عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ننفرد بنشر وصية «سيدة البحر» بخط يدها

ننفرد بنشر وصية «سيدة البحر» بخط يدها
ننفرد بنشر وصية «سيدة البحر» بخط يدها

أيمن عبد المجيد يكتب :



عدسة - كيرليس روماني 

الوفاء.. الجسد إلى حضن الجدة بـ «سندبيس» «نور».. والمكتبة إلى المنصورة التي تفتح بها عقلها بـ«أرسطو»

هل يستقبل الدكتور أيمن ونائبه الشيخ الكنز بما يليق ويستحق؟!

في ستة أسطر لم تنس الدعاء لمصر وشعبها كما كانت طيلة حياتها

 

(نهاية الرحلة إلى «سندبيس»، بجوار السيدة العظيمة جدتكم السيدة «نور»، والله يرعاكم ويثبت أقدامكم، على صراطه المستقيم.

المكتبة تذهب إلى مكتبة البلدية بالمنصورة، التي قرأت فيها كتاب «أرسطو»، وأجمل المراجع الفكرية والأدبية.

مكتبة رائعة وحافلة، أسهمت في تفتح عقول كثيرة من الأقاليم وفي مصرنا الغالية، ولتظل في تقديم رسالتها المنيرة.. حفظ الله مصر وأهلها).

 

 

بتلك الكلمات الموجزة، لخصت الأديبة العملاقة، سيدة البحر، فوزية مهران، طلبها الأخير، في وصية خطتها بيدها، قبل رحيلها بأيام، تنفرد «بوابة روزاليوسف» بنشرها، بيد أن كلماتها المعدودة كنز من الرسائل والقيم والعطاء، الذي امتد من حياتها وحتى وصيتها.

فالمتأمل في عباراتها، وانتقاء ألفاظها، يُدرك أنه أمام عملاقة من عمالقة الصحافة والأدب المصري، المتسقة مع ذاتها، فما نادت به من قيم خلال رحلتها، تطبقه فعليًا حتى الرمق الأخير، بل وبعد رحيلها.

فقد بدأت وصيتها بعبارة، نهاية الرحلة إلى «سندبيس»، بجوار السيدة العظيمة جدتكم «نور»، فهي ترى أن حياتها كانت رحلة، وأن بنهايتها يجب أن يستقر جسدها، كما كان في بداياتها، بحضن والدتها، جدة بناتها، «نور».

وفي ذلك معنى للارتباط، ففي قرية «سندبيس»، بمركز القناطر الخيرية، بمحافظة القليوبية، يرقد جثمان والدتها، التي أوصت بأن تذهب إليها، في نهاية رحلتها.

ثم كان دعاؤها لبناتها، أن يرعاهن الله ويثبت أقدامهن على صراطه المستقيم، دعاء جامع مانع، فالثبات على الصراط المستقيم، ثبات على الحق، والرشاد، وهو الدعاء الذي نتعبد به لله في كل ركعة، وفي كل صلاة، خلال تلاوة فاتحة كتاب الله، القرآن الكريم: «...اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».. صدق الله العظيم.

 

 

ثم كان الدرس الثاني في الوفاء، إلى مكتبة بلدية المنصورة، عاصمة محافظة الدقهلية، ففي هذه المكتبة تذكر سيدة البحر، أنها كانت سبب تكوينها الفكري، بما طالعته فيها من أمهات الكُتب، في مقدمتها كتاب «أرسطو».

هذه العملاقة، التي رحلت عن عمر ناهز 88 عامًا، ما زالت تُدين بالفضل للمكتبة، التي نهلت منها العلم في صغرها، في أربعينيات القرن الماضي.

لم تنسها الأيام، ولا النجاحات والمحن، فظل وفاؤها لأمها، وشوقها لحضنها، وظل وفاؤها لمكتبة المنصورة، التي نهلت منها المعرفة في بداياتها، فأرادت أن ترد إليها الجميل، بإهدائها مكتبتها الزاخرة بعشرات الآلاف من الكُتب، بل مكتباتها، فقد تركت مكتبة إسلامية كبيرة، ومكتبة أدبية تحوي عناوين بلغات عدة، العربية والروسية والإنجليزية، كلها كنوز أدبية.

تقول «ملكة الروح»، «سيدة البحر»، «فوز»، كما كان يحلو لتلاميذها وأصدقائها مناداتها، عن مكتبة بلدية المنصورة: «مكتبة رائعة وحافلة، أسهمت في تفتح عقول كثيرة من الأقاليم، وفي مصرنا الغالية، ولتظل في تقديم رسالتها المنيرة»، وكأنها تقدم حيثيات قرارها.

 

 

تقول «أسهمت في تفتح عقول كثيرة من الأقاليم، وفي مصرنا الغالية»، وكأنها تريد بمكتبتها أن تمدها بغذاء البقاء، فتقول: «ولتظل في تقديم رسالتها المنيرة».

أتأمل تلك الوصية، وهذا الوفاء، كما أتأمل دور القراءة في تشكيل وعي جيل العباقرة، ذلك الجيل الذي كان بينهم إحسان عبد القدوس، وصلاح حافظ، ومحمد التابعي، والشرقاوي، ونجيب محفوظ.

فهي المولودة في الخامس من ديسمبر ١٩٣١، كيف كانت هناك مكتبة في دلتا مصر، بالقوة التي تحدثت عنها الراحلة في وصيتها، وكيف كان هذا الجيل يعلم أن بالقراءة تتفتح العقول، وكأن العقول أزهار تتفتح بغذاء القراءة، وبالفعل تفتحت عقول كثيرة، ففاح رحيقها عبر أعمال أدبية ومؤلفات فكرية، ستبقى ينهل منها الأجيال بعد رحيلهم.

الأديبة العبقرية فوزية مهران، ازداد شغفي بها مما سمعته عنها من تلاميذها، التي كان يحلو لها وصفهم بالأصدقاء، هؤلاء الأوفياء الذين احتضنتهم احتفالية تأبينها، مساء أمس، بنقابة الصحفيين.

 

 

 

تلك الأمسية، التي فضلت أن أصفها في إعلان تنظيمها بـ«الاحتفالية»، فمثل هؤلاء العظام، يجب أن نحتفي بهم في كل وقت وحين، يجب أن نحيي ذكراهم، ليتعلم شبابنا، كيف سار في بلاط صاحبة الجلالة عمالقة، وكيف حملوا سلاحهم، فلم يفرطوا فيه حتى الرمق الأخير، كيف اجتمع فيهم إبداع الصحافة والأدب، والإنتاج الفكري.

ليتعلموا الوفاء، والانتماء، وأن من لا يقرأ لا يكتُب، فهذه العملاقة لم يكن نجاحها وليد صدفة، بل كفاح واطلاع وعمل، كيف كانت تقرأ في بداياتها بمكتبة المنصورة أمهات الكُتب، وكيف ظلت تقرأ وتحتفظ بالكُتب، حتى كونت مكتبة بمثابة كنز معرفي، وكيف أوصت بأن تكون مصدرًا للمعرفة لشباب الأقاليم.

أتأمل وطنيتها وحبها لمصر، فلم يفتها حتى في آخر أيامها، وفي وصيتها التي كتبتها في 6 أسطر، أن تختتمها بالدعاء لمصر وشعبها في السطر السابع.

«حفظ الله مصر وشعبها»، فقد دعت لمصر وعموم شعبهما، كما دعت لبناتها.

لا تملك إلا أن تُفرط في حبها، فهي الأنيقة التي كان لها طقوسها في الكتابة، تقول ابنتها نادية: كانت تستيقظ يوميًا قبل صلاة الفجر تُصلي، ثم ترتدي زيها في كامل أناقتها وكأنها تستعد للخروج، ثم تذهب إلى مكتبها الصغير في ركن بالمنزل لتقرأ آيات من القرآن، ثم تقرأ في مكتبتها، وتكتب رواياتها ومؤلفاتها.

 

 

تضيف نادية في حفلها بنقابة الصحفيين: أناقتها كانت تدفع والدي دائمًا لطرح سؤال عليها، عندما يراها، وقد ارتدت زي الخروج: «أنتي خارجة يا فوزية؟!»، فترد بابتسامتها التي لم تفارقها: «لا سأجلس على مكتبي».

ولذا كانت تجلس في أناقتها تعمل وتكتب، في منزلنا، فإذا أرادت الخروج تخرج.

جانب آخر ترويه ابنتها الكبرى، قائلة: «كان ابني البكر عمره أربع سنوات فقط، عندما أراد التحدث إليها، فإذا بها تعامله بكل تقدير، وتقول له ممكن نصف ساعة وأعزمك على قهوة نشربها معًا، سأستضيفك في مكتبي، وبالفعل أحضرت له مشروبًا، وجلست تحدثه بكل اهتمام، وكأنه ضيف كبير يجلس معها، كان لديها أسلوب تربوي».

بينما تحكي الدكتورة عزة بدر، الكاتبة الصحفية بمجلة «صباح الخير»، الأديبة البارزة، أن سيدة البحر، لم تكن مجرد صحفية أديبة، بل شخصية تشع روحها تفاؤلًا، مرتبطة بقضايا وطنها، وقوميتها العربية، لا أحدثها يومًا في مناسبة أو عيد، إلا وتدعو لي ولمصر، فدائمًا ما كانت تُنهي حديثها ودعاءها بالقول، «...ومصر وشعبها بخير».

 

 

كُنت أذهب إليها في بيتها، في شارع القدس، فتصر على تقديم طعام بعبارتها الجميلة: «الجودة من الموجودة»، لنجلس بعدها تقرأ لي أعمالها الجديدة، وأقرأ لها أشعاري لتبدي لي رأيها.

تضيف الدكتورة عزة: «كانت تشع تفاؤلًا، كل شخصيات رواياتها، تقدم من خلالها رسائل، تدعو للسعادة، فكانت حكيمة منذ بداياتها صاحبة رسالة، فقد ذكرت لي أن أول مقال كتبته كان ١٩٤٨ بجريدة المصري عن السعادة».

بينما تذكر الكاتبة الصحفية، نفيسة عبد الفتاح، كيف كانت سيدة البحر، شخصية صوفية زاهدة في مغريات الحياة، كيف كانت روحًا مشعة تُساعد كل من تضيق به الحياة، ويلجأ إليها من الأصدقاء، فتستقبله فورًا، ليخرج من بيتها وكأنه ولد من جديد، كيف كانت كل صديقة لديها من فرط اهتمامها بها، تشعر وكأنها ابنة مقربة إليها.

عشقها للكتابة ولد في رأس البر، هناك، في منطقة اللسان، بين البحر وفرع النيل، كانت تصف الكتابة بأنها صلاة، تفرح بأقل الأشياء، عشقت البحر، وعاشت في الإسكندرية، التي كتبت بواكير أعمالها، ومن فرط عشقها البحر وتناوله في رواياتها، أصبحت «سيدة البحر».

 

 

والمصادفة، أن زوجها قبطان، رآها في الإسكندرية، فأعجب بها وتقدم لخطبتها، وكانت رحلتها معه.

في عام ١٩٣١، كانت صرخة ميلادها، وبعد أيام في الخامس من ديسمبر الجاري، يحل عيد ميلادها الأول بعد رحيل جسدها، وبقاء روحها وأدبها وفكرها.

وفي ١٩٥٦، حصلت «سيدة البحر»، على ليسانس الأدب الإنجليزي، من جامعة القاهرة، وهو العام ذاته الذي، شهد ميلاد مجلة «صباح الخير»، المولود الثالث لمؤسسة «روزاليوسف»، فقد شاركت في تأسيسها حيث بدأت العمل بها منذ أعدادها التجريبية، حتى صدرت بشعار «القلوب الشابة والعقول المتحررة»، فكانت جزءًا منها، حتى باتت من أبرز كُتاب مؤسسة «روزاليوسف» وأدباء مصر والوطن العربي.

في الاحتفالية روى شريف جاد، مدير النشاط الثقافي بالمركز الثقافي الروسي، كيف قدمت نقدًا أدبيًا بديعًا لرواية روسية لفلاديمير فوفيتش، وكيف جاء رد فعل الكاتب الروسي، مؤكدًا أن ما كتبته الناقدة المصرية، أروع ما كُتب عن عمله وأعمقه.. مضيفًا، قرأنا لهؤلاء العمالقة، لكن لم نقرأ عنهم بالقدر الكافي، مقترحًا جمع كتابات أصدقاء وتلاميذ سيدة البحر في كتاب مسيرتها.

وكشفت الدكتورة سامية حبيب، أستاذ النقد المسرحي، جانبًا إنسانيًا آخر في شخصية سيدة البحر، عن دعمها للثقافة الجماهيرية، وسفرها لمحافظات مصر، لنقد الأعمال المسرحية، التي كانت تُعرض في الأقاليم، وكيف كانت دائمًا تحرص على تحفيز الشباب، والتوجيه بعبارات لطيفة باسمة.

 

 

بينما الكاتبة الصحفية، نور خلف، نائب رئيس تحرير «حريتي»، روت كيف كانت تحفز، وتغرس بحكمتها في النفوس أشجار الأمل.

فيما لتصرفها وقفة مع الدكتور حمدي عبد القادر، الذي روى عن زهدها، فلم يكن لها في الحياة مطمع غير العطاء وغرس القيم، فهي كانت شخصية يوافق ما تكتبه ما تفعله، في أعظم معاني الاتساق مع الذات.

وكان للشعر مكان وعبرة، في ذلك الحفل، الذي حضرته بناتها، نادية ونور وعايدة، وأحفادها ومحبوها، لتشدو به الشاعرة منال الصناديقي، ستبقى سيدة البحر بروحها وإنتاجها الفكري والأدبي خالدة.

مخاوف أثيرت من أن تذهب المكتبة للمنصورة، فتوضع حبيسة الكراتين الورقية، فدعوت لتنفيذ الوصية، ليجد أبناء الأقاليم ما يفتح عقولهم، كما وجدت الراحلة، وحماية مكتبتها عبر تشكيل رابطة محبي سيدة البحر، لمتابعة نقل المكتبة ووضعها في مكانها، الضامن لأن تكون في متناول رواد مكتبة المنصورة، بل وتنظيم قوافل تفتيح العقول، لتذهب أجزاء منها في كل جمعة إلى قرية.

أثق في الدكتور أيمن مختار، محافظ الدقهلية، ونائبه الخلوق هيثم الشيخ، الزميل الصحفي، وأنهما سيستقبلان هذا الكنز المعرفي والأدبي، بما يليق به، وتوفير استضافة له، تضمن أن يؤدي رسالته لعقول أبناء الدقهلية وزائريها.

 

 

لم تترك، فقط، بناتًا وأحفادًا، بل تركت: «بيت الطالبات»، و«وجياد البحر»، و«حاجز أمواج»، و«التماثيل تنتحر»، و«أوراق لطيفة الزيات»، و«الشرسة والجميلة»، و«مواقف قرآنية معاصرة»، و«رب اجعل لي آية»، وغيرها من أبناء وبنات عقلها، الذي تفتح بالقراءة المبكرة، وقلبها الذي ظل عامرًا بالإيمان بالله والوطن.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز