عاجل
الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
سيف المُعيق.. وذهب القدرات الخاصة

سيف المُعيق.. وذهب القدرات الخاصة

بقلم : محمد عبد السلام

"الإرادة هي الفكرة، والعزيمة هي الروح".. لم يبالغ الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور حينما أطلق تلك العبارة، فالخطوة الأولي للكفاح عادة ما تتحلي بالإرادة، يتبعها ضرورة التحلي بروح العزيمة من أجل الحفاظ علي ما تحققة من نجاح، لكن ليسمح لي "شوبنهاور" أن أضيف معيار ثالث للنجاح، فبالإضافة إلي الإرادة والعزيمة، يجب أن يكون هناك يقين وإيمان، فإنسان بلا يقين وإيمان بقدرته علي تحقيق النجاح لن يحقق شيئاً علي الإطلاق، سيكون مثل قاطرة بلا جرار، وإنسان بلا رأس.



المشهد الأول

مسقط رأسي داخل إحدي غرف كلية التربية الرياضية، مراهق صغير، لم يتجاوز السابعة عشر بعد، رغم حداثتة يتخيل من يراه أنه رياضي عتيق، عريض المنكبين، مفتول العضلات، قوي الشكيمة، يقف بكل قوة واعتداد متباهيا بقوته، عيناه الخاويتان انعكس فيهما وهيج نيران أتت من قاع عميق، لهفة وشوق لإلتحاقة بالكلية التي حلم بها سنين عددا.

"مستحيل نقبل ورقك.. إنت كده كده هتسقط في إختبارات الجري".. لطمة قاسية من إلة البيروقراطية عند المصريين أعادت الفتي الحالم إلي وعية، إنسان قعيد، لا أعلم لماذا لم أهتم بتلك الملاحظة التي يراها البعض ليس لها قيمة، لكنني تذكرت أن هذا البعض لا يمت لمجتمعاتنا المريضة بأي صلة.

إستدار الفتي بكرسية المتحرك ليغادر الغرفة مطأطئ الرأس، أرخ عينيه السوداوين إلى الأرض، أمسك عن الكلام، سيطر الحزن على قسمات وجهه الشاحب، أضحي عجوزاً وليس فتي صغير، ليس ذنبه أنه قعيدا لم تطأ قدمة أرض في حياته، لماذا يحرمونه من حُلم سيطر علية منذ أن ولد، لماذا يرفضون منحة فرصة ان يفي بعهده الذي قطعة علي نفسه، أن يثبت لقرنائه وأهل وجيعته أن الإعاقة ليست إعاقة جسد، ولكنها إعاقة إرادة وإصرار وتحدي، واليوم إكتشف للإعاقة توصف رابع أصاب هذه البلد، إعاقة الفكر.

قد تعتقدون أن هذا المشهد من وحي خيال المؤلف، ولكنني سأخيب ظنكم وأعلن عن إسم بطل تلك المأساة، لقد شب الفتي وأصبح رجلاً يافعاً يرفع إسم مصر عالياً، منذ سنوات حكم علية إلة البيروقراطية بالعجز، وأنه من المستحيل أن يُصبح بطلاً رياضياً، ولكنه اليوم يمكنه أن يصفع هذا الكائن علي خدية، فقد أضحي اليوم بطلاً أولمبياً حصل لمصر علي الميدالية الفضية في رفع الأثقال في أولمبياد ريودي جانيرو 2016، إنه الرباع العالمي عمرو فاروق.

المشهد الثاني

اكتظ رصيف محطة قطار محافظة إلمنيا بإناس يودعون أبنائهم المهاجرون إلي مصر، لم يكن علي الرصيف موطئ قدم، الجميع ينتظر تحرك القطار بالباحثين عن "لقمة عيش" في المحروسة قاهرة المُعز، فجأة وقبل أن يتحرك القطار، إنطلق شاب وسط حشد من الناس محاولاً إختراق الصفوف للحاق به، لم يبالي بإعاقة قدمية، قاتل كثيرا من أجل الوصول إلي القطار، يدفعة البعض من الخلف بحثاً عن منفذ يجعله يتقدم ناحية أي من أبواب القطار، حتي نجح أخيراً.

داخل العربة لم يجد الشاب مقعداً للجلوس علية، وكالعادة لم يرحم إعاقته أحد، لم تُجدي توسلات تنهيداته اللاهثة، ولا حتي عرق وجنتية، فأشاح الجميع بوجوههم مستسلمين لنوم عميق، أو هكذا تظاهروا، فأطرق الفتي رأسة وإنتحي ركناً وجلس القرفصاء دافناً رأسة بين ما بقي من ساقيه العاجزتين، متأسياً علي حالة، وحياته التي يحياها في مجتمع لا يرحم ولا يدعة يعيش كما يُحب.

وكأنها الكوابيس، راحت الذكريات والأحداث المؤلمة تهاجمة، تعبيرات وجهة وإضطراب وإحمرار عينية تنبئان بذلك، تذكر كيف عاني بإعاقته تلك طيلة حياته، تذكر كيف كان يعامله الجميع في الجامعة، وعندما تخرج من كليته وإعتقد أن الدنيا ستبتسم له، أدارت الدنيا وجهها وأصابته بصدمة نزلت علي رأسة كالصاعقة، صدمه جعلته يُدرك جيداً أن إعاقة قدميه ستلازمة ما بقي له من حياة.

"إنت برجلك دي متنفعش تشتغل".. انتفض الشاب فزعاً بمجرد أن تذكر تلك الكلمة التي لازمتة حتي بعد أن تخرج من الجامعة، تلك العبارة التي جعلته يخرج مضطراً من قريته إلي المحروسة بحثاً عن أي وظيفة تناسب ظروفة، حبس الدمع في عينية ألماً، أبي أن يحررة ليسيل علي وجنتيه حفاظا علي ما تبقي من كبرياء، فأسلم جفنيه لنوم عميق إنتظاراً إلي ما ستسفر عنه رحلته إلي القاهرة.

تلك قصة أخري ليست من نسج خيال المؤلف وان كان شابها بعض التعديل بالتأكيد، واحدة من مئات الحقائق المؤلمه التي يعايشها أصحاب القدرات الخاصة، وكما توقعتم بالتأكيد هذا الشاب أحد أبرز الأبطال المصريين الذين حققوا ثلاثة ميداليات ذهبية في أخر ثلاثة دورات بارالمبية، في بكين 2008، ولندن 2012، وأخيراً في ريو 2016، إنه الرباع العالمي شريف عثمان.

المشهد الثالث

"مصر بلد المُعاقين".. عبارة ساخرة أطلقها سائق تاكسي أقلني من عملي بجاردن سيتي إلي مكتبي بشارع فيصل، لم يخونه التعبير كما إعتقدت، فقد كان سعيداً بذهبيتي راندا محمود ومحمد دياب في البارالمبية ريو 2016، لم يصنت طيلة الطريق، تحدث كثيراً عن الإصرار والتحدي والعزيمة لهؤلاء الأبطال، وكيف أنهم أجبروه علي غرتياد إحدي المقاهي التي تنقل الحدث علي الهواء مباشرة لتشجيعهم، وبين الفينة والأخري لا ينسي أن يذكرني أن مصر "بلد المُعاقين".

بعيداً عن المصطلح الذي أطلقة السائق، وقد يعتقد البعض أنه شخص بذئ اللسان، إلا أن نظرة علمية متفحصة سنجد أنه شخص أصاب كبد الحقيقة، فطيلة عشرة دورات بارألمبية شاركت فيها مصر خلال الفترة من 1976 حتي 2012، تمكن عمالقة القدرات الخاصة من حصد 165 ميدالية أولمبية، وحتي كتابة سطور تلك المقالة أحرزت مصر 11 ميدالية في دورة ريو 2016، أي أن مصر طيلة أربعون عاماً حصدت 176 ميدالية أولمبية، بمتوسط 16 ميدالية لكل دورة.

المُثير للدهشة هنا ليس عدد الميداليات التي حصدها مُتحدي الإعاقة، ولكن في حجم البعثات التي مثلت مصر في الدورات البارالمبية، فأكبر البعثات التي شاركت فيها مصر لم تصل 50 لاعباً قط، وجميع من شارك منذ دورة تورنتو 1976 لم يتخط حاجز 350 لاعباً ولاعبة فقط، أي أن كل لاعبين إثنين هناك من يحرز ميدالية، حتي تلك المعادلة تم تحطيمها في دورة أتلانتا 1996، حينما شارك 31 بطلاً مصرياً وتمكنوا من انتزاع 30 ميدالية أولمبية.

رغم الحياة التي يعاني فيها أصحاب القدرات الخاصة الامرين في مصر، تمكن عمالقة الإرادة والتحدي من رفع راية مصر 176 مرة خلال أربعة عقود فقط، أبوا أن لا يُعزف النشيد الوطني المصري في الأولمبياد، فأجبروا منظمي تلك الدورات علي عزفة 49 مرة، وبجانب تلك الذهبيات، كان هناك 63 فضية، و64 برونزية، تلك الميداليات دائما ما كانت تضع مصر في مرتبة ضمن الـ25 فيما أعلي في جدول الميداليات.

"مصر بلد المُعاقين".. هل تذكرون سائق التاكسي الأن، هل صدقتم ما قاله الأن، بمقارنه بسيطة سندرك أنه يمتلك الكثير من الحق، فطيلة 100 عام مضت شاركت مصر في 20 دورة أولمبية (2012 - 2016) لم تحقق سوي 31 ميدالية أولمبية مختلفة، رغم مشاركة 1350 لاعب طبقا لصفحة الإتحاد المصري نفسه، أي أن كل 43.5 لاعب يتمكن أحدهم من إنتزاع ميدالية، والأدهي أنه طيلة قرن من الزمان لم يُعزف السلام الوطني سوي سبع مرات فقط.

المشهد الرابع

"إرفع الخروف عدل.. إرفع عشان تروح الأولمبياد".. عبارات ضاحكة أطلقها الجزار لصبية الصغير صبيحة عيد الأضحي، إعتقدت  في بادئ الأمر إنه يمزحنا، ولكنه أصر علي أنه يحلم بأن يري إبنه بطلاً أولمبياً، لكن ما علاقة رفع الخروف بالألعاب الرياضية، قبل أن أدرك الإجابة جائني رد الجزار الساخر كالعادة، "رفع الأثقال يا بيه.. إنت متعرفش إننا أول شعب في العالم يرفع أثقال".

للمرة الثانية أقابل مواطناً مصرياً تغلبه فطرته ويدله ذكاءة للعبة الأنسب للشعب المصري، بعيداً عن المدربين الأجانب وأصحاب الخبرات العالمية الذين يستنزفون أموال الشعب المصري دون أدي طائل، فقد صدق الرجل  فيما قال، فمن منا لا يدرك أن الإنسان المصري دوناً عن أي انسان أخر من المهد إلي اللحد يُعد بطلاً في رفع الأثقال، فمنذ نعومة أظافرة يُبتلي بحقيبة مدرسية يُصر نظامنا التعليمي البالي علي أن يُثقل بها كاهله، وإلي أن يموت يظل المواطن المصري يحمل علي عاتقة جبال عتيدة من الهموم التي لا تُعد ولا تُحصي.

ما سبق يجعلنا لا نتعجب إذا ما تحدثنا عن الأسباب الحقيقية لحصول عمالقة القدرات الخاصة في رفع الأثقال علي 10 ميداليات أولمبية من 11 ميدالية، والحقيقة أن لعبة رفع الأثقال كانت دائما وأبداً كلمة السر في الوجود المصري في الأولمبياد، لما لأ وقد حقق الرباعين المصريين في أخر خمس دورات (2000 - 2016) الأخيرة 57 ميدالية أولمبية من 90 ميدالية، أي بنسبة تخطت 63.3% من مُجمل الميداليات.

رفع الأثقال كلُعبة لم يقتصر عطاؤها للدولة المصرية في الأولمبياد علي أصحاب القدرات الخاصة، ولكنها ألقت بريحها الطيب علي دورات الأصحاء أيضاً، فمن بين 31 ميدالية أولمبية حصدها الرياضيين المصريين، كان للرباعين 13 ميدالية مختلفة، ما بين 5 ذهبيات، و3 فضيات، و5 برونزيات، بنسبة وصلت إلي 42%، ما يعني أنه لو كان لدي مسئولينا ذرة من عقل لما تجاهلوا تلك الملاحظة أبدأ، فهل يدركون أن لعبة رفع الأثقال في الأولمبياد تمنح الفائزين 33 ميدالية، بينهم 15 ميدالية ذهبية، أي أنها يمكن أن تحقق لمن يتحوز عليها مركز متقدم لن يقل عن الخامس في قائمة الأكثر حصولاً علي الميداليات.

خلف الكواليس

دعونا نعترف أن الرياضة في مصر شيء إستثنائي، ليس من إهتمامات أو أولويات الدولة، حتي وإن إدعي البعض غير ذلك، حتي المسئولين أنفسهم، كل علاقتهم بتلك المهنة مجرد القديمة قدم الإنسان نفسه، مجرد صورة تذكارية مع من يحقق اي نتيجة إجابية، والجلوس بالساعات تحت يدي الشاشات التليفزيونية ومحريي الصحف للإدلاء بمعسول الكلام عن الجهود الجبارة التي تأتي تحت رعاية السيد الوزير.

هل سمع أحدكم عن معجزة الإرادة والتحدي إبراهيم حمدتو، ذلك المصري الذي تحدي إعاقته بقدرات خارقة، فأضحي أول لاعب تنس طاولة في التاريخ الانساني يلعب يمسك المضرب بفمه، العالم أجمع تحدث عن مبارته مع اللاعب الألماني في دورة الألعاب البارالمبية في ريو 2016، رغم خسارته، إلا المصريين، لم تتناوله وسيلة إعلامية واحدة بالحديث، جميع وسائل الاعلام العالمي وصفت هذا الرجل بالفلته الإعجازية، بينما نحن توارينا خلف الكواليس نراقب هذا الرجل دون أن نمد له يد المسانده المطلوبة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز