عزيزي .. هل أنت مخترق فكريا .. (4)
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
وصلنا للمحطة الخامسة من المفاهيم البشرية وهي الأخلاق ويرى البعض أنها مطلقة ويمكن الاتفاق عليها وآخرون يرون أنها كطابع أية مفاهيم بشرية نسبية مطاطة ومتغيرة حسب الزمان والمكان ونوعيات البشر ، وكلا الفريقين على حق وصادق فيما يقول لسبب بسيط هو اختلاف الفهم والإدراك للمفاهيم الأساسية السابقة (الله – المهمة – الدين – الحدود) وهي المفاهيم التي ترسخ في نفس الإنسان عبر نشأته فتغطي أو تطمس الأساسيات الفطرية للنفس البشرية أو تزكيها وتعلي قدرها في النفوس في حالات نادرة في عمر البشرية .
ولكن لو أمعنا التدبر قليلا في سلوكيات البشر لاكتشفنا أن الأخلاق بكل قيمها هي ثوابت مطلقة لا يختلف عليها اثنان من البشر مهما اختلفت مفاهيمهم الأساسية لأن الأخلاق هي مجموعة من الصفات البشرية التي قد لا تجتمع في شخص واحد إلا ما رحم ربي وشاء ، ولكنا كبشر نتقاسم هذه الصفات بقدور متفاوتة تجعلنا جميعا في حالة تكامل وتواصل تحفظ لنا الحد الأدنى من البقاء بحاجة كل منا للآخرين لممارسة الحياة بحد أدنى من الرضا والقبول ، فأنت شخص كريم يلجأ إليك من يحتاج لكرمك ، وهذا شخص شجاع يلجأ له من يحتاجه حينا ، وآخر شخص أمين يحتاجه كل البشر لأمانته وذاك شخص حليم يطمع في حلمه الكثيرون وبعضنا يتمتعون بحس الود والكلمة الطيبة يلجا إليهم المهموم وصاحب المشكلة ليخففوا عنه ، وهناك من هو صادق تحتاج لصدقه حينا أو ربما دوما طبقا لطبيعتك ، وفي النهاية لابد وأن يكون الناس بينهم عقد عرفي لمستويات الأخلاق التي يجب توافرها بينهم ليكونوا أفرادا في مجتمع واحد ، ففي الصعيد مثلا غير مقبول تواجد صداقة بين رجل وامرأة وهي في الأصل لا تلقى قبولا من الأخ أو الأب في أي مجتمع مهما كان درجة إباحيته ، والشذوذ مرفوض في أي مجتمع لأن الأصل الفطري هو استقامة الجنس مهما تفشى حولنا محاولات إغراق البشرية في هوة إبليس السحيقة .
ولا شك أن التركيب البيولوجي للإنسان وتوافقه النفسي الجسدي لا يستقيم إلا بمكارم الأخلاق وهو ما يثبته العلم يوما بعد يوما ، فكلما كان الإنسان أكثر قربا وتمسكا بصفات أخلاقية أكثر كانت صحته الجسدية أكثر قوة وثباتا وتلك هي القاعدة بعيدا عن جدال الاستثناءات ، فمثلا القناعة في تناول الطعام وما يحميها من صفات أخلاقية أخرى مثل الرأفة والرحمة وإيثار الغير توفر عناء ما يسببه الإفراط في الطعام من مشاكل صحية ، وكذا القناعة في الاكتفاء بالزوجة توفر الكثير من الصحة والمال والمشكلات التي ترهق صحة الإنسان وتهدد استقراره ومستقبله ، وقناعتك بما في يدك من المال توفر عليك تعريض نفسك للمحاسبة والعقاب المهدد لحريتك وصحتك الجسدية والنفسية ، وكذلك جميع صفات الأخلاق الفطرية تحفظ على صاحبها صحته وقدراته النفسية والجسدية .
ويعد (الحياء) هو أهم وأخطر الصفات الأخلاقية التي تشكل حدود الحماية لغيرها من مفردات الأخلاق الأخرى لأن الحياء هو خلق رباني فالله يستحي أن يرد أيدي من يدعوه فارغة ، والله يستحي أن يرد مستغفرا تائبا ، والله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، ولذلك فالحياء صفة ربانية جعلها الله صمام الأمان للأخلاق والحياء في حد ذاته زهرة الأخلاق التي تزين الإنسان مهما كان دينه وانتماؤه وفكره ، فالحياء يمنعك أن تنظر لمفاتن أنثى فيمنع عنك شهوة قد تهلكك أو تضيع منك وقتا وجهدا ومالا وخلقا قد لا تعوضهم أبدا ، وحياؤك يمنعك أن ترد السباب لجاهل بمثله فيوفر عليك جدالا ونقشا وشجارا وربما قتالا قد يجرح كرامتك أو يودي بحياتك أو يهدد مستقبلك ، وهو نفسه حياؤك الذي يمنعك أن تأخذ شيئا لا يحق لك فيوفر عليك عناء المحاسبة وفساد دينك وأخلاقك ، وهو ما نراه اليوم ونشكو به في مجتمعاتنا فسقوط الحياء سهل لبعض البنات والنساء أن تسير في الطرقات عارضة تفاصيل جسدها في ملابس فاضحة لكل ما خفي باسم التطور والموضة وهو أثار شهوات الرجال فنشر بيننا تدني الأخلاق والوقوع في الفواحش وانتشار الزنا والعشق المحرم ، بل إن سقوط الحياء وصل بتدني الأخلاق أن أصبح العري وعرض مفاتن النساء مفخرة لكثير ممن احترفوا هذه الدنايا فرأينا مسابقات متنوعة في فنون عرض مفاتن النساء باسم فن الرقص والإبداع ، بل بلغ الحال أن يجبن أصحاب الأخلاق أن يتصدوا لهؤلاء ، حتى رأينا بناتنا في سن الطفولة يتمنين أن يصبحن راقصات ، والأخطر أنه زرع الخناثة والدياثة في نفوس أبناءنا من الذكور ، فرأينا رجالا يتباهون بمفاتن بناتهن ونساءهن ولا يجدن حرجا ولا حياء في عرض مفاتنهن لكل العيون ، حتى رأينا تفشي عرض النساء والبنات لصورهن على مواقع التواصل الاجتماعي والتباهي بمنافسات ومسابقات الرجال والشباب في مدح جمالهن ورقتهن وأنوثتهن دون لمحة من حياء فطري سقط سهوا أو عمدا ، وبالتالي فلا عجب بالطبع عندما نفجع باعتياد بعضهن التحدث بألفاظ خادشة للحياء تصل لحد البذاءة وقذارة اللسان بل والحقارة دونما حياء ، ناهينا أن سقوط الحياء قد أوجد مجالا فسيحا لأصحاب النفوس الداعرة أن تنشر سمومها باسم الفن والإبداع .
فالحياء .. ببساطة هو .. (ترموستات الأخلاق البشرية) وفساده يطلق العنان لمفاسد الأخلاق بشتى صورها وسقوطه من النفوس يفسد مفاهيمها الأساسية كاملة ، فإذا سقط حياؤك من الله ساء أدبك مع الله في كل تفاصيل علاقاتك مع الله فترى مثلا .. أحد تجار الدين .. لا يستحي أن يمارس الفواحش مع من تشتهيها نفسه متعللا بفتوى فاسدة أو أن الشيطان غلبه وآخر يفتي للمسلم بأنه يحق له ترك زوجته لمن يغتصبها حفاظا على حياته ولولا أنه قد فقد حياءه وأصبح ديوث الفكر ما تجرأ على مثل هذه الفتوى وهو يعلم قول رسول الله (من مات دون عرضه فهو شهيد) ، فليس ما ندعيه من انتماء هو حجة على أحد ، بل تحكم علينا أخلاقنا التي تترجم لأراء وسلوكيات في الحياة ، فسقوط الحياء ليس حكرا على فئة أو جماعة أو مستوى مادي أو اجتماعي ولكنه يجد مرتعا خصبا وبيئة رحبة بين من لا يملكون فكرا أو ثقافة وهو يختلف كثيرا عن احتراف نوع محدد من العلم ، فليس غريبا أن تجد مدرسا جامعيا أو طبيبا أو مهندسا شاذا أو عاهرا لأنه رغم احترافه لنوع من العلم فهو جاهل وثقافته ضعيفة أو منعدمة وسقط حياؤه مبكرا وهو ما يزال طفلا بتربيته في بيئة فاسدة اهتزت فيها قيم الحياء والأخلاق كثيرا أو اختار بيديه خلال حياته ما تميل له نفسه المريضة بفقدان الحياء .
ولا شك أن استقامة المفاهيم في عقل وقلب الإنسان يجعل حياؤه من الله يرقى لمستويات رفيعة تمنعه أن يتنازل عن حياؤه مع غيره من البشر ، وهو ما نراه واضحا في حدوده العليا كما هو الحال في وجوه أصحاب الحياء الراقي كرسول الله (كان حياؤه أشد من البنت البكر) حتى قال الله فيه (وإنك لعلى خلق عظيم) ، أو نراه في حدوده الدنيا فيمن فقدوا خلق الحياء أو معظمه ، ولست مجاملا أحدا بعينه لو استعرضت رمزا معاصرا من الحياء الفريد هو (عبد الفتاح السيسي) حيث أجد نفسي أمام شخص يملك قدرا عاليا وراقيا من الحياء يشع من تعبيرات وجهه وحروفه التي ينتقيها بحرص ودقة قد يراها البعض مبالغ فيها تصل لحد أن يعيبه عليه بعض الجهلاء ، ثم تجد في سلوكياته أمانة وصدق وشجاعة ومروءة واحترام حتى لأعدائه ومناوئيه وهو ما يدل على أصول لثقافة نفس وإيمان راسخ وقوي الأركان لا يتزعزع بكلام الرافضين أو المتربصين ، وعلى النقيض وفي الطرف الآخر نجد شخصا له مكانته العلمية والأدبية ولكنه لا يستحي أن يعلن أنه شاذ جنسيا ، وهو ما يجعله محترفا للكذب والزور والبهتان والخيانة وتابعا بالضلال دون حياء لمن يدفع أكثر ، ولذلك فالحياء راية الأخلاق وعنوانها والدرع الواقي الذي يحمي مكارم الأخلاق ويصون وجودها واستمرارها وارتقاءها ، ففي (الحياء) أرقى معاني الحياة وقيمها الرفيعة وبه تسمو علاقات البشر ولذلك لا أستحي أن أدعي أن (الحياء .. للأحياء ، ولا حياة لمن لا حياء له) .
وباستعراض أهم ما في الأخلاق كمفهوم إنساني وهو (الحياء) نكون قد أوجزنا أبرز المفاهيم الأساسية التي تحمي الفكر الإنساني وتصون رقيه ومنعته في مواجهة أخطار الاختراق القاتلة للنفوس ، ويمكن أن ننتقل سريعا للركن الثاني من أركان النفس البشرية وهو (الأمانة الذاتية) والتي سوف نتعرض لها لاحقا ..
















