عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

د. ولاء الدين بدوي: 150 عاما.. قراءة في مشهد افتتاح قناة السويس 1869م

د. ولاء الدين بدوي: 150 عاما.. قراءة في مشهد افتتاح قناة السويس 1869م
د. ولاء الدين بدوي: 150 عاما.. قراءة في مشهد افتتاح قناة السويس 1869م

في 17 نوفمبر 1869م تم افتتاح قناة السويس حيث جرى التقاء مياه البحرين الأبيض والأحمر عند مدينة الإسماعيلية بعد عمل دام عشر سنوات؛ وأنشئت مدينة الإسماعيلية عند نقطة العمل والتقاء البحرين.. وكذلك أنشئت مدينة بورسعيد على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.



كان الخديو إسماعيل يريدها فرصة كي يطلع ملوك وأباطرة وأمراء أوروبا على ما أسماه بالنهضة التي شملت مصر في عهده؛ وقد أبحر الخديو إسماعيل إلى أوروبا مع وزير خارجيته نوبار باشا خصيصًا لتوجيه دعوة حضور حفل الافتتاح إلى كبار شخصيات العالم من الملوك والرؤساء والأمراء ورجال العلم والآداب والسياسة والصحافة وعظماء مصر والسودان؛ كما استحضر الخديو 500 طاهٍ وخادم من فرنسا وإيطاليا علاوة على الطهاة والخدم من المصريين والأتراك الذين كانوا في خدمته.

وأرسلت الصحف الأجنبية مراسلين لها لتغطية أنباء الاحتفال وبدأ المدعوون بالحضور إلى الإسكندرية منذ يوم 15 أكتوبر1869م واعدت لهم رحلات إلى الوجه القبلي في النيل في السفن التي أعدت وجهزت لهذا الغرض وذلك قبل بدء المهرجان الرسمي للافتتاح؛ وأنفق إسماعيل عن بذخ وإسراف لا مثيل له في الافتتاح.

وكان أول من حضر ولى عهد هولندا ثم إمبراطور النمسا فولي عهد بروسيا ثم وصلت الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا وتغيب زوجها الإمبراطور نابليون الثالث لأسباب سياسية، وقد مرت قبل وصولها إلى مصر بالقسطنطينية، حيث استقبلها السلطان العثماني "عبد العزيز" وأقام لها العديد من والولائم وأغدق عليها الكثير من الهدايا "مع العلم أن الخديو إسماعيل لم يدعُ السلطان العثماني لحضور الافتتاح" وصلت الإمبراطورة إلى الإسكندرية يوم16 أكتوبر 1869م على اليخت "النسر" الذي أقلها من القسطنطينية فاستقبلها الخديو إسماعيل وحاشيته والأمراء بالحفاوة وإطلاق المدافع وعزف الموسيقات. وقد ناب عن ملكة إنجلترا وقيصر روسيا سفيرهما بالاستانة. وركبت الإمبراطورة القطار من الإسكندرية إلى القاهرة ثم بدأت هي الأخرى رحلتها إلى الوجه القبلي وأعجبت أشد الإعجاب بالآثار المصرية القديمة وقالت "حيا الله المصريين أنهم يعطون للموت اهتمام الناس بالحياة".

وفي يوم 16 نوفمبر 1869م اكتمل عقد المدعوين جميعا وانتشر المصريون من جنود وأهالي على ضفتي القناة بخيامهم وأدواتهم لمشاهدة هذ المهرجان العظيم؛ وفي الساعة الثانية بعد ظهر هذا اليوم رأست الإمبراطورة أوجيني الحفل الديني.

وحضرها جميع المدعوين بينما كانت الموسيقى تصدح والمدافع تدوي إيذانا بابتداء الحفل؛ وقد قام شيخ الإسلام الشيخ "إبراهيم السقا" ودعا الله بأن يختص هذا العمل العظيم بمثابته ورعايته وان يهيئ له نجاحا دائما، وقام بعده رئيس القساوسة وتلا الصلاة وبارك هذا العمل العظيم، ثم ألقى المونسينور "بلرو" مندوب البابا وواعظ نابليون كلمة بليغة شكر فيها جهود إسماعيل في اتصال القارتين.

وفي المساء مدت الموائد للمدعوين وسطعت الأنوار في كل جانب وعزفت الموسيقى إلى ساعة متأخرة من الليل.

وفي يوم 17 نوفمبر 1869م اليوم المحدد لفتح القناة تحرك الركب من بورسعيد لدخول القناة وقد قسم إلى خمس قوافل في مقدمته هذا الركب يخت الإمبراطورة أوجيني وكان بجوارها "دي ليسيبس" ووراءها باقي اليخوت والأساطيل وبواخر نقل المدعوين– بينما الرجال على الشاطئ يهتفون والنساء يزغردن حتى وصلوا إلى الإسماعيلية وفيها استقبلهم الخديو في قصره الفخم الذي بناه من اجل هذه المناسبة. وأيضا مضى الركب إلى الشاطئ الآسيوي حيث ذهبت الإمبراطورة إلى عيون موسى وكذلك حرصت على تفقد المكان الذي نزل فيه "بونابرت" في السويس عند حضوره إليها لدراسة إمكان شق القناة أثناء حملته على مصر.

وقد أقيم في حفل الافتتاح ببورسعيد ثلاث منصات؛ خصصت الكبرى للملوك والأمراء وكبار المدعوين والثانية لرجال الدين الإسلامي والثالثة لرجال الإكليروس.

في صباح يوم 18 نوفمبر 1869م امتطت الإمبراطورة جوادا؛ وبعد الظهر أعدت عربات نزهة للجميع– بينما كان العربان يقومون بألعاب الفروسية الجميلة، وفي المساء أقيمت سهرة راقصة أعقبها مقصف حوى أطيب المأكولات وأفخر المشروبات في كرم منقطع النظير ويكفي دليلا على مبلغ الإسراف أن نعرف نفقات الحفلات قد بلغت على اصح تقدير "1.400.000 جنيه" ولا توجد حكومة رشيدة تكلف خزانتها هذا المبلغ في ذلك الزمان "وهذا ما أدى إلى إفلاس البلاد فيما بعد" وبالرغم من ذلك انهالت التهاني على "دي ليسيبس" غدا افتتاح القناة تنسب له فضل هذا المشروع العظيم.

وأصر دي ليسيبس في قرارة نفسه على ألا تمر ذكرى افتتاح القناة إلا وتكون هذه الذكرى معلقة في ذهنه برباط شخصي– فقد تزوج من كريمة قنصل المكسيك بالقاهرة "لويز هيلين" الفتاة التي يبلغ عمرها عشرين ربيعا وهو قد بلغ الرابعة والستين من العمر وقد كتب إميل زولا الكاتب الفرنسي يقول "لقد زوج المسيو دي ليسيبس البحر الأبيض بالبحر الأحمر ثم تزوج هو نفسه".

في صباح 19 نوفمبر 1869م تقدم يخت الإمبراطورة تليه اليخوت الأخرى والأساطيل إلى مدينة السويس فوصلوا إليها في صباح يوم20 نوفمبر بعد أن امضوا الليلة على سطح البحيرات المرة يشاهدون الألعاب النارية ولما وصلوا إلى البحر الأحمر دوت المدافع إيذانا بانتهاء المهرجان وقد بلغ من كرم وبذخ إسماعيل عند انتهاء المهرجان انه رجا من يريد الإقامة من ضيوفه في مصر أن ينزل في ضيافته إلى وقت شاء.

وقضت الإمبراطورة يومين في السويس وضواحيها لتستمتع بمعالمها ثم رجعت إلى بورسعيد ومنها أبحرت إلى الإسكندرية لمشاهدة ما فيها من جمال، وتجولت أيضا في بعض مدن الوجه البحري وقد رجعت إلى القاهرة حيث انشأ لها الخديو إسماعيل قصر الجزيرة فقد كلف مهندس البلاط الخديو "يوليوس فرانس" عام 1863م بتصميم قصر بجزيرة الزمالك فشيد له سراي الجزيرة على غرار قصر "الهمبرا" بغرناطة "لان أوجيني مواليد غرناطة بإسبانيا عام 1826م".

وانتهى منه عام1868م واستخدم كمقر لإقامة الإمبراطورة أوجيني وحاشيتها خلال احتفالات افتتاح قناة السويس.

ومن القصص الطريفة التي ذاعت في القاهرة انذاك.. أن هدية وداع الخديو لأوجيني "كانت مبولة غرفة نوم من الذهب الخالص تتصدرها ياقوته حمراء نقشت حولها بالفرنسية عبارة "عيني على الأقل.. ستظل معجبة بك إلى الأبد" وأيضا هدية اخرى عبارة عن سرير مكسو بطبقة سميكة من الذهب الخالص رصعت اعمدته بالياقوت والزمرد والفيروز تذكارا لزيارتها وادي النيل".

وقد شيد الخديو إسماعيل دار الأوبرا على عجل فيما لا يتجاوز خمسة أشهر وتكلف بناؤها160 ألف جنيه بحساب ذلك الزمان؛ وقد مهد الخديو إسماعيل طريق الأهرام وفي زيارته إلى الأهرامات في العربة "الالاي الخصوصي" التي كانت هدية الامبراطورية الفرنسية إلى الخديو، وقيل ان الإمبراطورة لما تناولت مع إسماعيل طعام الغداء في كشك الأهرام؛ رغبت في تدخين الحشيش لمعرفة تأثيره– كذلك رغبت في مشاهدة حفل زواج مصري فزف إسماعيل اثنتين من اجمل جواريه إلى "إبراهيم توفيق بك– محافظ القنال" و"نشأت بك أحد المديرين"، فشاهدت فرحيهما داخل الحرم وخارجه، وسرت كثيرا وعندما عزمت الإمبراطورة على الرجوع إلى بلادها رافقها إسماعيل وكبار رجال حاشيته إلى يختها بالإسكندرية ومنه إلى باريس.

وقد بلغ عدد من نزلوا بمدينة الإسماعيلية أثناء حفلات القناة يومي 17- 18 نوفمبر 1869م على أقل تقدير 100.000 نفس من الأجانب والمصريين وكانت المدينة تموج بزائريها كالبحر الزاخر وكان من اصعب الأمور على الضيوف والسواح الأجانب العثور على سرير للنوم بفنادق ومنازل المدينة لانها كانت مشغولة بالنازلين بها، لكن الخديو قد فكر في هذه الصعوبات فأمر بإقامة الخيام على ضفاف الترعة الحلوة ونصب الأسرة لمبيت الضيوف والزائرين "ولعل هذه الظاهرة تفسر أسباب خروج أهالي الإسماعيلية للمبيت في الحدائق خلال احتفالات شم النسيم من كل عام.. وهي الظاهرة التي تنفرد بها الإسماعيلية عن كل مدن القناة".

 

*مدير عام متحف قصر المنيل

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز