(وحوي .. يا وحوي .. إياحة)
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
ما بين (وحوي يا وحوي) لأحمد عبد القادر صاحب الألفي أغنية في الإذاعة المصرية منذ افتتاحها وبين أروع إعلان قوي لعبد المطلب (رمضان جانا) ، وهما أشهر أغنيات رمضان عبر المائة سنة الماضية ، وصل بحمد الله وكرمه ونعمته ورحمته إلى رحاب بيوتنا وشوارعنا وبلادنا .. بل وكل بقاع الأرض جميعا هذا الشهر الكريم الملقب بشهر رمضان المعظم ، ولعلي لست الوحيد الذي يشعر بجلاله وجماله وروعة أريجه الذي يسبقه ويسبغ الدنيا بهدوء نفسي وسكينة ، فيغشى الوجود بنسمات من الراحة والطمأنينة والجلال ، رغم أن البعض قد يرى عدم الاختلاف بينه وبين غيره من الأيام إلا في كبده ومشقته في تدبير ما تشتهيه الأنفس من ألوان الطعام والشراب فضلا عن حرارة الطقس وتفشي الكسل وتعطل المصالح ، وهو نتاج منطقي لزاوية الرؤية النفسية للأشياء ، فمن احترف رؤية النصف الفارغ من الكوب لن تستطيع نفحات الدنيا ولا البشر ولا الأيام أن تقنعه بأن للكوب نصف مملوء يجدر به الانتباه له ، خاصة بعد تفشي ظاهرة الانتقاد والاعتراض والرفض على طول الخط بين فئات كثيرة من المصريين كنتاج طبيعي للثورة وسلبياتها على النفوس ، خاصة تلك النفوس المغيبة والمهترئة والمشتتة وكذلك التي استمرأت الاستمتاع بالمراهقة النفسية وممارستها دون تدبر .
ودوما كان وما زال رمضان يحمل لكل البشر رغم اختلافاتهم وتباينهم الكثير من الذكريات المتراكمة عبر السنين خاصة من تعدى بعمره العقود الأربعة أو الخمسة ، فرمضان في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان يختلف كثيرا عن أيامنا هذه ، حيث كانت الدنيا أكثر بساطة والمتاح من التكنولوجيا والتطور لا يتعدى التلفاز وقنواته الثلاثة العرجاء ، وكان (المذياع) أو الراديو ما زال هو العملاق والمسيطر على الأسماع والأذهان وقلوب المصريين وكانت وسائل الاتصال محصورة في بين أرقام قرص التليفون الدوار وهو الذي يمثل قمة التطور في بيوتنا ، أو على (كنبة) السنترال منتظرا أن يسعدك الزمان بمكالمة لأحد الأقارب في القاهرة أو حتى على مسافة 10 كم في محافظة أخرى ، وانحصرت تكنولوجيا الإعلام المتاحة للبشر في مجموعة الجرائد والمجلات القومية حيث كان للقراءة أهميتها وسطوتها ، وكان رمضان مرتبطا بقوة بذلك الفانوس المصري الأصيل (أبو شمعة) والمصنوع من الصفيح وبعض قطع الزجاج الملون وبابه الأيوني الذي لا تلمسه إلا لوضع الشمعة داخله وإشعالها ، ولا ننسى فرن الكنافة الدائري الذي يبنونه من الطين قبل بداية رمضان ليهدمونه في صباح العيد وعبر سنوات طويلة سيطر علينا مسموعات بعينها مثل فوازير رمضان ، وألف ليلة وليلة وسيد مع حرمه في رمضان ، وأحسن القصص وقرآن المغرب وقرآن الفجر ، وبرامج مسلسلات عديدة شكلت فكر وثقافة هذا الجيل الذي عاصر تلك الانتقالة الجبارة والانفجار الإعلامي من قنوات ثلاثة يتيمة للتليفزيون المصري إلى مئات الفضائيات ومن متنوعات محدودة لآلاف البرامج والمسلسلات والأفلام ، وهو ما أصاب ترابط العائلات المصرية بالفتور قبل أن يقضي الآي فون والواتس أب والشات على ما تبقى منه ويصيب تواصل الأسرة الواحدة في مقتل ، فقد كان رمضان بشعائره ومناسكه ومراسمه فرصة كبيرة لتأصيل عادات وتقاليد موروثة تضفي على رمضان كثيرا من الاحترام والتبجيل ، حتى كانت المراسم الدينية تمثل أركانا نفسية ذات آثار كبيرة وجميلة في نفوس الرجال والشباب والأطفال مثل الحرص على الاجتماع في صلاة العشاء والقيام وصلاة الفجر يوميا ، بل وكانت عادة التعاقد مع مشايخ ومنشدين بعينهم لإحياء ليالي رمضان في بيوت بعينها وأحياء ومساجد بعينها واجبات رمضانية مقدسة ، وهو ما كان يصنع الفارق النفسي ما بين رمضان وغير رمضان وهو ما ترك بصماته واضحة على أجيال تربت على احترام وتعظيم شعائر الله وعدم نسيان قول الله تعالى .. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }الحج32 .
نعم .. لكل زمان سماته وجماله وروعته ، ولكنها طبائع البشر التي تحن دوما للماضي وترى فيه كثيرا من الرومانسية والروعة .. فقط لأنه مضى ، وتتناسى كبده ومشقته وسلبياته ، فالبشر يعشقون الذكريات ويمجدونها ، فبها تتناقل الأجيال تراثها الفكري والثقافي ، ونحن شعب ممتد التراث لآلاف السنين ، فنحن الشعب الوحيد في كل مسلمي العالم الذي تشعر في بلاده وشوارعه وبيوته بأريج ورائحة رمضان ومتعة صومه وإفطاره والتجول في شوارعه والتواصل بين البشر متواكبا مع تطور أساليب ووسائل الحياة ، وهو ما يجعل القاهرة قبلة ومزارا بل ودارا مرحبة وكريمة لكل المسلمين من شتى بقاع الأرض في رمضان خاصة أشقائنا العرب ، وما أروع التمتع بالتجول في شوارع مصر القديمة أو (العتيقة) مثلما يسمونها أهلها في نهار رمضان خاصة ما بعد صلاة العصر وحتى آذان المغرب ، ثم التمتع بأريج رمضان وأروع لحظات اليوم بالإفطار في رحاب أولياء الله الصالحين في حي الحسين أو السيدة زينب أو السيدة نفيسة وقضاء الليل وصلواته حتى الفجر في هذه الرحاب الطاهرة والمليئة برحابة رمضان وسخائه وجمال لياليه ، فتلك متعة لا تعادلها متعة ولا تتكرر سوى مرة واحدة في العام ، وزادا عظيما وجميلا لمخزون الذكريات لمن يشاء .
وأخيرا .. تبقى ذكريات رمضان في الماضي تداعب القلوب والعقول مع أغنيات عبد المطلب وأم كلثوم وليلى مراد وغيرهم الكثير ، ولكن ينفرد أقدم من غنى لرمضان وهو المطرب (أحمد عبد القادر) المجهول لأجيال كثيرة بأجمل وأروع أغنيات رمضان (وحوي يا وحوي .. إياحة .. روحت يا شعبان .. إياحة .. وحوينا الدار .. جيت يا رمضان .. إياحة) ورغم أنني ما زلت لا أعلم معنى هذه (الإياحة) ولكني ما زلت لها أسيرا لها ، ويشعرني سماعها أنني قد عدت لزمن سيطرة الطربوش الأحمر على رؤوس المصريين ، ويؤكد هذا الشعور بقوة لو سمعتها عصرا في شارع السلطان حسن وفي حضرة مساجد وزوايا هذه المنطقة الأثرية العريقة ، والتي تتسلل متوغلة في النفس حاملة للصدور والقلوب عبق الماضي وسحره المشبع بالشجن والحنين لمن فارقنا من أجدادنا وأهلينا وذوينا ، فتلهث الألسنة بالتبتل والدعاء لله سبحانه وتعالى لهم بالمغفرة والرحمة ، وهي نفسها الذكريات التي تذكرنا وتنذرنا بأننا راحلون مثلما رحلوا ، وأن أعمارنا المتبقية ربما تقارب على الانتهاء ، فنسابق الزمن للتمتع ببسمات أطفالنا ونعلمهم بعض ما حفره الزمن في نفوسنا من احترام وتبجيل لشعائر الله ومناسكه في أيام نفحاته الرمضانية التي تذكرنا دوما بفرص التمتع والفوز بتحقيق بعضا من سعادة الفقراء والمساكين بمزيد من واجبات المساعدة والبر اليومي ، للفوز برضا الله وكرمه ونعمته ورحمته .
















