

محمد عبد السلام
رسالة "تاج الدين".. "فاويدُ إركي أونّـــا"
بقلم : محمد عبد السلام
"أسندت الظهر إلي نخلي.. وتأملت الثمر الداني.. ما أبهاه.. ما أروعه.. ما أشهاه.. ومددتُ يدي.. قالت أمي لا يا كبدي.. أوهنتَ علي حالك جَلدي.. لا تفزع في نومك.. ولدي.. وصحوت من النوم حزيناً وتذكرت الحلم الوردي.. وأسفتُ علي أمسي وغدي.. وبكيتُ.. بكيتُ.. أَفارقنا أرض الأجداد إلي الأبدِ!"
جلست علي شط البر الشرقي لطيبة، فارضاً علي نفسي عزله، أتأمل ذلك المشهد الخلاب، أملئ رئتي بعبق تاريخ أجدادي الفراعين، فأي فخر يحمله حفيد لأجدادة الأولين، فخر ملؤه الإباء والشرفِ، لكنه لم يخفي شجنٌ علي ما آل إلية حاله الأليم، بين الفينه والأخري أرمي النهر بحجرً، علني أيقظة من سبات نوم عميق، أخرجني من عزلتي ذاك الصوت الحزين، أبيات شعر لم أفهم مغزاها، لكنها تسللت إلي فؤادي.
كل ما يحيط بي لا يمكن أن يخفي أحدً، فقد إخترت عزله سهلية يسير فيها النهر بنعومه منذ آلاف السنين، يمكن لعيني أن تري أي مُقتحمٌ لمجلسي دون استئذان، أستطيع أن أري القادم من أفق يبعد مئات الأمتار، لم يكن هناك موطئ لجبل أو لشجر يمكن أن يخفي عن العين آي شيء، وقفت أتلفت يميناً ويساراً باحثاً عن الشاعر المجهول، لم أجد شيئاً، فظننت أن مساً أصاب عقلي، أو أن تلك الأبيات جاءت من أعماق ضميري الشجِن علي حال أمتي، فعدتُ أتأمل السكون.
إلتفتُ إلي النهر أسأله، يا نيلُ هل تخاطبني ألماً، فتلقي إلي الشعرَ لتواسيني، أم أن الحجر يؤلمكَ، فتلقي علي أبياتاً تعاتبني، فجاءني صوت ذاك الشيخ ليُجيبني، "في غفلتنا ضاع تراثُ.. أذهل كل العالم حُقبا.. واضيعتنا.. يا حسرتنا.. كان تراثاً يعدل ذهبا"، أنت ضميري إذاً يا هذا، كمختلً فقد عقله أجبتُه هكذا، فأطلقت العنان لضحكاتً مرتبكة، وأخذتُ أردد ماذا عساي أن أفعل، فقد زرع الأباء بذرة في الأرض البورِ، وها أنذا أحصد نبته الإنكسار والخذلانُ، فعاد الصوت يزجرني صائحاً ، سل نفسك عن التاريخ والماضي الذي كان صرحاً شامخاً ثم هوي.
تملكني فجأة شعور جارف برغبة الإقتراب من النهر، فقد أدركت أخيراً أن "حابي" هو شاعري المجهول، فدنوت من الشط ببطئ، ترتجف فرائصي، ترتعد أوصالي، لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت دقات القلب، واصلت الإقتراب حتي لامست مياهه، مِلت بجسدي حتي كادت رأسي أن تلامسه، اطرقت اذني فلم تسمع إلا صوت موجاته، حملقت بعيني أشجعه علي مواصله حديثه، لم أجد إلا صمتاً، سكنت برهة أنتظر ولا حياة لمن تنادي، فلا شيء في النهر تغير.
"إحذر يا بُني.. فالنهر غدار.. زينة شباب المحروسة راحوا بحضنه".. إختل توازني فجأة وكدت أسقط في مياة النهر، فمن خلف ظهري إنطلق صوت ذاك الشاعر صارخاً، صرخة كفيلة بإرعابي، وددتُ أن ألقي نفسي بحضن النهر هربا، حبي للحياة جعلني أبحث عن شيء أتشبث به، لمحت بطرف عيني يداً سوداء تمتد إلي، دون وعي مددتُ يدي لتلامس أناملي أطراف أصابعه، لم أعبأ بفكرة موتي غرقاً، مثلما أرتعدت الأن من ذاك الذي أُلامسه، يد ظننتُ أنها تنبثق من عدم، ولكنها حرمت ذلك الغدار من إحتضان جسدي.
ألقيت بجسدي لاهثاً علي الأرضِ، لم تفارق عيني مياة النهر، لم ألتفت لصاحب اليد السوداء، لم يُسعفني فضولي لمعرفة شخصة، رهبة المشهد أنستني تحيته، أو حتي رد جميل صنيعة معي، فما زالت تسيطر علي عقلي هواجسي، فمن صاحب تلك اليد السوداء؟، من أين جاء؟، وكيف لم أراه؟، هل إنشقت الأرض به لينقذني؟، أم لفظة العدم في طريقي ليؤانسني؟، لكزة خفيفة علي كتفي الأيمن جعلتني أفيق من تساؤلاتي، توقف كل شيء من حولي، لم يعد النيل يجري، حتي الهواء ما عاد يتحرك، وكأنه مشهداً سينمائياً إضطر مخرجة لعرضة بالـ"سلو موشن"، إلتفت ببطئ إلي ذلك الشاعر المجهول، ورويداً رويداً بدت تفاصيلة.
وكما بدأ الرعب والخوف فجأة، دبت السكينة إلي نفسي فجأة، فبإبتسامة طيبة استقبلني صاحب اليد السوداء، عجوز في منتصف العقد السابع من عمرة، طويل القامة، ضخم الجثة، أسمر البشرة كأغلب أهل الأقصر، واسع الفم يعلوه شارب أبيض طويل الأطراف، له صدغان منخفضان، وعينان ضيقتان غائرتان حادتان كعيني نسر كاسر، كان يمثل بوجهه أمام المرآة كل معاني الطيبة، فحظي ذاك الوجه نصيباً من إسم المدينة التي تربي وعاش فيها "طيبة".
ظللت هكذا اتفرس ملامح ذلك الشاعر برهة، لم أنطق ببنت شفة، فقد سكتُ عن الكلام المباح، تناسيتُ كل شيء تقريبا، تناسيتُ ما انتابني من فزع، أبياته التي أثرتني، ظهورة المفاجئ في عزلتي، فقد أثرتني طيبه هذا العجوز الجالس القرفصاء، يمسك عصا يتوكأ عليها، وله فيها مآرب أخري، للمرة الثانية يلكز كتفي قائلاً بصوت حمل طيبة الأرض وما عليها: "مالك يا ولدي ساكت لية.. روحت علي فين"، وكأن الحياة عادت من جديد، عادت إلي ذاكرتي، فإعتدلت نافضاً رأسي إياها مما علق من غبار صدمة، وقلت بصوت حاولت أن يخرج هادئاً: "لازلت هنا ولكن عقلي هناك مع أبياتك الغامضة".
"هذه أبياتي.. كتبتها منذ أكثر من مائة عام.. وسألقن أحفادي حروفها لمئات الأجيال".. صدقاً لا أعلم من أين خرجت تلك الكلمات، فرغم إنني رأيت هذا العجوز يتحدث، إلا إنني أكاد أٌقسم أن هذا الصوت لم يخرج من فم الرجل، صوتاً عميقاً قادماً من جوف الأرض، حاداً غليظاً كأنه يخرج من باطن كهف صخري، وفي نفس الوقت شجياً مغلفاً بالحزن يطلق العنان للدموع والتنهدات، تعجبت مما قاله الرجل، فكيف له بتلك الأبيات منذ أكثر من مائة عام، وهو عجوز لم يتجاوز السبعون ربيعا، اكتبها قبل أن يولد بثلاثون عام.
إبتسامة الشاعر الأسمر الواسعة إجابت سؤالي دون أن يتفوه بحرف، جمال تاج الدين، ذاك إسمة، ولد في قرية دهميت قبل هجرة بني عشيرته بنحو ثلاثة عشرة عاماً، وطيلة سنوات عمرة الستين، إكتسب صفات أهل النوبة العظام، فكان الأطول قامة والأكثر وسامة، هكذا هيرودوت فيهم قال، حفرت قساوة الصحراء القاسية بجسده صلادة جعلته أشبه بجنود الأساطير، فأشارت بيدي إلي ما حولي قائلاً، تلك أرض وهناك أرض، فلماذا هذا الحنين.
"دوارين أوق وسـّـســن مِتي لن".. لم أفهم ما قاله الشاعر، فقد أدركت أن سؤالي هذا اغضبه، صرامة وجهه، حدة صوته، أنبأني بذلك، فحينما إنعقد حاجبي مستفسراً، أطلق ضحكة قصيرة قائلاً، "أنها وصية الأجداد يا بني"، هنا فهمت لماذا أشار إلي رفات أجدادة أسفل النهر، فإلتفت إلي حابي أعاتبة، أليست كل مصر أوطاني، أجباني بصوت هادر، "داوّرين سيواد"، لم يكن صوت الشاعر، بل صوت حابي، ذلك النهر الذي تلاطمت أمواجه وكأنه بحر غاضب، اتسعت حدقتا عيني رعباً، تنهيدة حارة جعلتني ألتفت إلي الشاعر الأسمر، فإذا به مطأطئ الرأس قائلاً بصوته المنكسر، "ذاك جدي تاج الدين يا بُني.. مات حسرةٌ علي أرضً تركها في الهجرة الأولي منذ مائة وعشرة عامٍ مضت".
ذات صباح إنتفض "تاج الدين" من نومه فزعاً، لم يكن قد تجاوز العامين ليفهم، إقتحم أبيه مخدعه صارخاً، سنترك النوبة يا صغيري، سيبنوا هناك سداً، قالوا أنه سيروض حابي ويجعله مُطيعاً، لم يدرك الصغير معني الحديث، دمعة حزينة علي وجنتي أبية أفهمته أنه مُقبل علي شيء أليم، سار ركب ابية مغادراً داراً ولد بها، وعلي سطح المركب الراحله، أشار الأب إلي النوبه قائلاً للصغير: " نوبه إركوني قُوريرا.. مســـرنا دورو.. أسّــــى أوينقون دورو.. فاويدُ إركي أونّـــا".
مازال صغيراً "تاج الدين"، لكنه فهم الرسالة، حفظها عن ظهر قلب من أبية، كان والده يدرك ذلك، لذا أعادها أكثر من مرة، حتي إختفت النوبة في الأفق كلما إبتعد القارب، إختفت النوبه، وظلت رسالة الأب تتردد في قلب وعقل "تاج الدين" بلغة أهل عشيرته الأولين، "النوبة أرضنا الطيبة.. تركناها عشان خاطر مصر.. عشان خاطر أحفادنا.. ولكننا سنعود إليها.. سنعود إليها".
شب "تاج الدين" وأصبح رجلاً، لم ينس رسالة أبيه يوماً، كان الحُلم يراوده، أن يحقق وصية أبيه، أن يعود إلي النوبه، لقن طفله وصيه الأرض، وقد أسماه صالح علي إسم الجد، ليرث من بعده نفس الحلم، ونفس الرسالة، "فاويدُ إركي أونّـــا"، سنعود إلي بلادنا.
مرت ثلاثون عاماً علي ذاك اليوم، لم يتغير شيء، وذات نهار مُشرق، جلس "تاج الدين" أمام شط حابي، ينظر إلي منزلة النوبي البسيط الذي يحكي قصه عشيرته، قباب وزخارف وزينة ونقوش لكل العصور، بين الفينة والأخري ينظر لإبنه "صالح" الذي تفرغ للعب واللهو بين البيوت، يرجو الأيام أن تسير سريعاً ليشب رجلاً ويُحفظه رسالة الجدود، إقتحم أحلامة كبوس مذعج، فقد أمر الوالي بتعلية السد، وغرقت الشوارع والبيوت، وحان وقت مغادرة الديار، فتحرك الركب بنفس المركب التي يبدو أنها لا تشبع، تُصر دائما علي حمل المزيد، تذكر "تاج الدين" وصية أبيه، فنادي علي إبنه صائحاً، صالح حان وقت الرسالة، ثم أشار إلي النوبه مردداً: "نوبه إركوني قُوريرا.. مســـرنا دورو.. أسّــــى أوينقون دورو.. فاويدُ إركي أونّـــا".
مات الجد ومات "تاج الدين"، وتركا صالح في الأربعين، لم يبتعد عن بلاد النوبة كثيراً عاش وتزوج بالقرب منه، وجاءه "جمال" حفيد الحفيد، ظن أنه لن يعيش مأساة أجداده، ولكنه ظن من البعض الأثيم، في يوم كيوم الجد والأب، رسى علي الشط نفس المركب، ترجو المزيد من الراحلين عن أرض النوبة، وقف صالح علي باب منزلة مرتعد الأوصال دامع العين، أكُتب علية كما كُتب علي الذين منه قبله، أن يعيش في أرض غير أرضة، أن لا ينفذ وصيه أبيه وجده، وكأنه مشهد أصر مخرجة أن يعيده، كلاكيت ثالث مرة، فنادي إبنه جمال حان وقت الرسالة، ثم أشار إلي النوبه مردداً: "نوبه إركوني قُوريرا.. مســـرنا دورو.. أسّــــى أوينقون دورو.. فاويدُ إركي أونّـــا".
"مرت خمسون عاماً يا بني.. بين الحين والحين أجلس علي نفس الشط، ألقي شعري لرفات "تاج الدين" و"صالح".. أشكو لهم ضعف قوتي، وقله حيلتي.. لم أنجب ولدا ألقنه الرسالة".. هكذا أعادني الشاعر الأسمر إلي رشدي، كأن سنوات مرت أمام عقلي، بكت عيني وسال الدمع أنهارا، فماذا عساه أن يفعل برسالة أجداده، وماذا سيقول لأجداده حين يلقاهم.
أرخي جمال راسة علي الصخرة، أسبل جفنيه، وراح يردد بصوت شجن، "نوبه نابِن إركي".. نوبة يا بلاد الذهب، "أُوندين مَـــــــس سُـــودا مِننُ".. كانت أيامك جميلة، "مَشــكِر أَسْــرِن شايقا سُــــولوق أمن قارّا".. إشتقت لشاي العصاري بالحليب علي شطك، ""مَشــكِر أسـّــربن بَتّرَ نوقين فاكِّلاَ".. إشتقت للعب الأطفال بين البيوت، "مَشــكِر أونَتــــل قاقجو أشـــرى قا".. إشتقت للونسة الطيبة علي ضوء القمر، "شـــوبِن قور ندى قا".. لأفراح زمان، "مَشــكِر ديون كبكا- ديدين قاتيجا".. اشتاق لخبز ورائحة القدور، "فاويدُ إركي أونّـــا".. سنعود إلي بلادنا.
سكت جمال، فتح عينيه للمرة الأخيرة، نظر إلي حابي مودعاً، أخرج أخر نفس من صدره، صعدت روحه تحمل رساله الأجداد والأباء، لم يخلف ولداً يستأمنه عليها، لكنه كان يعلم أن كل أبناء النوبة يحملون نفس الرسالة، هو قال ذلك قبل أن يموت، "أوقون أســـّـــى أوينقوق أق وســـــيجور".. وصيتي لأحفادي، "نُوبيقُو أورون كيلن كوركدي ين".. النوبيين رجال الجنوب وحراسة، "فاويدُ إركي أونّـــا".. سيعودون إلي بلادهم.
ختاماً
للحقيقة يجب أن أقول، إنني لم أكن لأكتب قصة الأجيال تلك لولا مساعدة الأديب والشاعر النوبي محيى الدين صالح، مستشار التراث النوبي بمركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي بمكتبة الأسكندرية، ولد في مدينة قُسطل عام 1951، وقد إستلهمت قصة "تاج الدين" من قصيدته "قصة الهجرة" التي دونها في ديوانه الخامس "نُــودِيتُ مِــنْ وادِى النّخِيل"، بل وإستعنت ببعض أبياته.