عاجل
الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الذئب ذو الحذاء البشري

الذئب ذو الحذاء البشري

بقلم : محمد عبد السلام

المشهد الأول: (نهار داخلي– إحدى عربات مترو أنفاق القاهرة)



 

دقت ساعة القاهرة الثانية ونصف ظهراً، حان الآن موعدنا اليومي مع ساعة الذروة، أضحت شوارع وطرقات المدينة الموحشة مزدحمة بسيارات البعض، في حين تكدس البعض الأخر داخل محطة للأنفاق بحثاً عن مكان في عربة مترو، وقفوا جميعاً كجلمود صخر لا يتحرك قيد أنملة، فقط أصوات أنفاسهم اللاهثة بفعل جو خانق يفتقد إلي منفس هواء جعلتهم أشبه ما يكون بالأحياء.

 

مشهد المحطة الصامت، درجة الرطوبة الخانقة، سيمفونية الشهيق والزفير المضطربة، صعود وهبوط صدورهم، صوت آلة التنبيه التي انطلقت إذانا باقتراب القطار، جميعها عوامل ساهمت في رسم لوحه بائسة من الصمت، حالة من السكوت يسودُهُ قلق وحُزن خيمت علي رؤوسهم، غير عابئين بتلك التي تدفع بجسدها الضئيل محاولة إختراق الصفوف لتقترب من الرصيف، بين الفينة والأخرى تلتفت لتلقي نظرة ذائغة مشوشة، كانت كمن يبحث عن شخص ما، أو شيء ما يطاردها.

 

لم تُثير قسمات وجه الفتاه المُلتاع أي من المحيطين بها، لم ينتبهوا إلي حالة الإضطراب التي سادت كل جزء من أجزائها، لم يلتفتوا إلي إرتعاش أطرافها، إلي العرق الذي سال أنهاراً علي وجنتيها، فقط، أبدي بعضهم إمتعاضاً مكتوماً لإصرارها علي تجاوزهم للحاق بالقطار الذي بدأ صوته يقترب رويداً رويدا، وما أن حط رحاله، وفُتحت أبوابه، إندفعت بكل ما بقي لديها من قوه لتلقي بجسدها داخل إحدى عرباته، وما أن أغلق المترو أبوابه، وبدأ في التحرك حتي تنهدت بصوت بدى مسموعاً للجميع، فأطرقت رأسها بهدوء خجل، فجأة أطلقت شهقة مكتومة، انتفض جسدها الضئيل رعباً، جحظت عيناها هلعاً وهي تنظر إلي ذلك الحذاء الذي تعرفه جيداً، حذاء الشخص الذي اعتقدت انها أفلتت منه منذ قليل.

 

لم تجروء الفتاة علي الحركة، لم ترفع رأسها المطأطئ، بدت وكأنها تمثال من الشمع، راقبت ذاك الحذاء بعين دامعة، كانت تخشي أن تفقد أثره، خُيل إليها للحظة أنها تقف وحيده لا يُحيط بها أحد، أضحي ركاب المترو وكأنهم أشجار ساكنة في الغابة الموحشة، أو كتلال مُصمتة في صحراء قاحلة، لا تري جانبها سوي ذاك الكائن مجهول الهوية ذو الحذاء البشري، انتبهت الفتاة إلي إختفاء الحذاء، لم يعد له وجود، رفعت رأسها بحثاً عنه، لم تجد له أثر، أصابع إنتهكت حرمة جسدها دلتها عليه، صاحب الحذاء يقف خلفها.

 

"يا حيوان".. صرخة هادرة إنتزعت بها الفتاة نفسها، ثم دارت في سرعة ورشاقة، لتلكم صاحب الحذاء في فكه كما يفعل أبطال "نبيل فاروق"، لكمة بدت أشبه بقنبلة انفجرت داخل المترو، و"كلمة مترو لو حاولنا إزالتها لانهد بناء المشهد".. هكذا عبر الشاعر أحمد الدوسري في كتابه النقدي "أمل دنقل: شاعر على خطوط النار"، واصفاً إحدى مشاهد "دنقل" داخل إحدى عربات المترو، حيث للكلمة دلالتها المكانية المؤثرة علي المشهد، فكيف إمتلك ذو الحذاء جرأة التحرش في المترو، وسط حصار الركاب الواقفين من شدة الازدحام.

 

"ما تخليش- القصة- تموت".. كنت قد قرأت شيئاً عن هذا الهاشتاج الذي أطلقته بعض الفتيات للتصدي لطاعون التحرش في بر مصر، سخرت كثيرا من ضحايا ألزمن أنفسهن الصمت، فكيف لهن أن يتركن ما وصفته تلك الفتاه حيواناً حراً طليقاً بلا عقاب، كيف تجاهلن إساءة أقل ما توصف بأنها حقيره من شخص أكثر ما يمكن أن نصفة إنه ذكر يفتقد اسمي معاني الرجوله، لكن ما حدث داخل عربة المترو عقب ضرب ذو الحذاء علي وجهه جعلني أدرك أن مأساه أخرى تولد عقب كل حادث.

 

"خلاص يا بنتي متفرجيش عليكي الناس.. لبسك غير المحتشم هو السبب.. انتي لازم تكوني شجعتيه علي كده.. عاوزة تروحي القسم وتفضحي أهلك وسيرتك تبقي علي كل لسان".. تخيلوا أن تلك العبارات المُحبطة يمكن أن تسمعها من إناس لضحية تعرضت للتحرش، ورغم إنهم شاهدوا بأم أعينهم ما يفعله ذو الحذاء البشري تراهم يأخذون صفه، والكارثة أن أكثر قائليها من الفتيات والنساء، حيناً تعاطفاً معها، وأحياناً إنتقاماً من مجتمع رفض يوماً مناصرتهن، أما المتحرش فعلي رأي الست أم كلثوم "يا روحي علية" يقف كأسد منتشي، انتهي لتوة من افتراس ضحية بنجاح منقطع النظير، انتفخت أوداجه فخرا بصنيع يديه، تاركاً أمة لا إله إلا الله تدافع عنه.

 

المشهد الثاني: (نهار خارجي- غرفة إحدى محاكم الأسرة العشرين)

 

"هذا الرجل مُذنب.. إرتكب فعلاً يُعاقب علية أقصي عقوبه.. وتلك الفتاه تطالب بآقصي عقوبة لفعلته".. بتلك الكلمات القوية هز قاضي بلدة "دير المدينة" بالبر الغربي أرجاء مدينة طيبة بأكملها، فذاك الرجل الواقف أمامة منكس الرأس إرتكب أبشع جريمة يمكن أن يرتكبها رجل حر في الدولة المصرية بأكملها، صعد بفتاة لأعلى مبنى والتحرش بها بطريقة قد تصل لمحاولة اغتصاب، ما يستوجب عقابة.

 

وفقاً لنقوش آني، وبردية بولاق، وبردية لييد، كان "با - نب" أول متحرش في التاريخ المصري، وكان هذا الرجل يعمل مشرفا علي عمال بلدة "دير المدينة" التي أسسها الملك خصيصاً لصفوة العمال والحرفيين والفنانين الذين يعملون في نحت وبناء مقابر العائلة الحاكمة وتماثيلها، حتى لا يتكبدوا معاناة يومية في الذهاب والعودة من منازلهم بالقرى المجاورة، في البداية حاول "با- نب" إنكار التهمة عن نفسه، وأقسم بأنه لم يرتكبها، ورغم أنه لم يُذكر في البردية التي تتحدث عن تلك الواقعة العقوبات التي وقعت علبة، واكتفت فقط بالجزء الأول من محاكمته وتوجيه الاتهامات له، والاستماع الى اقواله التي أنكر فيها التهم، إلا أن أهميتها تنبع من إنها أول إشارة حقيقية لواقع التحرش في بر مصر.

 

حادثة المتحرش الأول "با- نب" تعود إلي عهد الأسرة العشرين في العصر الفرعوني، أي يعود تاريخها لأكثر من 3 آلاف عام، ما يؤكد أن ظاهرة التحرش في مصر قديمة قدم التاريخ، مثلما كانت مسرحاً لأول محاكمة عرفها تاريخ العالم ودونتها سجلات التاريخ، ما يؤكد أن أجدادنا الفراعنة كانوا أول من سن قانون لمكافحة جرائم التحرش بالنساء، وكان ينص علي: "معاقبة كل ذكر يتحرش جسديا بأنثى في طريق عام بـ"الإخصاء" أو قطع الجهاز التناسلي، وبالجلد ألف جلدة.

 

الحقيقة أن هذا الإجراء الصارم من قبل المشرع المصري في عهد الفراعنة العظام، جاء نتيجة الإيمان الصارخ بقيمة المرأة في المجتمع المصري، وحقها في أن تأمن علي نفسها وجسدها أثناء السير في شوارع وطرقات المحروسة، ودون أن يتعرض لها أحد بالأذى أو يخدش حياءها, فقد وصل بهم الرقي والتحضر مبلغه فانعكس ذلك علي تقديرهم لمكانتها وحرصهم علي كرامتها وإنسانيتها, ولا ننسي أنه في ذلك العصر وصلت المرأة إلي سدة الحكم بتولي "حتشبسوت" أعظم ملكة عرفها التاريخ شئون البلاد، وهو الأمر الذي عجزت المرأة عن تحقيقه في عصرنا الحديث.

 

الحقيقة الأغرب من ذلك أن المشرع المصري كان يميز بين فعل الزنا وفعل هتك العرض أو الاغتصاب، إذ يقرر أن الزنا لو تم بالغصب أو بالعنف كان الجزاء يتمثل في قطع الأجهزة التناسلية "العضو التناسلي"، أما لو تم بدون عنف، فإن الرجل الزاني كان يجلد ألف جلدة والمرأة الزانية كانت تقطع أنفها، وكانت جرائم الاغتصاب والزنا عقوبتهما تصل في بعض الأحيان إلى الإعدام، وكان الزناه يكفرون عن خطاياهم بالإعدام، وأن التحرش كان يواجه نفس العقوبة ولو لم يرتكب فعل الذنب الآثم، مما يؤكد على رغبة المجتمع المصري القديم علي التخلص من تلك الآفة التي ظهرت بينهم، والحفاظ علي سلالتهم ونقاءهم.

 

الصمت جريمة

 

"ما تخليش- القصة- تموت".. سنعود مرة أخري لذلك الهاشتاج الذي يعتقد البعض أنه خرج في عهد "التويتر" و"الفيسبوك"، ولكنه في واقع الأمر ظهر لأول مرة منذ أكثر من ألابعة آلاف عام، فقد أدركت المرأة المصرية أن الصمت على جريمة التحرش الجنسي عبث، وأن ترك الجاني يفلت بفعلته تمهيداً لخلق كتائب منظمة من المتحرشين جريمة، لذلك قرر أن يواجه جرائم التحرش الجنسي بكل صورها وأشكالها بقوة القانون.

 

منذ أربعة آلاف عام، كان المتحرش مجرم، والضحية ترفض الصمت، واليوم ونحن في عصر التواصل الإجتماعي تحولت الضحية من مجني عليها إلي جاني، وراح المجتمع يحاصرها بإتهامات لا تمت للواقع بصلة، وراح يفرض عليها مجموعة من القواعد المُجحفة، تلك القواعد حرمتها من حق المطالبة بالثأر ممن تحرش بها، وإلا سيلاحقها واهلها العار

 

وحتي لا نظلم مرأة المصرية علينا أن نشير إلي محاولاتها خلال المائة عام الأخيرة، ففي عام 1908 إطلقت جمعيه "ترقية المرأة" أول صيحة لحماية المرأة من التحرش، من خلال مذكرة رسمية قدمتها أعضاء الجمعية الى محافظ القاهرة، جاء فيها الأتي: "نرفع لسيادتكم أمراً جديراً بالمناقشة، وهو أن المرأة في كل بلد متمدنة محل العناية وملحوظة بعين الرعاية، فما من أمة راقية الشعور إلا وسنت لهذا الجنس الكريم من النظامات والقوانين ما يكفل العناية به ويضمن مكانته من الهيئة الاجتماعية، وقد أصبحنا اليوم في مصر هدفاً لمعاكسات العامة من أسفل طبقات الأمة، فلا تكاد المرأة تمشي في طريق حتى تتناولها الألفاظ البذيئة مما يجعلها تتعثر في أذيالها، بل وربما لا نجد من الجالسين على المقاهي والحوانيت من تأخذه حمية الغضب فيقوم بحمايتها من أولئك الأوباش، ولا تجد من البوليس أيضا مساعدة حتى يظن أن ذلك خارج وظيفته، وبناءً عليه نرفع الى سعادتكم هذا الأمر محتجين على إغفال البوليس أمر حماية النساء وراجين وضع لائحة في هذا الصدد وتشديد التنبيه على رجال البوليس لضبط كل من يتجرأ على مس كرامة سيدة كائناً من كان"، وفي 1934 كللت جهود تلك الجمعية النسوية بإنشاء بوليس الأداب لحماية النساء من اي مُعتد عليها.

 

الزومبا والوين دو

 

"اجمدى ضد التحرش".. كان من الطبيعي أن تخرج بعض الحركات النسائية للتصدي لجرائم التحرش بكل المسائل المتاحة، حتي لو كان بالعنف، فاذا كان البعض يطالب بارتداء المراة بخاتم مسامير او بحمل السلاح الأبيض أو الصاعق الكهربائى، هناك بعض الحركات تطالب ايضا بتسليحها وتدريبها علي احدث وسائل القتال.

 

وكانت أحدث أساليب مواجهة التحرش الان هى استخدام مزيج من "الزومبا والوين دو" للدفاع عن النفس ضد المتحرش، و"الزومبا" هدفها زيادة الوعى بكل منطقة فى جسد المرأة وزيادة حجم اللياقة البدنية لها, و"الوين دو" هو اسلوب دفاع عن النفس للتعامل مع المتحرش فى نفس لحظة الاعتداء عليها, ويتم تبسيط الموضوع على النساء من خلال فعاليات كثيرة يتم نشرها بصفة مستمرة لرفع الوعى بهذه الامور ويتم حشد المئات من النساء تحت شعار "ده جسمِك.. قويه.. إحميه.. خليكي فخورة به".

 

ويتم ممارسة "الزومبا" و"الوين دو" لكل السيدات والبنات الموجودين بالفعاليات بشكل جماعى على نفس النغمات ونفس التحركات للشعور بأن التحرش مشكلة تمس كل النساء ولابد من التجمع والتوحد للقضاء عليها, لكن هذا هذا هو الحل، ان تتحول الانثي الي مقاتلة للدفاع عن نفسها في مجتمع من المفترض انه شرقي متحفظ.

 

هناك استراتيجيتان للتعامل مع حالات التحرش، اما نلجأ الي استراتيجية تفادي بتجنب الأماكن والمواقف التى يتوقع فيها التحرش مثل الأماكن المعزولة أو المغلقة التى يسهل الإنفراد فيها بالضحية, أو الأماكن المزدحمة, أو التواجد مع أشخاص بعينهم يتوقع منهم هذا السلوك، وتجنب المواصلات المزدحمة, وأن تستفيد من وجود العربات المخصصة للنساء فى الترام والمترو, والجميع اتفق علي ان هذه الاستراتيجية لن تكون الحل الامثل ولكنها استراتيجية من يريد ان يدفن راسة في الرمال.

 

وهناك ايضا استراتيجية المواجهة، وفيها تواجه المتحرش بها الشخص المتحرش, إما بنظرة حازمة ومهددة, أو بكلمة رادعة ومقتضبة, أو بتغيير مكانها ووضعها, أو بتهدديده وتحذيره بشكل مباشر, أو بالإستغاثة وطلب المساعدة ممن حولها, أو بضربه فى بعض الأحيان، وهذه الاستراتيجية اثبتت فشلها وحادث التحرير وغيرة الكثير خير مثال علي ذلك.

 

وهناك طرق قد تبدو طريفة فى المواجهة تستخدمها بعض الفتيات فى وسائل المواصلات، فبعضهن يستخدمن دبوسا ضد من يحاول التحكك بهن, وهى وسيلة دفاع صامتة وقد تكون مؤثرة ورادعة, وبعضهن يتعلمن وسائل الدفاع عن النفس مثل الكاراتيه والتايكوندو والكونغ فو لتتمكن من الدفاع عن نفسها دون الحاجة للمساعدة الخارجية, خاصة حين تضعف السلطات الأمنية أو تتغيب أو تنشغل بحماية أولى الأمر عن حماية الشعب أو تضعف النخوة والمروءة فى المجتمع.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز