عاجل
الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الأب الروحي للشباب

الأب الروحي للشباب

بقلم : محمد عبد السلام

"تستطيع الحصول على كل شىء بالقوة.. إلا الحب والاحترام".. واحده من أهم العبارات تأثيراً في تاريخ السينما العالمية، جاءت علي لسان الفنان العالمي "مارلون براندو" في رائعة الروائي الأمريكي "ماريو جيانلويجي بوزو" "العراب" أو "الاب الروحي"، عبارة لن تسقط من التاريخ الإنساني ولا يمكن نسيانها مهما حدث، لأنه بمنتهي البساطة مقولة إستطاعت أن تلمس حد الواقع لنا كبشر.



بعيداً عن الإطار الذي خرجت منه عبارة "العراب" تلك، وبعيداً عن الحبكة الروائية التي نسجها "بوزو" لعالم الجريمة الأشهر، لكن ما أحوجنا اليوم لأن نفهم أن "الحب والاحترام" لا يمكن شراؤه بالمال، ولا يمكن إنتزاعه بالقوة، ولن ينبت إلا في أرض خصبة، أرضا قابلة علي إحتواء بذور الأخلاق والاجتهاد والعمل، لتطرح حب واحترام وتقدير.

ما أحوج شبابنا وأجيال مستقبلنا لتلك الحالة من الحب والاحترام، وما أحوجنا اليوم لفلاح مصري أصيل يكون بمثابة "الأب الروحي" للتربة المصرية، فلاح قادر علي إعادة الحياة لأرض أضحت بور تفتقد القيم والمثل العليا، ليعيد إليها القدرة علي إحتواء بذور الأخلاق والاجتهاد والعمل لتطرح في المستقبل عنصري الحب والاحترام، وهما بلا شك يحتاجان إلي "أب روحي".

"هل يمكن للإنسان أن يحيا من دون قدوة؟".. سؤال لا يسعي الكثير منا للإجابة علية، فتركنا الآخرون يزعمون أن "القدوة" في زمن القرية الصغيرة لم تعد حاجة ملحة يسعى المرء للحصول عليها، وأننا في عصر تتلاشى هوية القدوة فتخضع للعقل تارة، وللحب والإعجاب تارة، يتدخل في بعض الأحيان الدين، وإن كان البعض لا يؤمن بأن "الحكمة ضالة المؤمن" فإضطر للتخلي عن تلك القيود، وفي زمن احتلت فيه نماذج خاوية الوفاض من أي معتقد أخلاقي مقام الصدارة، سواء على صعيد الثقافة أو الإعلام أو الرياضة أو الفن أو حتي السياسة، كان من الخطورة أن تتحول القدوة إلي قنبلة موقوته تقضي علي عنصري الحب والاحترام داخل مجتمعنا.

"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون".. "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".. هكذا حسم القرآن الكريم أهمية القدوة في حياتنا، فمن خلال ضلعي "الأمر بالمعروف" و"النهي عن المنكر" تتشكل منظومة "الأخلاق"، والتي من خلالها ينمو الحب والاحترام بين الناس، وحينما تخلت أمتنا عن مقام القدوة، لم يعد للشباب نموذجاً يمكن أن يختاروا منه قدواتهم، وما السبل لتقديم نماذج من داخل امتنا ليقتدي بها الشباب، ونحن لا نقدم الصفوف سوي نماذج سيئة تغرس الأخلاق الذميمة في وجدان أبنائنا.

قديس القلوب

علي بُعد أكثر من 900 كيلو من القاهرة، يمكن أن نضيف إليهم 530 كيلو متر هي المسافة من القاهرة لمدينة شرم الشيخ، كانت رحلتي المكوكية لمدينة أسوان، ورغم أنني لم أمكث فيها سوي سويعات قليلة، إلا إنني إكتشف فيها عالم أخر لم أكن أتوقعة، خلية نحل لم أتخيل أنها تعيش داخل مجتمعنا الهش، عش نمل رغم ضألته الممثلة في قلة عدده وخبرته إلا أنه شكل فريق عمل يحقق الإنجاز تلو الآخر، دثرهم بجناحية ملِك عظيم علي عرشة، لعب هذا الملِك دور الأب الروحي لهم.

"إنه القديس".. لم تخونني أذنا، هكذا سمعتها منهم، إنهم يستمدون منه قوتهم، يستخلصون منه عزيمته، يحلمون بأن يصبحوا في يوم ما نسخة منه، أما هو فلم يبخل عليهم بشيء من علمة، بشيء من خبرته، فجاد عليهم بكل علمه، وبكل طاقة جعلت من صاحبها يتجاوز حدود البشر ويصل إلى رتبة القديسين، فلماذا لا يلقبونه بالقديس، إنه الجراح العالمي السير مجدي يعقوب.

قد يعتقد البعض إنني سأخصص مقالي هذا للحديث عن السير مجدي يعقوب، وهذا قطعاً شرف كبير، وقاعدة يلتزم بها كبار الكُتاب أثناء الحديث عن هذا الرجل، يهتمون بشخصة دون أن يدركوا أهميتة كرمز يمكن أن يصنع المعجزات دون أن يرهقنا بلغو لا طائل منه، ولكنني سأتجاوز تلك القاعدة ولن أتحدث عن مجدي يعقوب الشخص، سأنصت إلي نصيحته وأبحث عن البطل الحقيقي، بطل كامن داخل عقول شباب بحثت عن قدوتها في شخص هذا الرجل، فارتضوا عقلة وفكره ومنهجة، ارتضوا أن ينتقلوا مئات الكيلومترات بعيدا عن حياة القاهرة الساحرة ليمكثوا بجوار حلمه.

"ما الذي جعل شباباً يتخذون من الأسطورة قدوه.. في حين يهرب أخرون بحثاً عن القديس ليحتويهم بعقلة".. هنا أنا لا أضع مقارنه غير عادلة بين فنان وعالم، فللفن أيضاً أهميته إن كان يقدم معني محترم للقدوة، ما يعني انه لا يقل عن العلم في شيء، ولكنني قصدت من سؤالي هذا الالتزام بمنهجية علم الإجتماع أثناء الحديث عن إشكالية مجتمعية متناقضة، بين شباب إختار كل منهم طريقاً مختلفاً بحثاً عن الأب الروحي، وكما هو متوقع لم أجد الإجابة إلا من أفواههم.

داخل مبني صغير لا يتعدي بضع آلاف المترات فوق أرض أسوان، منبع حضارة الفراعين الأولين، انهمك شباب لا يتخط أغلبهم الخامسة والعشرين من أعمارهم في ابحاثهم، جلسوا خلف أجهزة معقدة لا قبل لنا بها، بعضهم إنتحي ركناً لإجراء عملية تحاليل هندسية تمكنه من تحديد مسارات الدم داخل الأوردة والشرايين، ودراسة الحقيقية العلمية لعمليات الارتجاع وترسب الدم، وأخرون عقدوا العزم علي المكوث خلف أجهزة "البايوانفورمتيكس" لعمل ما يشبه شبكة جينات للمريض، أو ما يشبه بقاعدة بيانات جينية لمرضي القلب.

"الإنسان يعيش بالإنجاز".. هنا فقط أدركت اجابة السؤال الإجتماعي الذي طرحته سابقاً، رغم أنهم لم يتفوهوا بأي كلمة عنه، فقط نظرة إلي بريق عيونهم، إلي أحساسهم بالفخر، إلي شغفهم بما يفعلون، بما سيحققون لأنفسهم ولأبناءهم من بعدهم، ولربما لأحفادهم في المستقبل القريب أو البعيد، شباب وجد ضالته فيمن يحقق لهم طموحاتهم، وجد أبهم الروحي الذي سيتعلقون به، وجدوا عالماً لا يبخل عنهم بشيء، وجدوا قديساً علي حد تعبيرهم يريدهم أفضل منه، وجدوا السير مجدي يعقوب الأب الروحي لهم.

النقش علي الحجر

"إبنك علي ما تربية".. هل تذكرون ذلك المثل الشعبي العريق، أهالينا زمان أدركوا المعني الحقيقي لهذا المثل، بل وصل بهم حد النضوق لصياغة مثل أخر مفادة "التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر"، فالأطفال يتعلمون بالقدوة أكثر بكثير مما يظن ويتصور الأباء، فالطفل يتأثر بنا ويقلد طريقتنا في معاملتنا وعلاقتنا بالأخرين، وحديثنا عنهم، دون أن نشعر نحن غالباً بهذا الأمر، وفي النهاية ودون أن ندري أيضاً تصبح اتجاهاتنا النفسية هي نفس اتجاهاته النفسية، وبناء علي ذلك نُصبح لأبناؤنا أول قدوة لهم في الحياة.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ** كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ".. هكذا فسرت عقيدتنا الإسلامية واقع صناعة القدوة في نفوسنا ونفوس من يتعامل معنا، فقد ذم الله جل وعلا ومقت الذين تخالف أعمالهم أقوالهم، لذلك على الأباء أن يربطوا تصرفات أبنائهم بسير العظماء، فتخيلوا طفلاً صغير لا يسمع من أبية سوي "لماذا لا تصبح مثل فولان؟" أو "لماذا لا تجتهد لتكون مثل هذا؟"، ومن الطبيعي سيسعي الطفل لمعرفة كل شيء عن هذا الذي يريد أبية أن يصبح مثلة، وسيترسخ في ذهنه حتي يُصبح القدوة التي ستلازمة طيلة حياتة، إلي أن يصبح هو قدوة لمن سيأتي بعده، تلك سنة الحياة.

علينا أن ندرك أن الطفل بفطرته يميل إلى الإقتداء والإنجذاب ناحية شخصية معينة على حساب غيرها لما جُبل عليه من طبائع، فهذا عُرف بعلمة الجليل، وذلك عُرف بإجتهادة وطموحه، والأخر بفنة، وغيرة بمهارته الرياضية، ومن برز في التأليف والكتابة، وأبدع في الخطابة والفصاحة، ومن منحة الله فطنة وخبرة في التسيير والقيادة، وكل إنسان علي وجه البسيطة يولد ولدية إنجذاب فطري نحو هدف ما أو مهارة ما تحتاج فقط منا إلي تنمية ونقش علي حجر لا تُمحي أثارة أبداً.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز