدس وعاد فى غضون ليلة واحدة، إلى آخر كل هذه الأمور التى تتصل بالإيمان ولا تتصل بالعقل»، ويرى طه حسين أن حسين هيكل قد طبق فى كتابه منهج جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده، فقد أرادا بأى ثمن أن يوفقا بين العقيدة الإسلامية وبين العلم والحضارة المعاصرة.

وهنا يعلق العميد فيقول: «وقد لقى كتاب حسين هيكل نجاحا منقطع النظير فى العالم العربى كله بين أصحاب الثقافة الرفيعة وعامة الجمهور على حد سواء، وهو ما أثبت أن الشعوب الإسلامية تطمح بحق إلى الحضارة الحديثة ولكنها لا ترغب مع ذلك فى التخلى عن التراث» ويشير العميد إلى كتابات محمد حسين هيكل الذى نشر على التوالى حياة الخليفة الأول أبو بكر، وحياة الخليفة الثانى عمر بن الخطاب، وحياة الخليفة الثالث عثمان، كما أشار إلى كتابات العقاد فى هذا المجال الذى اضطلع بسلسلة من الدراسات عنوانها: «العبقريات»: «عبقرية محمد»، وعبقرية خليفتيه أبى بكر وعمر، وعبقرية خالد بن الوليد، وعبقرية مؤذنه بلال، وعبقرية الخليفة الرابع على بن أبى طالب، إلا أن طه حسين يرى أن العقاد لا يتابع هيكل فى منهجه فهو لا يرمى إلى التأريخ، ولا إلى كتابة الأدب الخالص وإنما يعرض تأملاته التى تكاد تكون فلسفية على طريقة كارلايل.

 

على هامش السيرة

ويبدو أن كتاب جول لوماتر الكاتب الفرنسى «على هامش الكتب القديمة» قد أثر أيضا فى طه حسين فجعله يطرح على نفسه الأسئلة ومنها هل إحياء أخبار وأحاديث عصر البطولة فى الإسلام أمر ممكن أم غير ممكن؟، وهل بوسع اللغة العربية الأدبية المعاصرة أم ليس بوسعها أن تساعد على إحياء هذه الأخبار والأحاديث؟ ثم تحولت الأسئلة فى نفس طه حسين إلى إجابة؛ فقد سطع كتابه «على هامش السيرة» يقول: «وقد نشرت هذه المجموعة من القصص بعنوان استلهمته من جول لومتر، وهو «على هامش السيرة»- وهو ما يثير فى رأيى قضية التفاعل الثقافى بين الشعوب، ومستويات التأثير والتأثر التى لا بد لنا من دراستها على أوسع نطاق وبين أيدينا هذا المثال الساطع بين طه حسين وجول لوماتر». ويستطرد طه حسين فيقول: «على هامش السيرة كان عملا من أعمال الخيال فقد أخذت من بعض الأساطير لبابها، وسمحت لنفسى بقدر كبير من الحرية بوضع أو ابتكار الإطار الذى يخاطب العقل المعاصر عن قرب مع الاحتفاط فى الوقت نفسه بطابع القدم».

لكن طه حسين يخلص إلى رؤية مهمة لا بد أن نثبتها فى هذا المقام وهى: «إن البعض ليتوهم أن رواج هذا الأدب يعنى عودة رجعية إلى التراث، أو استعادة لنزعة المحافظة كما كانت فى الماضى ولكن الواقع على خلاف ذلك تماما، وذلك أن العالم العربى المعاصر قد انتهى إلى موقف شديد التناقض منذ نهاية القرن الماضى فقد دفعته ظروف الحياة الحديثة إلى الأخذ بالحضارة الغربية ولكنه بقى مع ذلك مستمسكا بالتراث متعلقا بالمثل العليا الدينية، وكان يتجاذبه هذان المطلقان: المأثورات العقائدية من ناحية والحضارة الليبرالية من ناحية أخرى إلا أنه تحرر من ذلك وتهيأ لتذوق التراث بعد تجديده، وإعادة النُضرة إليه، ولأن يحيا ماضيه من جديد ناظرًا إلى المستقبل بحرية»، ويرى طه حسين فى ذلك إقرارا وانتصارا للكفاح من أجل حرية الفكر، ومن أجل استمرار ذلك الماضى الذى يسعى العرب إلى صونه لكى يواجهوا المستقبل واثقين مستبشرين.

 

عن «الباب الضيق»

أما مقالة العميد «هبة الحديث والصداقة» التى ترجمها عبدالرشيد محمودى، وكانت قد نشرت فى عدد خاص من مجلة فرنسية عام 1951 تكريما لآندريه جيد الكاتب الفرنسى الشهير بعد وفاته- والتى تحدث فيها عن صداقته الفكرية مع أندريه جيد، ولقائهما فى مصر وفى باريس، والذى نجم عنه ترجمة العميد لرواية أندريه جيد «السيمفونية الريفية» فيما بين عامى 1936، 1937، فأتاح لقراء العربية أن يكتشفوا هذا الأديب الفرنسى لأول مرة.

وكان أندريه جيد قد كتب فى كتابه «الباب الضيق» والذى ترجمه إلى العربية نزيه الحكيم- ونشر فى مقدمته رسالة آندريه ورد طه حسين عليها، وكان آندريه يرى أن كتابه ذاك لن يفهم ولن يحب فى بلد مسلم لأن الإسلام كما رآه- دين يقدم الأجوبة ويدفع العقل إلى الطمأنينة المطلقة فلا يدع مجالا للقلق وحسب عبارته: «العالم المسلم فيما بدا لى يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من الأسئلة». إلا أن رد طه حسين عليه كان من الأهمية بمكان، فقد قال له فى خطاب مفتوح: «إن الإسلام الذى شُرح له، أو الذى اعتقد أنه يعرفه لا علاقة له بالإسلام الحقيقى، وأن من المؤكد أن الإسلام لا يخلو من القلق، وأن الشرق المسلم جدير بأن يهتم بكتابه اهتمام الغرب المسيحى».

والمثير فى الأمر أن آندريه جيد فى لقائه مع طه حسين استفسر كثيرا عن الإسلام بعناية ودقة، وألقى على العميد الكثير من الأسئلة، وبعدها اعترف- آندريه جيد قائلا: «أعترف بأنك قد أصبت فى خطابك الذى لم أقرأه إلا عند وصولى إلى مصر».

.. هذا هو طه حسين سفير الثقافة العربية، هبة الحوار والصداقة والأسئلة، بل هو هبة المحبة والثقافة لمصر والعالم.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز