الإنس والجن بين الحقائق والأساطير (3)
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
توقفنا سابقا عن حقائق نجاحات إبليس وشياطينه مع الإنسان والتي كانت أكبرها هو إقناعه للغالبية العظمى من البشر بعدم وجود الشياطين واعتبارها أساطير تاريخية لا وجود لها ، ثم ذكرنا أن أخطر النجاحات التي حققها وما زال يستمتع بها إبليس وشياطينه هي نشر العداء والفرقة بين بني البشر على أسس اختلافات العرق والدين والأرض والتاريخ والتي استشرت بين البشر بشهوات وأطماع البشر في الهيمنة والسيطرة ، وهو ما نعانيه اليوم من حرص القوى الكبرى على إخضاع الكيانات والدول الغنية بمواردها وإخضاعها تحت شعارات مخادعة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، والتي لا محل لها على الإطلاق في ممارسات هذه الدول الكبرى الحقيقية ، بل وأبسط من هذا نراه مستساغا في سيطرة أصحاب الأموال واستعبادهم للفقراء في كل الدنيا ، ثم توقفنا عند حقيقة أن الجن يرون بني آدم في حين أننا لا نراهم وهو أحد أهم أسباب نجاح معتقدات عدم وجودهم رغم أن كثير من البشر لهم اتصالات وتعاملات حقيقية مع الجن وشياطينهم {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }الجن6 . كما تمكن الإنسان من مشاهدة بعض الجن بأجهزة الرؤية تحت الحمراء .
وقلنا أن الجن والإنس متشابهين في خلقهم مع اختلاف طبيعة مادة الجسد الأولية فكلاهما في الحقيقة نفس واعية ومكلفة ومنح الله كل منهما جسدا من مادة تحييه الروح (وهي سر الإحياء لكل شئ في الكون) ، فالإنسان جسده من سلالة متقدمة من الطين (تراب الأرض + ماء) والجن جسده من سلالة متقدمة من النار ، وهو ما يعطي للجن قدرة على النفاذ عبر جسد ابن آدم دون أن يشعر به الإنسان إلا أحيانا في صورة ارتفاع في درجة حرارة جسده ، وقلنا أن الجن لا يستطيع المساس بجسد ابن آدم {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }الحجر42 ، فلا يملك جنا إيذاء بشر أو التحكم فيه إلا لو أسلم الإنسان للشيطان قياده وأطاعه ونفض عنه الحماية نتيجة في غفلة منه أو تخليه عن جسده في لحظة ضعف أو يأس مثل فقدان الوعي لأي سبب مزعج أو مرعب دون حماية متجددة وثابتة ، أو حتى للنوم حيث تعتبر فترة مغادرة النفس البشرية للجسد هي أخطر فترات مساس الجن وعبثه بجسد الإنسان والذي يغادر جسده يوميا للنوم {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر 42 ، وقد يغادر الإنسان جسده مرغما في إغماءة مفاجئة ، وقد يغادره مخدرا بتعاطيه المخدرات أو أثناء عملية جراحية ، ويعد الحزن واليأس والإحباط من أخطر حالات الإنسان التي يمكن أن يدفع ثمنها غاليا لبقية حياته مثلما يعتاد البعض خاصة البنات والسيدات والأطفال على الاختلاء في مكان منعزل للبكاء والنحيب ، وهنا تقع الكارثة إذا يكون عادة هذا المكان هو دورة المياه أو مكانا خرابا أو نجسا ، وهي أماكن ذاخرة بالشياطين المتربصة وقد جاءتهم فريسة سهلة ومتخلية عن جسدها بالحزن أو اليأس ، فيمسونها في مراكز التحكم في المخ فيسببون أضرارا كبيرة ، قد تصل لحدود فقدان سيطرة النفس على جسدها تماما فيصبح مجنونا أو مصابا بالصرع .
ولا شك أن الصرع نوعان رئيسيان أولهما ما يسببه مس الجن لابن آدم ، والثاني لأسباب عضوية في المخ كنتيجة لحادثة أو مرض مزمن أو عيب خلقي ، والتفريق بينهما ليس صعبا ، فصاحب الصرع الأول يشتد صرعه وتشنجاته بسماع القرآن خاصة آيات بعينها مثل قوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }المؤمنون115 ، والتي تؤثر في جميع أنواع الجن مسلمهم وكافرهم ، بخلاف قول (الله أكبر) والتي تحرق شياطينهم فيفرون منها ، لأن بعض الجن المسلمين قد يمس الإنسان وقد يلبس جسده أي يتحكم في جسده كاملا بالسيطرة على مركز القيادة في مخه لو أخطأ ابن آدم وتسبب بضرر مباشر لهذا الجني المسلم ولو بطريق الخطأ ودون أن يدري ، كأن يسقط ابن آدم أو يفقد الوعي بمكان خراب أو صحراء أو في الزراعات ليلا دون حماية ، أو يدوس بقدمه في ترعة أو مجرى مياه صغير ليلا دون أن يسمي أو يذكر الله لينبه من ينام من الجن فيها ، أو مثلما نرى كثيرا من أبناءنا يصرون على نزول البحر على الشواطئ بعد المغرب وبعضهم بالليل وهم لا يعلمون أن كثيرا من الجن ينامون في الماء على الشواطئ ليلا ، واحتمالات المس تصبح كبيرة جدا لعشوائية العبث في الماء دون هدف في توقيت غير مناسب ببداية الظلام .
وللوقاية من إيذاء الجن والشياطين فلابد للإنسان من الاعتماد على أركان ثلاثة ، هي ( الحماية المستديمة - السيطرة على سلوكياته - تأمين حركات حياته ) والأولى بالحفاظ على الصلاة لأنها الحد الأدنى من الحماية ، والثانية بالسيطرة على سلوكياته بالحرص والالتزام بالتعقل والأدب واللطف في التعامل والبعد عن عشوائية حركات حياته دون علم بما قد يصيبه من جراء هذا ، خاصة في الأماكن العامة المزدحمة ، وكذا تجنب إيذاء الحيوانات الغريبة خاصة ليلا ، وكذلك تجنب مغامرات وطيش الشباب في حركات خارجة عن المألوف قدر الإمكان مثل نزول البحر ليلا ، أو المبيت أو خلع الملابس أو الانفراد بأنثى مثلا في مكان خلاء أو مهجور ، أو تعاطي المخدرات والمغيبات والتي تفقد ابن آدم سيطرته على جسده ، فلا يأكل الذئب من الغنم إلا الشاردة والمارقة وما أكثر ذئاب الجن وشياطينهم ، والثالثة ألا يتحرك الإنسان أو يغير وضعه أو حالته أو حركاته دون حماية ، ولا شك أن أفضل التأمين والحماية لابن آدم هو ذكر الله وكلامه وأشهرها لدى المسلمين التسمية (بسم الله) وقول (الله أكبر) فضلا عن آيات وسور القرآن الكريم المختلفة والتي تتميز بعضها بقواها المتباينة ، {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً }الإسراء45 ، فقراءة القرآن تمنع الشياطين من رؤية الإنسان أو الاقتراب منه (عدا القرين الذي يوسوس له) ، فسورة البقرة تطرد الشياطين من المكان ليوم كامل ، والسور الثلاث الأخيرة في القرآن (الصمد والمعوذتين) تفرضان حماية حول جسد قارئها ليلا أو نهارا وبالتالي فلابد من اعتياد اللسان على ذكر الله والاستعاذة به {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }فصلت36 ، ومراعاة تعليمها لصغارنا لأنها تغني عن معاناة سنوات قد تمتد للعمر كله .
وصدق ابن حنبل في قوله لا يوجد بشرا لم تمسه الشياطين ، إلا من حفظه الله كالرسل والأنبياء ومن رحم ربي ، فكل البشر على الأرض تمسهم الشياطين كثيرا وفي ظروف متباينة ومختلفة ومتكررة بصفة يومية ، وترى نتائج هذا في اعوجاج أو انحراف سلوكياتهم وأخلاقياتهم ، وأبسط مظاهر التأثيرات هي اختلاف معدلات الانفعال وردود الأفعال عن الأمثل ، فترى البعض سريع الغضب والبعض الآخر باردا ولا يحرك ساكنا لأخطر المشاكل أو الأفعال ، ولا يصبح المس مزعجا ويحتاج للتدخل إلا لو تسبب في إحداث مشاكل متكررة لصاحبها أو معاشريه والمتعاملين معه ، كضعف أو عجز في عضو معين من جسده ، أو ظهور خطورة من تعامله مع البشر من حوله ، ولا ننسى أيضا أن الجن حولنا ويعيشون معنا في بيوتنا وأماكن أعمالنا وشوارعنا وعادة ما يعمر المكان أنواع من الجن متوافقة مع معتقدات أصحابها من الإنس ونوعية حياتهم ، ولذلك لا يصح مطلقا أن يتجول ابن آدم عاريا حتى في بيته فالجن يغار على أهله ، ولا يجوز أن يكون البيت مرتعا لأفعال محرمة فالجن لن يقبلها وربما تدخل ليمنعها لو استشرت وتكررت ، ولا يجوز دخول دورة المياه أو مكان خال دون تنبيه وفرض حماية بذكر الله .
وربما يعترض البعض بأن هناك دولا وبشرا يحيون حياتهم أفضل منا ماديا ودون ذكر الله بل ويكفرون بالله ومشركين به وملحدين ، ولهؤلاء نقول أمرين .. الأول أن من يعاشرهم سوف يكتشف حجم المصائب والبلايا التي تفاجئ الكثير منهم فتدمر حياتهم من جراء جهلهم بالجن والشياطين من حولهم حتى انتشر بينهم مصاصي الدماء والسفاحين المتسلسلين ، والثاني .. أن لكل بشر في الكون معطياته التي يحاسبه الله عليها والتي يحمله الله مسئولياتها ، فمن منحه الله الوسيلة لحماية نفسه هو مسئول عن استخدامها ولا يلومن إلا نفسه ، ومن لم يمنحه الله الوسيلة والعلم فالله وحده حاميه وراعيه مهما كان دينه وملته التي لم يختارها عند مولده ، فلله في خلقه شئون ، تماما مثل ابن الأغنياء الذي يتابعه طبيبا منذ ولادته وأي تفريط منهم قد يسبب له مرضا مزمنا ، وهناك طفل فقير يحيا طفولته عاريا منذ ولادته في الطرقات ورغم ذلك صحته أفضل كثيرا من أبناء الأغنياء ، فناموس الكون عادلا ودقيقا ، (فمن عرف فقد وجب عليه التكليف) ، ولا ننسى دوما أن أشد أعداء إبليس هم أصحاب الأديان الذين من يعرفون الله ويذكرونه ، لأنهم يذكرونه دوما بعصيانه وطرده من رحمة الله ، ولذلك نقول دوما .. أن الشياطين لا تقف عند أبواب الفجور كالخمارات والبارات ولكنها تقف دوما عند أبواب المساجد ، ولا ننسى أن أخطر ما نعانيه اليوم هو الجهل وهو ما يفتح أبواب الدجالين والنصابين وما أكثرهم وما أيسر كشفهم وهو ما سوف نتناوله لاحقا ..
















