د. عصمت نصار
أبو شادي بين الماسونية والثيوصوفية
بقلم : د. عصمت نصار
لم يبق لنا سوى الحديث عن أمرين أولهما: علاقة الثيوصوفية -بوصفها نزعة باطنية روحية- والفكر الماسوني ، وثانيهما مدى تأثر أحمد ذكي أبوشادي بهذا المركب الجامع بين الماسونية والثيوصوفية.
فعن الرابطة التي تجمع بين الماسونية والثيوصوفية نوضح :-
أن الدراسات الفلسفية المقارنة الغربية المعاصرة التي تناولت بالنقد والتحليل معظم أيدولوجيات الجمعيات السرية الباطنية قد إنتهت إلى أن الماسونية قد أدركت أن الأديان الوضعية والسماوية لا يمكن التحرر من قيودها وهيمنتها على الثقافات في الشرق والغرب إلا بنسخها والترويج لنحلة بديلة تجمع بين العراقة التاريخية والمسحة الروحية والقيم الدينية بالإضافة إلى الرؤية العلمية والتحليلات الفلسفية في بنية معرفية واحدة ، وبذلك قد تخلصت من الموروثات العقدية والكتب المقدسة والعصبيات الدينية والمذهبية وذلك بعد فشلها في تفكيك الديانات القائمة عن طريق اختلاق المذاهب والطوائف التي تقسمها وتجعل منها فصائل متناحرة إذ أدركت أن مثل ذلك الدرب لا يؤدي بها إلى القضاء على الديانات بل إثراءها وتكاثرها وإيجاد ميدان فسيح لتصارعها على نحو لا يمكن أي منها للقضاء على الآخرين ، وإذا ما تأملنا المبادئ والتعاليم والمعتقدات الثيوصوفية سوف
نجدها جامعة لجل التيارات الروحية
( مذهب تحضير الأرواح – عبدة الشيطان – الحيواتية أو الأروحية – الرهبنة – التصوف – السحر الأسود – استحضار الجن والعفاريت ) وغير ذلك من ما نطلق عليه ميتافيزيقا الأساطير وقد اجتهد الفكر الماسوني في إطفاء العديد من الأوجه البراقة ( العلم – الفلسفة- الحقيقة الربانية) على النزعة الثيوصوفية ذلك فضلا عن تبنيها للشعارات الجماهيرية
( الإخاء – المساواة – الحرية – العدالة – السلام العالمي – الخلاص – السعادة الأبدية )
وذلك كله دون طقوس أو ضوابط شرعية سوى التعاليم السرية التي تصدر عن الأستاذ الأكبر المتحكم في العالم ، الأمر الذي يبرر ترويج الماسونيين للاتجاهات الجامحة والجانحة في كل الميادين وذلك لإثبات أن الديانات التقليدية لم تفلح في تهذيب الإنسان أو هدايته للطريق الذي يمكنه من تطبيق القيم التي طالما تحدثت عنها المعتقدات لتحقيق السلام على الأرض ولعل المواد الثقافية والإعلامية المعاصرة تفضح مخططات الماسونية في هذا السبيل بداية من الترويج أو من نشر المواقع الإباحية والجمعيات الإلحادية وثقافة السحر والشعوذة وأفلام العنف والفلسفات المادية والشائعات العلمية والقصص الأسطورية والألعاب التي تنمي ما نطلق عليه المجتمع الافتراضي وأحلام اليقظة وغير ذلك من الأمور التي تحدث ما يمكن أن نطلق عليه الاضطراب الذهني أو التمرد على الثوابت وجعل الذات الإنسانية وحدها هي معيار كل شيء وذلك كله بجوار تلك الشعارات التي تطلقها بوصفها المالكة الوحيدة للحقيقة المفقودة أو سر الأسرار.
وتشير الموسوعة الثيوصوفية إلى وجود العديد من أوجه التشابه بين التيار الماسوني من جهة وما يتردد في التعاليم الثيوصوفية السرية - من أفكار ومعتقدات في مختلف محافلها – والحركات الباطنية بوجه عام والفلسفات الروحية والصوفية على وجه الخصوص من جهة أخرى ، كما إنها لا تنفي تلك العلاقة التي ربطت بين هيلينا بلافاتسكي والمحافل الماسونية. فتشير بعض الكتابات إلى أن هيلينا قد انضمت إلى الماسونية متأثرة بكتابات الماسوني الأمريكي جون ياركر ، وهذا ما يكشف عنه ترويجها للتعاليم الماسونية في معظم كتاباتها عن الثيوصوفية ، غير أن الموسوعة ترى أن تأثرها بالأفكار الماسونية كان مبكرا ويرجع في المقام الأول إلى إطلاعها على عشرات الكتب التي كان يقتنيها جدها الماسوني في مكتبته الخاصة. وأن تعاطفها مع الماسونيين يبدو في السماح لهم دون غيرهم بالانضمام إلى الجمعيات الثيوصوفية والمشاركة في الدروس الباطنية التي تعد من أسرار العقائد الثيوصوفية.
وعلى الرغم من ذلك فإن هيلينا قد وجهت الكثير من الانتقادات إلى المحافل الماسونية الغربية المسيسة ولاسيما تلك التي تقوم بأعمال مناقضة للفلسفات الروحية وقيمها التي تنشد نشر الحب والتآخي والسلام والعدالة بين البشر ، الأمر الذي جعلها تنصرف تماما عن المحافل الماسونية - التي كانت تعمل بمقتضى المخططات الصهيونية والجماعات اليمينية اليهودية المتعصبة - وتكون أميل للجمعيات الثيوصوفية الهندية التي احتفظت بطابعها الروحي والفلسفي.
ويضيف جريك استيوارت أن العلاقة بين الماسونية والثيوصوفية لا يمكن إنكارها وذلك لأن معظم الذين نظّروا للثيوصوفية الحديثة كانوا من الماسونيين من أمثال ( هيلينا بلافاتسكي ، هنري ستيل ألكوت ، وليم تشيوان ) وقد خلطوا بين التعاليم الروحية والعقائد الصوفية والنزاعات الباطنية والسياقات الأسطورية والتعاليم الماسونية التي تضمنها خطابهم المعلن. أما التعاليم السرية للماسونية فظلت خفية ولاسيما في الدروس التي كانت تُلقى في الجمعيات الغربية أما التعاليم الثيوصوفية السرية فكانت تُلقى في المحافل الهندوسية.
وقد طور الثيوصوفيون الفرنسيون تعاليمهم حتى أضحت الفلسفة الثيوصوفية هي الجانب الميتافيزيقي للماسونية من جهة والنسق التطبيقي لفلسفتها الروحية في شتى محافلها من جهة أخرى ، لذا نجد (يدبيتر) يؤكد إنه على الرغم من أن الماسونية لا يمكن اعتبارها ديانة من الديانات الوضعية إلا إنه مضطر اعتبارها ملة وضعية بعد إدخالها التعاليم الثيوصوفية ضمن عقائدها السرية ، ويضيف رودلف شتاينر إلى أن المسحة الصوفية الباطنية المتغلغلة في التعاليم الروحية الماسونية قد أشبعت إلى حد كبير الجانب العاطفي والوجداني والإيماني عند المنتمين إلى المحافل الماسونية المختلفة.
في حين تكشف المحافل الماسونية الألمانية عن تلك الرابطة التي تجمع بين الحركات العلمانية التي رفعت راية التنوير في أوروبا منذ بداية القرن السابع عشر وجماعات عبدة الشيطان الصهيونية والمحافل الماسونية الثيوصوفية وبينت أن ذلك الدمج بين الرؤى والأفكار التي تحملها هذه الاتجاهات لم يكن عشوائيا بل كان متعمدا وقد صيغ بدقة على نسق يجعل لها أصولا في المبادئ الرئيسة التي قامت عليها الماسونية بوجه عام مثل الفكر الغنوصي والسحر الأسود ونظرية وحدة الوجود والدعوى للعولمة.
ويشير ناحوم جولد مان ( 1895 – 1982 ) فيلسوف الصهيونية الأشهر إلى حقيقتين أولهما قوة العلاقة التي تربط بين المبادئ الصهيونية والتعاليم الماسونية وثانيهما أن مصطلح الصهيوماسونية قد بات واضحا في شتى الدوائر العلمية وهو المسئول بطبيعة الحال عن ظهور معظم الحركات المعاصرة التي تربط بين التصوف والعلم والفلسفة في سياق واحد وذلك لإزاحة الديانات الكلاسيكية سماوية كانت أم وضعية ، وهذا يفسر علة انضمام الدروز والبهائيين والقديانيين والفوضويين والجماعات الإلحادية وعبدة الشيطان وما بعد الحداثيين والتفكيكيين المعاصرين من الفلاسفة الوضعيين ذلك فضلا عن قيادات الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية إلى المحافل الماسونية التي تُدار بالعقلية الصهيونية.
وإذا ما أردنا التنبيه إلى أوجه الشبه بين المحافل الماسونية الثيوصوفية ومعظم الحركات السياسية والديانات الوضعية الحديثة والمعاصرة - وذلك للعزوف عن تلك المبالغات التي جعلت من الصهيوماسونية البوتقة المركزية التي تلفظ معظم الأفكار والاتجاهات الثقافية والفلسفية والدينية والفنية والاجتماعية في شتى أنحاء العالم – فيمكن إيجازها في :-
فكرة وجود قيادة عالمية تحكم الكون يجلس على قمتها المرشد الأعظم أو معلم العالم وهو العقل الملهم المبدع لجل الأفكار التي يريد أن تدين المجتمعات الإنسانية بها في حقبة زمنية ما ، وتحيط به قيادات من العباقرة في شتى دروب المعرفة الإنسانية وهم الذين يخرجون الأفكار والنظريات والمذاهب في سياقات خطابية تتناسب مع المبادئ الماسونية من جهة والبيئات المراد نشر الخطاب فيها من جهة أخرى. ثم قاعدة واسعة من الأتباع تقوم بالترويج للخطاب الماسوني العام ( الحرية – التسامح – العدالة – الإخاء الإنساني – الكوكبة – العلم – الاستنارة – الأخلاق – السلام – المحبة ) وهو خطاب جاذب للجماهير ومقنع في الوقت نفسه لكل أصحاب الاتجاهات الثورية والإصلاحية في السياسة والاجتماع والدين إذ يجعل العلاقة بين الله والإنسان علاقة روحية خالية من السلطات والطقوس والفرائض والشرائع ويفتح الطريق أمام دعاة الحرية بمختلف معانيها ، الأمر الذي يمكنها من استيعاب مختلف الجماهير في شتى أنحاء العالم. ذلك فضلا عن تلك التعاليم السرية التي مازالت تثير شكوك وارتياب الكثيرين في مقاصدها ، الأمر الذي دفع عشرات المؤرخين إلى اتهام الجمعيات والمحافل الصهيوماسونية بأنها علة ظهور جل الجماعات الجامحة والجانحة والسرية التي تهدد أمن العالم واستقراره وينسب إليها أيضا المسئولية المباشرة عن الاضطرابات السياسية والاقتصادية العالمية
أما موقف أحمد ذكي أبوشادي من الثيوصوفية فيمكن إيجازه في :-
بنزعته الثيوصوفية التي تجمع بين التفكير العلمي المبني على الاستقراء والتجريب والنزعة الإيمانية الحدسية الصوفية، تلك التي جعلته لا يرى أن هناك خصومة بين محاولاته لقراءة القرآن في ضوء الحقائق العلمية للكشف عن عدم تعارض صحيح المنقول وصريح العلم المعقول ومن أقواله في ذلك:
نحن شخصياً نفسر القرآن الكريم تفسيراً علمياً لتلاميذنا ولأولادنا ونعتقد أننا ناجحون في ذلك، ولكننا لسنا متهافتين على نشر هذا التفسير إلى أن يطهر الجو الديني من الأوبئة المتفشية فيه وحينئذ تقدر هذه الخدمة لنا ويفهم مذهبنا في التصوف العلمي على وجهه الصحيح، بدل أن يحاول الكائدون تصويره على عكس صورته التي نؤمن بأنها أجل ما استطعنا تقديمه من خدمة لروح الإسلام وأدبه. ولئن لم نكن من محترفي التصوف فإن مذهبنا ذلك له حرمته عند مريديه وسيتضاعف عددهم بمرور الزمن، وسيكون دائماً من العناصر الصالحة لنقاء الإسلام ولخدمة الإخاء الإنساني، وسيجيء وقت يكون فيه هؤلاء المتصوفة العلميون فخراً للإسلام ولو كره الجامدون والكائدون" ثم حاول في نسقه الثيوصوفي الجمع بين العديد من الأفكار الفلسفية والدينية والروحية في سياق واحد للتعبير عن الحب والوئام بين البشر والعلم والعرفان الصوفي الذي يتخذ منه سلماً للوصال والاتصال بالإله الخالق المعبود ويقول في ذلك:
منذ أن تململ جوتاما ففتح عينيه واستفاق ليهمس في أذن الأرض أنه لم يخلق لهذه الحدود.
ومنذ أن اهتز أخناتون وحلم أفلاطون ورفع يده عيسى المسيح ليعلن للناس أنه ليس من هذا العالم، من هذا الواقع، بل من الآب، من المثل، لم تستطع البشرية أن تطمئن إلى طريق:
الصوفية، والمباركة، والأحلام لا تبني عمارة الإنسان. يبنيها ذلك المريد الذي يأخذ من القلب مرة، ومن الإرادة مرة ثم يجمعها فيلوكها، ليخرج منها للناس وحدة تقلب الوجود إلى أجمل ما يحلم أنه يصير إليه الوجود. وهكذا فعل محمد"
ويبدو من ذلك أن أبا شادي كان متأثراً فيما ذهب إليه بنظريتي وحدة الأديان والنور المحمدي، وهما من أكثر النظريات الصوفية ذيوعاً عند الحلاج ومحي الدين بن عربي، ويبدو ذلك في قوله:
جاء محمد برسالته تحقيقاً لبشرى الإنجيل، فكان منقحاً مصلحاً مكملاً للديانات السماوية السابقة، وعلى الأخص للمسيحية، التي يعتبر الإسلام ترجمانها، فما من فضيلة في المسيحية إلا استوعبها الإسلام وزادها تألقاً نفسانياً وعقلياً، وما من شائبة علقت بها على مر القرون إلا وعمل على تنقيتها منها.
وجاء القرآن بتكييفه ودستوره وتوجيهه ومدى دلالاته وتأثيره معجزة كبرى لا تزال محسوسة عميقة الأثر. ولغة القرآن جميعها – في نظر من يتذوق العربية تذوقاً فنياً- هي من طراز واحد في البلاغة والروعة وإن تنوع النسق حسب الظروف الموحية. ولم يحدث في القرآن أي تبديل وحفاظ القرآن هم هم منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا"
وقد أعرب أبو شادي عن دعوته لوحدة الجنس البشري أو العولمة على أساس من التسامح العقدي الذي لا يحده الانتماء إلى دين بعينه بوذياً كان أو إسلامياً وذلك لإيمانه بفكرة وحدة الوجود التي تؤكد على أن كل الأديان والمعتقدات ما هي إلا سبل تؤدي في النهاية إلى الاتصال بالباريتعالى ومن أقواله في ذلك:
الوحدة أو الجامعة الإسلامية التي تعد التمهيد للرابطة العالمية، ثم بين هذه الجواهر استقلال المسلم، أي أن لا يكون مرتبطاً بأي كهنوت كواسطة بينه وبين الله، والإحساس بوحدة الوجود التي يستدل عليها بآيات متعددة، منها: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ومنها: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم"
وأضاف أبو شادي أن في إمكان المفسرين المعاصرين إنشاء وحدة عقدية تجمع بين الإسلام والمسيحية وذلك عن طريق الانتقال من الخلافات العقدية إلى الاتفاق في التأويلات العلمية للنصوص المقدسة ويقول في ذلك:
إن واجباً مقدساً على المسلمين المبادرة إلى احتلال مكانتهم في طليعة موكب الحضارة، وفاتحة ذلك أن يفهموا دستورهم الأجل الفهم العلمي الصحيح كما يفعل المسيحيون إزاء كتابهم المقدس، وقد يؤدي ذلك إلى تقارب المسيحيين والمسلمين حينما يدركون، أن الفواصل بينهم غير كبيرة بل تكاد تكون معدومة، وأن هذه الفواصل هي نتيجة التأويلات غير المنطقية والمجانبة لروح العلم، وأنه بالوسع إذن خلق فيدرالية إسلامية مسيحية، قوامها التآلف الوثيق والتعاون الوثيق كأنهما هما دين واحد، وسيكون في ذلك غنم عظيم للإنسانية"
ونجده في موضع آخر يؤكد على وحدة الشرائع الدينية إذ يجعلها في نسق واحد يجمع بين اليهودية والمسيحية والإسلام، ويبدو أن تأثره بالمنحى الصوفي هو الذي دفعه إلى تجاوز الخلافات العقدية والمعتقدات الإيمانية التي تميز بين الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، والقرآن وصحيح السنة، ونظر إلى جوهر الأديان على أنه أصل ثابت يتمثل في التوحيد والحث على مكارم الأخلاق ويقول:
فالإسلام بني أصلاً على المسيحية كما بنيت المسيحية على الموسوية، وهو بمثابة طبعة جديدة منهما وإن تكن ذات صبغة خاصة هي الصبغة العقلية المنطقية التي لا تكتفي بالروحانيات المجردة بل تمزجها بالماديات وتصنع من الكل وحدة لا تتجزأ لتشمل سلوك الناس ومعاشهم وكل ما يؤدي إلى خيرهم وسعادتهم، وهذا يشمل تبادل المحبة والإخاء بين البشر"
ويتفق أبو شادي مع محمد رشيد رضا في ضرورة تعرف المسلمين على كتب الديانات الأخرى ولاسيما الأناجيل ليستخلصون منها مواطن الاتفاق ومواضع الخلاف ويأخذون مما اتفق عليه سبيلاً لنشر روح المحبة والإخاء بين المسلمين والأغيار.
وللحديث بقية
















