عاجل
الإثنين 4 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
لماذا يشارك الصعيد في ثورة لا تعني له شيئا؟ «2_2»

لماذا يشارك الصعيد في ثورة لا تعني له شيئا؟ «2_2»

بقلم : مصطفي الأسواني

نعلم جيدًا أن الأزمة الحقيقية في الصعيد، والتي ما زالت مستمرة حتى الآن، تتمثل في تجاهل ملفاته المرشحة للانفجار في أي وقت وأي منطقة فيه، ما دفعه إلى الكفر بنظام الحكم وفقدان الأمل في أي تغيير قد يحدث، فلا يخفى على أحد أن الصعيد يعاني من الفقر وإهمال التنمية، رغم توافر كافة المقومات فيه؛ حيث إن صعيد مصر يتمتع بوجود البنية التحتية اللازمة لأي مشروع، كما أن به الكثير من الثروات المعدنية التي لا توجد في مناطق كثيرة خارج حدوده، مما يجعله منطقة جاذبة للاستثمار بشكل كبير، ولكنه يعاني من إهمال الحكومة المستمر، فهل يستحق أهلنا في الصعيد هذا الإهمال؟



 
وأود أن أؤكد على أننا أبناء الصعيد نعلم جيدًا أنه لم ينصفنا أحد من الحكام الذين تولوا عرش مصر، ولن ينصفنا أحد أيضًا في الوقت الحالي، حتى أصبحت محافظاتنا طاردة لنا، ما اضطرنا إلى الهجرة للبحث عن العمل في القاهرة وفي محافظات أخرى، أو إلى خارج مصر كذلك، فلقد أهملت جميع الحكومات الصعيد لعقود طويلة حتى بدأت مشاكله تتفاقم تباعًا؛ بدءًا من سوء الأحوال المعيشية لقاطنيه، وتفاقم مشكلة البطالة، وتهالك البنى التحتية، وظهور حالات السخط على الدولة التي تجلّت في موجات الإرهاب المتتالية خلال التسعينيات، وزيادة نزوح أهالي الصعيد إلى الوجه البحري، وما تبع ذلك من مشاكل.
 
وسأستكمل معكم بعضًا من الملاحظات الميدانية الشخصية في صعيد مصر التي تحدثت عنها في مقالي السابق؛ لإيضاح تنوع الحراك الاجتماعي السابق واللاحق والموازي لـ25 يناير 2011:
 
في نهاية فبراير من نفس العام بعد تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، عُدت إلى بلدتي في مدينة ادفو بمحافظة أسوان، ولم تكن هناك من وسيلة نقل قادرة على السفر كل تلك المسافة بطريقة مباشرة، نظرًا لحالة عدم الاستقرار الأمني في البلاد، ما اضطرني إلى تبديل أكثر من وسيلة مواصلات خلال تلك الرحلة، وكنت أعمل جاهدًا على أن استقل وسيلة مواصلات توصلني إلى إحدى بلدان الصعيد التي ليّ فيها أصدقاء أو أهل أحلُّ ضيفًا عليهم، حتى أتحاشى أزمة المبيت في الشارع أو أن أتعرض لأي محاولة اعتداء أو سرقة بالإكراه إن لم أجد وسيلة النقل التي تقلني على الفور إلى البلد التالي في تلك الرحلة.
 
في القطار، الكل صعايدة، يبدو على جميعهم أنهم وصلوا إلى هنا بصعوبة بالغة، مع اختلاف ظروف كل منهم عن الآخر، إلا أن الشيء الوحيد الذي تشابهنا فيه جميعنا، هو أن كل واحد في القطار لم يكن بحوزته سوى حقيبة صغيرة بها متعلقاته، على غير عادة أهالي الصعيد التي عرفوا بها عبر الزمن بأنهم في ذهابهم وإيابهم يحملون معهم الكثير من الهدايا والزيارات.
 
في المنيا، توقف القطار الذي أستقله فجأة في منطقة نائية نسبيًا، بعدما وضع مجهولون جذوع نخل في طريقه، وفي لمح البصر، وجدت مجموعة من المسلحين بأسلحة نارية وبيضاء يصعدون إلى عربات القطار لسرقته تحت تهديد السلاح، في بداية الأمر كانوا يبحثون عن كمسري القطار للاستيلاء على ما بحوزته من أموال، وما هي إلا لحظات حتى سمعت نداءات استغاثة لم أستطع تحديد مصدرها من كثرتها، فلم يكن أمام الجميع سوى مواجهة هؤلاء بأي شيء، البعض من الركاب كانت بحوزتهم أسلحة نارية وبيضاء أيضًا، تكاتف الجميع لصد اعتداء هؤلاء المجهولين، وبالفعل تخلصنا منهم بعدما قُتل منهم حوالي خمسة أفراد تمكنتُ من رؤيتهم قبل إلقاء جثثهم إلى خارج القطار، وإصابة العديد منهم، كذلك كان هناك بعض المصابين في صفوف ركاب القطار وقتيل واحد رأيته في العربة التي أستقلها، كان شابًا في العقد الثالث من عمره تقريبًا - وحتى الآن لا أعرف مصير جثته التي تُركت في القطار حتى هبطتُ منه في أسيوط - وبعد أن تأكدنا من هروب المعتدين، عملنا على إزالة جذوع النخل من أمام القطار ليستكمل رحلته، وفور أن وصلنا إلى محطة أسيوط قرر قائد القطار ألا يكمل الرحلة.
 
في أسيوط، كانت أولى محطاتي التي وصلت إليها فجرًا، الفوضى تعم أرجاء المكان، السلاح منتشر بطريقة مرعبة بحوزة الأهالي في الشوارع، والاشتباكات مع رجال الأمن تركت أثرًا جليًا على جدران معظم العقارات السكنية القريبة من مراكز الشرطة ومقر مديرية الأمن، وبمجرد أن وطأت قدمي أرض أسيوط، بدأت معي مراحل التفتيش الذاتي التي لا نهاية لها كلما دخلت أو خرجت من أحد الشوارع هناك، وسؤالي عن وجهتي. الأهالي كانوا على أهبة الاستعداد للاشتباك مع أي شخص يعتقدون أنه يمثل تهديدًا لهم، وما أنقذني من ذلك هو انتظار أحد الأصدقاء لي في مكان غير بعيد من أماكن تجمعات أهالي المدينة.
 
التقيت صديقي الذي كان ينتظرني، ذهبت معه إلى منزله في نزلة سالمان شمال غرب أسيوط (قرية بعيدة تمامًا عن الطريق الرئيسي)، وبعدما استرحت وقدم لي واجب الضيافة، جلست معه ومجموعة من أصدقائه من نفس المنطقة في حلقة نقاشية، قال لي أحدهم: إن «ما يحدث في القاهرة يهم أهل القاهرة، نحن مشغولون حاليًا بالشأن الليبي»، استغربته كثيرًا وقتها، غير أنني اقتنعت بكلامه فيما بعد، ثم أخبروني بأن معظم الأهالي في أسيوط استغلوا حالة عدم الاستقرار والفوضى لصالحهم، بأن يأخذ كل منهم بثأره من خصمه في ظل الانفلات الأمني وقتها، فضلاً عن حسرتهم على الخسائر الفادحة التي ستلحق بمحصول الرمان لذلك العام، بعد ذلك بدأوا يتحدثون عن الرابطة التي أسسوها منذ أيام قليلة في محاولة منهم لحل مشكلة القَبلية والتعصب بالقرية، الشباب الذين التقيتهم من عائلات مختلفة ومستوى تعليمي واجتماعي مختلف، حيث إنهم ينتمون إلى قبائل مختلفة تخضع العلاقة بينهم لتراتبية طبقية يحاول هؤلاء الشباب تجاوزها؛ لذلك اتخذوا قرارهم بتأسيس الرابطة.
 
في الظهيرة، قررت استكمال رحلة عودتي إلى بلدتي، ولم أجد سوى سيارات أجرة «ميكروباص»، فاضطررت إلى استقلالها حتى أصل إلى محافظة قنا، والتي وصلت إليها بعد الغروب؛ نظرًا لكمائن التفتيش المنتشرة بطول الطريق ما بين محافظتي أسيوط وقنا من اللجان الشعبية والأهالي.
 
وفي قنا، لم يختلف الأمر كثيرًا عما سبق وأن رأيته في القاهرة أو أسيوط، بكل تأكيد الثورة مرّت من هنا أيضًا، وعلى الفور ذهبت إلى محطة القطار واستقليت أحد القطارات الذي كان يتحرك لحظة دخولي المحطة، ولكن للأسف ما هي إلا عدة محطات حتى أعلن قائد القطار أنه لن يُكمل الرحلة، فما كان أمامي إلا النزول في محطة قوص، بعدما أخبرت صديقٌ لي هناك بأنني في طريقي إليه، والذي طلب مني أن أنتظره في المحطة خوفًا عليّ.
 
وفي قوص، بعد لحظات كان صديقي أمامي بسيارة ربع نقل حتى يقلني إلى منزله، وبعد ضيافتي، جلسنا نتحدث عما يحدث في القاهرة وفي بلده، وعلمت منه أن هناك العديد من الضحايا المدنيين الذين سقطوا في مواجهات مع الشرطة وقت الثورة، وأخبرني أيضًا عن الأضرار المادية التي لحقت بمدينته وتعطل الأعمال والحياة فيها، وظللنا نحكي ونحكي حتى غلبنا النعاس، وفي الصباح أصرَّ على أن يذهب معي لمدينة الأقصر، حتى أتمكن من إيجاد وسيلة مواصلات تقلني إلى بلدي.
 
وفي الأقصر، لم يختلف الأمر كثيرًا عما سبق وأن تحدثت عنه، الفوضى تعم أرجاء المكان، الخوف وعدم الاطمئنان مرسومان على ملامح الجميع هناك، المدينة السياحية الأشهر على مستوى العالم خالية إلا من القليل من المواطنين، وإن كان معظمهم مثل حالتي يسعى جاهدًا للوصول إلى بلده في أقرب وقت ممكن، وخلال لحظات كنت في سيارة ذاهبة إلى بلدي مدينة ادفو بمحافظة أسوان.
 
وفي ادفو، وصلتُ إليها منتصف الليل تقريبًا، ووجدت آثار الخراب والدمار التي لحقت بالمنشآت الشرطية هناك، مثلما هو الحال في القاهرة، وأيضًا بعض الآثار الناتجة عن تبادل لإطلاق النار والخرطوش في مناطق مختلفة من المدينة؛ ما يدل كذلك على أن الثورة مرّت من هنا. وبالرغم من أن السكون هناك كان سيد الموقف حتى حلول شهر مارس لعام 2011، إلا أنه أمام معظم المنازل والمحال التجارية كانت هناك مجموعات تتحدث يوميًا عن وثائق أمن الدولة وعمليات السلب والنهب، وهروب المساجين، والاعتداءات المتكررة على المنازل والمسافرين، وظلت المناقشات مستمرة في هذا الشأن لأيام تالية، كما عرفت أن المعلمين بعدد من القرى أسسوا روابطًا للمعلمين خاصة بكل قرية.
 
وفي مدينة أسوان، كانت هناك لجنة من «شباب بيحب أسوان» تدير عمليات النظافة والوعي المجتمعي، وكذلك دعم اتخاذ القرار عبر حملات أهلية. وفي يوم 8 مارس من نفس العام، كان «اعتصام البشاير» حول بحيرة ناصر، والذي بدأ تحديدًا في الرابع من سبتمبر لعام 2010، حيث اعتصم 64 شابًا نوبيًا - يمثلون 12 قرية نوبية من قرى التهجير بمركز ناصر - للمطالبة بأراضٍ وسكن بقرية البشائر الواقعة على ضفاف بحيرة ناصر (حوالي 250 كيلومترًا عن موقع الاعتصام بجوار البحيرة)، وللتأكيد، فقد بدأ هذا الاعتصام للمطالبة بأراضٍ زراعية ومنازل قبل الـ18 يومًا الأولى من عمر ثورة يناير، واستمر بعدها.
 
وفي كوم امبو، في نفس التوقيت، احتل مزارعون من نصر النوبة وكوم امبو أراضٍ بمنطقة وادي النُقرة، والتي كان يمتلكها مستثمرون ومسؤولون قاهريون بغير وجه حق، مستغلين في ذلك نفوذهم، وقد حدثت صدامات مسلحة لعدة أيام في تلك المنطقة، إلى أن تدخلت القوات المسلحة للفصل بين طرفي النزاع، وتمكن المزارعون بالفعل من طرد المستثمرين الغرباء، وقاموا بزراعة الأرض بالفعل.
 
إن الخطأ الذي وقع فيه جميع من يظنون ويدّعون أن الصعيد لم يشارك في الثورة، يدفعني لطرح السؤال الذي بدأنا به حديثنا من جديد، ولكن في صياغته الصحيحة بعدما تأكدنا من وجود بعض المشاركات الثورية في الصعيد، كما يلي: «لماذا يشارك الصعيد في ثورة حضرية وقاهرية؟!»، ولكن إذا سلمّنا للمقولة الخاطئة بأن الصعيد لم يشارك في الثورة، في رأيي، أجد أن موقف الصعيد من «عدم المشاركة» في هذه الثورة الحضرية القاهرية «فعلاً تقدميًا» منه لإدراكه أنها لا تعني له شيئًا؛ وبالتالي ما الذي يدفعه لأن يستنفذ جهوده في فعل لا يتعلق به؟!
 
كما أن مشكلتنا مع الحكام في مصر؛ تتمثل في أنهم ينظرون فقط إلى القاهرة على أنها مصر، وإذا نظروا إلى غيرها فالإسكندرية وشرم الشيخ ومحافظات الوجه البحري القريبة من القاهرة، أما الصعيد فهو منسي دائمًا وملغي من قائمة مشاريعهم، رغم أن وضع جميع الاستثمارات والمشاريع والوزارات في القاهرة نتج عنه التكدس المروري والبشري والزحام، وظهور العشوائيات والتحرش، حتى أصبحت قاهرة المعز منبعًا لأطفال الشوارع ومجهولي النسب والبلطجية والمرتزقه، وغدت الملجأ الوحيد للعمل على مستوى الجمهورية، ومن فرط اهتمام الحكومات المتعاقبة بها نسي السكان اسمها ودائمًا ما نقول عليها مصر!!
 
يا أهل مصر، إن الصعيد بحاجة إلى وقفة حاسمة وبدعم من الرئيس شخصيًا، حتي ينتشل الصعيد من غياهب النسيان التي عانى منها كثيرًا، ولتكن البداية من تعيين نائب للرئيس من أهل الصعيد، يتولى مشروع النهوض بهذا الجزء الغالي من مصر، قبل أن تتفاقم الأمور وتزداد الفجوة بين أبناء الشمال والجنوب، ويأتي اليوم الذي لا ينفع معه الندم.
 
أخيرًا وليس آخرًا، إن الهدف من تناولي للوقائع الميدانية الشخصية المتعلقة بمشاركة الصعيد في الثورة، هو للتوضيح والتأكيد على وجود عوالم أخرى تتحرك بطريقة مختلفة، وفي أزمنه مختلفة، وبمجالات مختلفة من أجل تغيير الواقع المحلي وإنتاج التغيير، وليس بالضرورة أن تتطابق مع الحراك الحضري ولا توقيته أو إشارة الانطلاق الصادرة منه.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز