عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ريهام رأفت سليمان تكتب: بنات الغلابة

ريهام رأفت سليمان تكتب: بنات الغلابة
ريهام رأفت سليمان تكتب: بنات الغلابة

تفتح شباك البيت العتيق من فوق أريكة مهترئة، متكئة بنصف ركبة عليها تساعدها على الوصول، ها هو النور الخفيف يتدفق إلى الداخل قليلا ككل شيء ترميه الحياة في وجوههم. الفقر يستحوذ كل مادة وكل روح هنا لا سبيل إلى الفرار من حال فرض نفسه، منذ تشكلت اللبنة الأولى في بيت عبد الكريم وبناته.



ثلاث فتيات حاصلات على درجة الدبلوم في سلم التعليم باستثناء نجاة، التي تخطط للصعود إلى ما هو أرقى، تتكفل كل منهن بنفسها لكن ما يحصلن عليه لا يكفي متطلبات هذه الكفالة، وعبد الكريم رب الأسرة التي ينقصها عنصر الأمومة عامل لا راتب له سوى الناتج اليومي للبيع والشراء، أسرة مغلوبة على أمرها مزقها سيف الحياة النافذ، ولا اختيار لها سوى أن تعيش.

تصيح نجاة الابنة الوسطى لعبد الكريم وأكثر أعضاء البيت نشاطًا: إنها السابعة لينهض الجميع إلى ما تيسر له.

تَهب أمل وتتبعها حياة في خطوات متعجلة، وصياح لا داعي له، بدافع إثبات الأولى أنها الكبرى وكل حجج وقوع سيطرتها على من هم أصغر داخل هذا البيت في صالحها، فتضحك نجاة على هذه المداعبات الصباحية في بيت تكثر فيه نزعة الحاكمية، دون وجود من يصلح لها، وينتهي الحال المتكرر بصوت الباب، وهو ينسحب في يد إحداهن، محدثًا صوت الانغلاق وراء آخر من تخطت عتبات المنزل ذاهبة إلى عملها.

تجلس نجاة فوق أحد الأرصفة المجاورة لمحطة سيارات النقل وتتأمل حركة النهار، والروح تدب في كل الأشياء محدثة سلسلة لا نهاية لها من الأماني والتطلعات، فتهب واقفة تراقب الطريق ثم تسحبها قدم وراء الأخرى؛ لتتسكع في هذه الطرقات المزدحمة فترى الدنيا والناس وكل ما وضع له قانونًا صارمًا في بيت عبد الكريم بعدم التجرؤ على فعله أيًا كان الحال أو الظرف.

تستمر حتى ينتهي بها المسير إلى سور الجامعة فتقف تجز أضراسها ولهًا بهذا المكان، وتعد وتمني نفسها بيوم تكون فيه أحد المنتسبات إليها.

يدفعها جرس الساعة العليا المحاطة بأسوار الجامعة إلى الذهاب للعمل المنتظر بخطوات واسعة تتحول مع كل دقة إلى هرولة، كالعادة تنتهي بتأنيب رئيسها في العمل رفضًا لهذا التأخير والمرقعة – كما يسميها في لغته المتأخرة- ثم الابتسامات الفارغة التي تنشد القبول ومرور الاعتذار.

تكره نجاة هذا الرجل وكل الرياء الساطع في حياته، وكلما وجه لها حديثًا لا يعجبها تتمتم بكلمات غير مفهومة تنتهي بتمني أسوأ مصير له والأكثر إثارة للضحك بالنسبة لها، وكثيرًا ما تتشارك هي وجمع العاملات من حولها سيرته مع كل السير المستجلبة في جلسات الراحة أو حتى غياب عين المراقبة عنهن، كل بهدف التسلية والمزاح وإشاعة البهجة وإزاحة الهم قبل أن يأتي من يعكر صفو الخاطر أو البال.

فيأتي من ضمن ما يأتي خبر زواج ابنة عم طاهر المسؤول عن التعاملات الحكومية للمصنع، والتي تفوقت حتى بلوغ الجامعة لكنها ستضطر إلى إنهاء كل شيء لتذهب إلى مهمة أكثر سموًا، كما يرى والدها، إذ لم يعد في مقدوره تحمل تكاليف آمال وطموحات ابنته الوحيدة، فما كان له سوى أن يسعد بها ويدفعها إلى من لا تحب أو ترغب، المهم أن يتخلص من هذا العبء الذي لم يحسب له أو ينظر خلال انغماسه في الوهم البراق الذي يعده بقدوم كل ما هو جميل دون أدنى جهد منه أو تخطيط.

تتذكر نجاة حالها وحال أمل وحياة شقيقتيها في بيت الأب عبد الكريم، فتتنهد قهرًا وتمضي في استكمال عملها، لا تنسى ما فعلته الأيام بها كيف تركها شاب أحبته معللًا ذلك بفقرها المادي والعلمي الذي سيجلب على حياته التعاسة الأبدية، كيف نالت الخيبات من ملامحها وصار كل ما لها غريبًا عنها، نجاة صاحبة الحق والتي تنبش في كل زاوية عنه لتبني منه فزاعة كبرى في المنتصف لكل من يتجاهله أو يهابه، هي الآن مسلوبة منه، لكنها اعتادت أن تنتزع لها من الحياة ما يعزيها بلحظات تعادل في متعتها جزءًا مما فقدته، متحدية كل شيء برغبة يدعمها رفض قاطع للظلم في الحياة.

في البيت قوانين عبد الكريم، التي تزيد الحياة همًا ونكدًا والتي لا مصدر لها ولا مرجع سوى العادة المتوارثة بفرعنة رجل البيت وانتزاعه لشعلة الامتلاك من حيث لا يدري أحد، إذ على غُلبه وضعف أمره يدفعه الوعي المنعدم وقلة اختبار الخصائص الإنسانية إلى القسوة الهوجاء، وأخذ القرارات التي لا يصح تطبيقها على أي عنصر آدمي في الحياة.

تعيش الأختان أمل وحياة في استسلام تام ورضا بكل ما هو مكتوب فتؤثران الأمن والسلامة ولو على حساب أعمارهما المهدرة، أما نجاة فخلافهما تمامًا ما تأخذه الدنيا منها يسارًا تحارب لتنتزع ما يعزيها فيه يمينًا والعكس، المهم ألا تنام ليلة وفي نفسها منخار الغلبة والقهر الذي يجلب على الروح التعاسة والعجز.

تخرج نجاة وترى الدنيا ولو خلسة، تفر لحظات من قوانين الأب عبد الكريم وغضاضة العمل ونظرات الناس ولسانهم الذي يحتاج إلى منشار من فرط ما جلب الخراب على بيوت الآخرين، تدخل الأوبرا والمسرح وتأكل المبهجات أكلًا بالمزاج الرائق والبال الصافي ساعة أو ساعتين، قبل أن تعود إلى غُلب الحياة المكتوب كنقش الحجر على جبينها.

 إنه الليل يقترب والزغاريد تتهدج لوقعها السماء، مسكينة هذه الفتاة يبتهجون على ركام أحلامها.. هكذا عبرت نجاة في حزن وأسى متبادل مع شقيقتيها رثاءً لحال ابنة عم طاهر في زفاف لم يدفعهن لحضوره سوى المجاملة والجيرة الطيبة لهذا الرجل.

لا حب ولا إرادة هنا وكل شيء تحكمه الضرورة التي لا ترحم.

يتسربن ثلاثتهن في دقائق معدودات من بين زحام هذه الليلة، قبل أن تنتهي ساعات الإفراج المؤقت من قبضة قوانين عبد الكريم؛ لينتهي بهن الطريق الذي تولت قيادته نجاة إلى جلسة قريبة من النيل ومبنى الأوبرا الساطع بأنواره المختلفة، يراقبن الناس والليل الجليل بنسيمه وحركته المؤثرة.

تتنهد أمل بينما تقول حياة متأملة ما حولها: ما أجمل الدنيا.

فتؤكد نجاة على كلامها: نعم، الحياة جميلة لكننا مقهورات، والفقر طاغية يحكم ويغلب الجميع بظلمه.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز