عاجل
الأحد 13 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الحرف التاسع "إيكاروس"
بقلم
رشا بكر

الحرف التاسع "إيكاروس"

بقلم : رشا بكر

الخيانة والغدر واللا مبالاة... صدمات متوالية.. لم أكن أريد أن أفلتك من يدي، لم أكن أريد أفوِّت الفرصة على نفسي...



برقت عيني من هول الصدمة، ونزعتُ خرطومًا صغيرًا موصلًا بإبرة مغروسة في عرقي، والطرف الآخر بعبوَّة محلول مجهول الهويَّة، شددته برفق وبحرفة، ونزعته كما علمتني يومًا ما، ولأنني مريضة بالهيموفوبيا، أو مرض سيلان الدم، كان ينبغي عليَّ الحرص، وأدركت حينها أني لستُ مصابة بالتسمم، ولم أكن حتى أكاد، فقط هو عقلي الباطن الذي أعطى إشارة لجسدي بأني تناولتُ طعامًا ملوَّثًا، فانتابني وهم المرض، وتعرضت للإغماء، وهذه كل الحكاية.

أثناء استنتاجي هذا، اندفع الناس مرة واحدة نحو ممرضة، رفعت كتفيها في لا مبالاة، ومطت شفتيها، والخلق يصرخون، كانوا أهل مريض، أو بالأحرى أهل متوفى لتوِّه، وسمعت زعيقا وسبابا، واتهامات للممرضين والأطباء والمشفى، بل للوزير بشخصه، وانهالت صرخات النساء وعويلهن، وتشابكت مع لعنات وتراشق من الطرفين - أهل المتوفى وفريق المشفى، لكن في ركن آخر من الغرفة جلست امرأة عجوز سمراء معروقة ممصوصة، كأنها شريان رفيع ينبض في جسد الحياة، شديدة الشبه بأمك، نفس العينين الغائرتين، العينان كطريقين لا يلتقيان أبدًا تمامًا كأمك، وجهها ناحل معروق، تجلس القرفصاء، ساندة بظهرها على الجدار، واضعة رأسها على يدها المشققة، عندما رأتك تهلَّل وجهها، نظرت لتلك الغريبة التي اصطحبتها في رحلة إلى قرية بصعيدك الفقير، ثم عادت إلى جلستها متفحصة متعجبة، وكأنني حاوي القرية، ثم همَّت وبرقت عيناها التي تتوارى فيها القسوة خلف نظرات مشفقة، وبدت كتمثال من الحجر، كانت تكرهني بكل إخلاص، لم تلقَ فكرة ارتباطي بك استحساني على الأقل حينها، ولكن ما دمت مصرًّا فلا مانع، لم تكن تعلم حينها أن شتان بين ملح أجاج وعذب فرات، لا.. لا يلتقيان، ولكنك كنت شغوفًا متقبلًا، صكت أمك وجهها وتنحَّت بك جانبًا: "كيف يا ولدي تتزوَّج بفتاة يلتصق عليها الجينز هكذا"، هكذا استطعت أن أخمن ما قالت، بالتأكيد كانت الصياغة مختلفة، ولكن ظني كان في محلِّه، فالرفض والاعتراض كانا صريحين، عندما قال لك والدك الودود المتشدِّد، كيف لك أن تربط مصيرك بتلك المتحررة؟! ألا تشعر بالنخوة؟! ألا تشعر بالغيرة؟! ألا تشعر بالخوف من أن يقلدها أخواتك الفتيات فيوصمن ويبُرْن وتصير سمعتهن على كل لسان؟! ورمقني بعينين يفحَّان شرًّا: "انظر كم هي سافرة متبرجة!"

كنت أتعجب من هذه الثقة التي يتحدثون بها، من أين أتوا بكل هذا التعالي والغرور؟! ما هي إنجازاتهم في الحياة التي تجعلهم يشعرون بهذا الفخر؟! ربما كانت إنجازات شبيهة بأن الرجل الفرعوني هو أقوى رجال الأرض! مجرد خدعة يخدع بها الآباء أبناءهم، كذلك قد يخدع كل من سبق ولحق، وأنا بدوري أنحدر من عائلة متوسطة أرستقراطية...

عائلتي تحترم الحريات وخصوصيات الناس، تنحدر من أسرة موسوعية، تحب الثقافة والاطلاع، لم أقترف ذنبًا ولا فعلت شيئًا فجًّا يدعو لكل هذه المعرة التي واجهتها في أول لقاء بيني وبين والديك، كنت مندهشة، ولكني لم  أهتم، اكتفيتُ بأنني مثَّلت البراءة والعفوية والمرح، الذي أضفى على حياتك بريق ألوان قوس قزح، ذلك ما جعلك تفتتن بي، وما كان رد فعل والديك تجاهي بالنسبة لك، إلا أول فتق لبكارتي لجموحي البريء، فوالدك يرى أنك مليح ولك مستقبل باهر، ويعول عليك لتكون سندًا لعائلتك.

ولكنك أصررت فصنع منك إصرارك إيكاروس الذي لم يستمع لنصح أبيه، أو ما كان يرى حسب وجهة نظره كرجل ريفي، يريد لك عروسًا من "توبك"، مطيعة ونَّاسة، تلد لهم العيال، وتحكي بلهجتهم حيث الدفء وقصص الأجداد، والحرمان والمعاناة، ليست كتلك الفتاة الشقراء ذات القميص الضيق التي كانت أنا، والتي لا ينقصها شيء، فهي ستكتفي بذاتها ولن تشعر بالاحتياج لك في شيء، تعتمد على نفسها، ولن تمكنك من التسيُّد عليها، ولن تستطيع طيّها تحت إبطك وكبح شرودها.

لكنك صعدت معي حاملا كل تناقضاتك، وطرت في طبقات العلا، تقترب حثيثًا من شمس حمئة، أذابت الشمع الذي كان يصل بين جسدك وجناحيك المستعارين، وحين اقتربت من لهيبها أكثر فأكثر، وقبل أن تسقط، كنت أنا أرقب معاناتك، طموحك، وروعتك، وذلك الغموض الذي لا يقاوم، وتلك الحسنة الصغيرة السوداء بجوار شفتين غليظتين، لونهما أحوى برَّاق، ونظارة تضفي عليك لمحة من الاتزان، خلفها عينان كسردابين، لكل منهما حكاية.. كنت أتساءل.. لماذا فضلت الجمع بين النقيضين؛ السماء والأرض، العيش معي في البراح دون خوف، في حين أنك ترغب العيش في حياة كلها تضحيات؟ يا له من تناقض تحاول أن توازن فيه بين رغباتك وإرادتك، وما أُرغمتَ عليه بين التمنِّي والنُّهزة والفعل، إنه تناقض قسمك نصفين يتعاركان طيلة الوقت.

راقبتك وأنت تطير غير مبالٍ، ترغب الحصول على كل شيء، وشاهدتك وأنت تعلو وتحلق، وارتفعتَ فهويتَ وسقطتَ، تمامًا كما سقط إيكاروس، حينما انزلق جناحاه وثقل حِمله على الهواء، دماؤك كانت تسيل على أرض زرعها أبوك، وفي وسطها عمود اخترقك، فبت صريع إرثك، ولكنك لم تمت.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز