عاجل
الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
وبَلغ أَربعين سَنة... (قصة قصيرة)

وبَلغ أَربعين سَنة... (قصة قصيرة)

بقلم : د. أحمد الديب

يحتسي قهوته الصباحية كعادته في المقهي ذي الديكورات الصاخبة  المتاخم لبيته ، ولأنه لا يحب  الصخب ، ويمقت كلَ ما له جدران ، يختلي بنفسة في ساحة المقهي الخارجية تحت شجرة "الجكراندا" بنفسجية الأوراق ، بالطبع لم يكن يعرف اسمها حتي سأل  صاحب المقهي فأرشده ، استزاده  فزاده بأنها شجرة استوائية جميلة الشكل ، تتحمل درجات الحرارة الشديدة رغم دقة ورقة أوراقها . لم يستمتع بقهوته كثيراً ذلك الصباح ، ولا ببهجة أوراق "الجكرندا" البنفسجية المهذبة الحزينة . ثمة حديث مازح صاخب يعبث بصفاء الصباح الباكر ، يدور علي الطاولة المجاورة بين رجلين اربعينيين ، أحدهما نال منه الصلع ، بينما أكل الشيب علي رأس الآخر وشرب . لا زالا  يقيمان الحجج ويدفعان بالبراهين أيهما أفضل ، من فقد شعره أم من استبدل شعره القاتم بخصل بيضاء !. جال بخاطره وهو يخفي ابتسامة عارضة ، متي كان أول يوم لاحظ فيه زحف الشعر الأبيض علي رأسه . لم تسعفه الذاكرة ، لكنه تذكر المرآه التي أفشت له بالسر ، مرآته لا تكذب ولا تتجمل ، تصدم أحياناً ، لكنها ليس لها مصلحة في إخفاء الحقائق كالبشر !.



 

في السيارة ، وعلي تسجيل إذاعة القرآن الكريم المصرية القديم للشيخ الحصري ، يمضي في طريقه قاصداً عمله والذي لم يعد يهتم إلا بأنه العمل الذي يوفر له قدراً من حياة كريمة . لم يعد متمرداً كما كان ، لم يعد مستعداً للمغامرة بأن يقصد عمله من طريق آخر غير الذي اعتاد حتي وإن كان الطريق الأقصَر. يردد دائماً حكمته المستوحاة من سنوات وسنوات من التجربة والخطأ ..." الطريق الأقصَر هي الطريق التي تعرف جيداً" !. لم يطيل الشرود بفكره  حتي نكزه الشيخ الحصري نكزة لا تختلف كثيراً عن نكزة شيخه في كُتاب بلدته حنتي ينتبه فيستمع وينصت إلي الآية الخامسة عشرة من سورة الأحقاف ...." وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" ....... أطلق العنان لينصت بقلبه وعقله فلربما تكون الرسالة ، ما أكثر الرسائل التي بعث له بها الشيخ الحصري في أوقات كان في أشد الحاجة  إلي إجابات شافية .

 

يصلُ مكتبه في موعده ، يعدل من رابطة عنقة أو بالأحري يوسع ما بينها وبين رقبته ، يحرر زرار قميصه العلوي ، هكذا يبدأ التنفس كخلق الله . يمارس طقوسه المعتادة لدقائق معدودة  قبيل الشروع في العمل  . بينما هو منهمك في ترتيب أوراقه وأفكاره وأولوياته وبين يديه كوباً زجاجياً يعتز به أهداه إليه أحدهم موسوم بالأبيض والأحمر والأسود ، نقش سريالي أشبه بعلم مصر ،  يدق هاتف مكتبه فإذا  هو مديره يسأله عن التقرير المزمع تقديمه للإدارة العليا فيخبره أنه لم ينتهي منه بعد ، وأن التقرير سيكون جاهزاً خلال يومين علي الأكثر . "خلال يومين ؟ " يتمتم بهذا السؤال وهو يغلق سماعة هاتفه . " التقرير لازم يكون جاهز يوم ......" . تقطع نظرة خاطفه علي واحدة من مفكرات التقويم التي تملأ جنبات مكتبه   حديثه لنفسه ، يرمق تاريخ اليوم رمقاً ، 14 أغسطس ، "ما هذا ؟ "..يعود للتمتمة مرة أخري. ثم يحدق أكثر ، فإذا هو الرابع عشر من أغسطس . يسارع بفتح هاتفه المحمول ليتأكد من تاريخ يومه فيجد إشارة أن لديه  عدداً غير معتاد من رسائل الفيس بوك الذي لم يطالعه منذ ثلاثة أيام ، "ما هذا ؟ " يعاود التمتمة مدهوشاً . مائة وأربع وخمسون رسالة ..." كل سنة وأنت طيب.... عقبال ميت سنة" !. 

 

في المدرسة الإبتدائية ، كان يعاني من عدم متابعته تاريخ يومه بالتحديد فإذا سُأل عنه ، كانت إجابته إما يوم قبل يومه أو يوم بعده . وهكذا كبرت معه هذه المعضلة وكبر معها . كما كبرت معه معضلة أنه لا يعرف بالضبط كم تبقي في جيبه من نقود . انقضي يوم عمله في الرابعة عصراً . يتجه إلي المصعد ومنه إلي المواقف حيث سياراته . يفعل هذا كل يوم ، يصعد ثم يهبط . وكلما صعد أكثر يهبط أكثر وبينما تستمر الحياة بين صعود وهبوط ، ترسخ عنده أن المحصلة النهائية "صفرية" ...ليس من الحكمة أن يأسي علي ما فات أو أن يفرح بما نال ، هكذا فكر هابطاً في المصعد ذي الجدران الزجاجية والتي عكست من كل اتجاه ، كيف اشتعل الرأس شييباً بما يتناسب مع ذكري ميلاده الأربعين.

 

في الإياب ، يتجه إلي منزله مسيطراً عليه ذات المنهج الفكري ، بما أن هناك صعود وهبوط متلازمين ودائمين ، فلا بد أن يكون الذهاب والإياب متلازمين ودائمين ....لا يزال في سيارته ، وعلي أنغام " كيفك إنت " ، تُلقي به "فيروز" إلي أيام في شهور في سنوات ما قبل  ذكري يوم ميلاده الأربعين ، من الكُتاب الي المدرسة الإبتدائية مروراً بمنحني علاقته بربه وبنفسه وبالناس ، حجم النجاحات يقترب كثيراَ من حجم الإخفاقات ، عدد مرات افراحة تتناسب طردياً مع عدد مرات أتراحه . سيطرت عليه الدهشة ! ، كيف استطاع أن يجتر أربعين سنة في مدة لا تتجاوز نصف ساعة وتسائل ، اليست قصيرة ؟ فأجاب علي نفسه بخبثه  المعتاد ، أيهما تقصد ؟ النصف ساعة أم الاربعين سنة ؟ ...ثم ابتسم وهو يردد بلا صوت "أما آن الأوان أن توقن أنه لا فرق يذكر بين النصف الساعة والأربعين سنة" ! . 

 

يصل إلي منزله في موعده ، يلتفت إلي مفكرته التي يفقدها بعد كل تدوينة ، في كل مرة يعقد العزم أن يحتفظ بها في درج مكتبه العلوي لكنه لا يفعل . يعثر عليها تحت وسادة نومه هذه المرة . هي أول تدوينة ، باكورة عقده الخامس...." الرابع عشر من أغسطس سنة الفين وستة عشر ،أما بعد ، فإذا نظرت إلي ما انقضي أراه أكثر مما بقي . ثمة إيجابية وحيدة ، لم أعد قادراً علي استحضار لوحة  الشمس غارقة في مياه البحر ساعة الغروب . كما لم أعد قادراً علي استدعاء صوت البيانو الحماسي . أصبحتُ أكثر حساسية لأصوات الآلات الهادرة ، موتورالسيارة ، حفار الأسفلت المتكرر علي كل الطرقات  ، ساعة الحائط ذات الجدار النحاسي ......عقدك الخامس يجذبك أكثر صوب واقعك . أنت هنا ولست هناك .... أنت الآن ولست غداً ".

 

يستيقظ علي شيء بالغ النعومة يدغدغ أنفه ، يفتح عينيه بالتدريج ، بالتدريج تتضح الصورة شيئاً فشيئاً ، يمسح بيديه آثار الكري . سندريلا ذات السنوات الأربع وبين اناملها الدقيقة ريشة تداعب وجهة... " إصحي يا جدو الساعة بقت ستة ونص ، يلا علشان متتاخرش علي شغلك ، كل سنة وإنت طيب يا حبيبي  بالليل محضرينلك مفاجأة " !. يبتسم ابتسامته المعتادة بينما يده تبحث عن شيء تحت الوسادة ، مفكرته العتيقة ، يقلب الصفحات ليصل إلي آخر تدوينة بأصابع مرتعده ، يقع بصره علي آخر صفحة ، لم يجف حبرها بعد ..." الرابع عشر من أغسطس سنة الفين وستة وثلاثين ، ها أنت تكمل عامك الستين ،.و.........................................................".

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز