عاجل
الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
النيل مجاشي.. "إترو- عا" سنة 2030

النيل مجاشي.. "إترو- عا" سنة 2030

بقلم : محمد عبد السلام

"التحيات لك أيها الرب العظيم، رب "الماعتي" العدالة المطلقة.. جئتك سيدي وأضحيت قريباً منك حتى انظر محاسنك.. أنا أعرفك وأعرف الآلهة الاثنين وأربعين ألها الذين معك في قاعة "الماعتي".. جئتك كي أري جمالك، ويداي متضرعتان تحملان "الماعت".. يا من عيناه "ماعتي"، "والماعتي" هو اسمه"



 

داخل قاعة العدالة المطلقة "ماعتي" مثُلت روح "مين- لي"، إنه يوم الحساب، مات ذالك الرجل تاركاً زوجته وأبناءه، واليوم هو في حضرة الآلهة لتبرئة نفسه من كل فعل مشين، يقف بين يدي إله البعث والحساب أوزيريس الجالس علي عرشة، ومن خلفه جلستا زوجته إيزيس والأخت نفتيس تحميانه... أسفل قدمية يجلس "عمعموت" أكل قلوب العاصين والجبارين ينتظر الإشارة.

 

لم يبدوا علي الإله "أوزيريس" إنه يسمع إبتهلات تلك الروح، فساعة الحساب لم تبدأ بعد، فجثا "مين- لي" علي ركبتية عاقداً كفتيه أمام وجهة المضطرب، وبعيون ملؤها الأمل، وبقلب ظن إنه توقف عن الخفقان يوم أن مات، وبأطراف مرتعشة، وبأوصال مرتجفة، إلتفت "مين- لي" إلي الإلة "أنوبيس"، فبين يديه قلبه مازال يقطر دماً، يتجه إلي ميزان العدالة المُطلقة، نظرة قصيرة من "أنوبيس" أتبعها بإشارة من يديه إلي الإله "تحوت" جعلته يضع ريشة "ماعت" علي إحدي كفتي الميزان، وعلي الكفة الأخري وضع قلبه، فخط "تحوت" بريشته علي بردية الحساب أعمال "مين- لي".

 

لم يري "مين- لي" ما كتبة الأله "تحوت"، ولكنه أدرك أن ما كتبه ليس في صالح أعماله، كان مشهد الميزان ينبئ عن ذلك، إنخفضت كفة قلبه لتُصبح أثقل من ريشة ماعت بكثير، ما يعني أنه عاش حياته في الدنيا جباراً عصياً كاذباً يفعل المنكرات، جحظت عينا "مين- لي" رُعباً، تعالت دقات قلبه تصنع ضجيجاً داخل أعماقة، كاد يسقط مُغشياً علية، إلتفت إلي "عمعموت" الذي تأهب صارخاً وقد أدرك إنه علي وشك إلتهام مُذنب آثيم، وتكون تلك هي نهايته الي أبد الأبدين.

 

إلتفت "مين- لي" إلي "أوزيريس" متضرعاً يرجو المغفرة، علي وجنتيه سالت الدماء أنهاراً، تساقط جلد جسده خجلاً، وبصوت لاهث، لاهف، قال، "لم أكن عصياً جباراً.. فأنا طاهر أمين.. وطهارتي مثل طهارة طائر البينو.. في إهناسيا ذلك العظيم.. أنا أنف سيد التنفس العظيم الذي يحفظ حياة البشر.. لم أظلم إنساناً.. لم أُسيء استخدام حيوان.. لم أرتكب حماقة في مكان الحق.. لم أسع لمعرفة ما ينبغي كتمانه.. لم أنظر لعورة.. لم أزني.. لم أعذب أحد.. لم آتي باسمي قبل اسم الإله.. لم أغضب الرب.. لم أبدد ميراث اليتيم.. لم أترك جائعا.. لم أتسبب في دموع.. لم أقتل.. لم أفعل شيئاً مما نهاه الرب".

 

"قٌل لي ماذا فعلت بأمر النهر".. لم يتحدث "أوزيريس"، ولكنه سمع سؤالة، فأشار بكلتا يديه قائلاً بصوت هامس: "أنا يا سيدي لم الوث ماء النهر.. لم أمنع ماء الفيضان في موسمه.. لم أبني سداً للمياه الجارية.. لم....."، صوت هادر انطلق داخل أعماقة جعلة يصمت، صرخات الكائن "عمعموت" وضربات حافري قدميه الأماميتين، ومشهد الزبد يخرج من بين فكية الشبيه بفكي تمساح نيلي ضخم، جعله يتوقف عن الهمس، كل خليه من خلايا جسده توقفت عن الحياة، إشارة من يد "أوزيريس" إلي السماء جعلته يرفع رأسه، ليري بعينيه ما لم يكن في حُسبانه.

 

وكأن السماء إنشقت لتُكشف عن شاشة هولوجرامية ثلاثية الأبعاد، وما أن رأي "مين- لي" ما تعرضه حتي جحظت عيناه رعباً، فأمام عينيه دليل أعماله، دليل كذبة علي "أوزيريس"، راي كيف أنه كان يلوث النيل، كيف إنه كان يُلقي بفضلاته في مياهة المُقدسة، كيف إنه لم يهتم بنظافته، كيف أنه كان يحرم جارة منه حتي يروي أرضة أولاً، لم يكن "مين- لي" أميناً علي النيل، وكان يدرك ذلك، أخفض رأسه إلي "أوزيريس" لم يُخرج صوتاً، فقد سكت اللسان، فألقي "أنوبيس" بقلبه إلي "عمعموت"، فأشار أوزيريس إليه أمراً بإلتهامة، فانقض يلتهم قلب "مين- لي" وروحة الصارخة، ليقتص "ماعتي" من روح أهانت النهر العظيم "أتور- عا"، ولم تصن رب المياة الأبدية "نون".

 

المشهد الثاني

 

نهار خارجي- (ساحة منزل مُطل علي النيل 15 توت 2180 ق.م)

 

"ما بال "حابي" هذا العام، هل أغضبناه إلي هذا الحد، هل يُعاقبنا رب الأرباب فأمر "نون" بمنعه عنا، لقد إشتاق "أتور- عا" إلية".. وقف "سني - كا- لى" أمام ساحة منزلة المُطل علي النيل بين زوجته "رودوبيس"، وبناته الثلاثة، "ألارا" و"أسماغا" و"كاربيتا"، يشكو ما أصاب النيل من جفاف، كان منذ عامين أشهر تجار "تي من هور" واغناها، واليوم أضحت تجارته مُهددة بعد حُرم أراضية مياة النيل.

 

دنت "رودوبيس" من "سني - كا- لى" مواسية، هون عليك زوجي وأب بناتي، فرب المياة الأبدية لن يهون عليه عطش النهر العظيم، سيأتي "حابي" حاملاً السعادة إلينا، وستعود "تي من هور" درة الإلة "حور" إله الشمس المُشرقة، فأطرق "سني- كا- لي" راسة خجلاً، كان يدرك أن روح النيل "حابي" لن يتأخر عن أرضة الطيبة، إقترب من شط "أتور- عا" الذي جفت مياهه، جثا علي ركبتية رافعاً يديه إلي السماء مناجياً، "حعبى، أبو الآلهة... الذي يغذي ويطعم ويجلب المئونة لمصر كلها، الذي يهب كل فرد الحياة في اسم قرينه "الكا"، ويأتي الخير في طريقه والغذاء عن بنانه ويجلب مجيئه البهجة لكل إنسان.. إنك فريد، أنت الذي خلقت نفسك من نفسك، دون أن يعرف أي فرد جوهرك".

 

اسرعت "ألا- را" و"أسما- غا"، خلف أبيهم يحملن سلال الحلوي والفاكهة، كن يرددن خلف "سني - كا- لى" ترنيمة النهر العظيم،  وبين الفينة والأخري يقذفن النيل بالكعك والفاكهة والتمائم لتثير، أملين أن يقبل حابي هديتهن، فتزيد قوه الفيضان ويفيض أمواج عاتية معطيا الحياة لأرض "تي من هور"، ومن داخل المنزل خرج الخدم والوصيفات ليشاركوا سيدهم ترانيم النيل، رفعوا أيديهم إلي السماء مرددين، "يا معبود الجميع حين يتسرب إليهم الضعف.. انت الذي خلقت في السماء نيلا لكي ينزل عليهم ولهم".

 

"ما يجب أن نتركك هكذا.. علينا أن نذهب إليك".. إنتبه "سني- كا- لى" إلي أن إبنته "كار- بي- تا" لا تشاركهم ترنيمة النيل، كعادتها وقفت بعيداً تتطلع إلي الجنوب تخُاطبه، وفي أحيان كثيرة تُهدده، ظن كثيراً أن جفاف النهر العظيم أصاب عقلها إضطراباً، أو أن لعنة رب المياة الأزلية "نون" حلت بها، إقترب منها وأضعاً يديه علي كتفيهاً مُهدئاً، "أبنتي الصغيرة.. سيفيض قريباً.. سيأتينا حابي بالسعادة.. لن يبخل علينا "نون" بفيضة"، فاشارت "كار- بي- تا" إلي منبع "أتور- عا" قائلة: "علينا أن نضمن ذلك يا أبي.. علينا أن نضمن ذلك".

 

"ما هذا الذي تقوله "كار- بي- تا".. ما الذي تقصده بضمان فيضان "حابي".. وكيف يمكن أن نفرض علي "نون" أن يلقي بفيضانه علي النهر العظيم".. كان "سني- كا- لى" يدرك أن إبنته رغم إنها أصغر بناته، إلا أنها اكتسبت من إسمها معناه، الحكمة، لا تنطق إلا ما يتحقق علي أرض الواقع، كثيراً ما استعان بها في إدارة شئون رعيته، ما يعني أن ما تقوله يمكن أن يكون حلاً لمأساة "تي من هور" وسائر أرض الفراعين العظام، تنهيده عميقة أخرجت "سني- كا- لى" من شرودة، نظر إلي أبنته التي اقتربت برأسها من أذنه قائلة بصوت هامس وهي تشير إلي الجنوب: "يجب أن نكون هناك يا أبي.. لا يجب أن نترك "نون" بمفردة.

 

المشهد الثالث

 

ليل خارجي- (قرية هامسين الأريترية 8 ديسمبر 1875)

 

"يزيد.. إنهض يا بني.. المعركة لم تنتهي بعد.. جنودك يحتاجون إليك.. لا تتركهم في المعركة بمفردهم.. إذهب إليهم.. من أجل النهر العظيم".. داخل كوخ صغير علي أطراف قرية "هامسين" إستلقي يزيد علي صندوق بدائي من الخشب فاقد الوعي، يُحيط صدرة بقطعة كبيرة من القماش الملطخ بالدماء، يسيل العرق بغزارة علي جبينة ووجنتيه، إلي جواره فتاه سمراء صغيرة انهمكت في تضميد جراحة، لم تبالي بما يقول، فقط يكفيها إنها علمت إسمة، "يزيد".

 

لم يكن يزيد مُغشياً علية كما إعتقدت فاطمة، تلك الفتاة التي تضمد جراحة، إبنه حطاب القرية الذي وجده مُصاباً علي مقربة أميال من قرية "مصوع"، كان يشعر بكل شيء حولة، أدرك منذ الوهله الأولي إنه نجا من وطيس معركة حامية، دارت منذ أيام قليلة بين الجنود المصريين والأحباش أسفل جبل "آدي هوالا" بالقرب من قرية عدوة، تذكر "يزيد" كيف حاصره الجنود السود في الظلام داخل ذلك الوادي السحيق، كيف أعملوا السيف في رقاب العزل من السلاح، كيف أنقذه سقوطة في كهف سحيق عقب اصابته في صدرة، كيف عاني كثيراً ليخرج من الجانب الأخر لساحة المعركة، وقبل أن يسقط مُغشي علية تذكر ذلك الحطاب الذي عثر علية وراح يُسعفة.

 

"أنا يزيد الفولي.. إبن إبراهيم الفولي.. حفيد "سني- كا- لى" شيخ تجار "تي من هور".. أتيت إلي هنا لأقاتل علي حافة العالم.. إجتزت صحاري وجبال وغابات لأكون بجوار رب المياة الأبدية "نون".. جئت من أجل النهر العظيم "أتور- عا".. لأهب له حابي كل عام.. حتي لا يظمأ إنسان أو حيوان أو طير يسير علي أرض مصر.. أنا يزيد".. راح يزيد يردد تلك الرسالة التي رددها جدة منذ آلاف السنين، ظن كثيرا أن قتاله شيئاً مقدساً من أجل النيل، ولكنه ظن من البعض الأثيم.

 

ذات يوم، في إحدي قري "تي من هور"، كان يزيد يحرث الأرض مع والده، اقتحم عمله شيخ الغفر "عبد البر"، مُعلناً أمر الخديوي إسماعيل إنفاذ حملة لمنابع النيل، فرح كثيراً يزيد، أراد أن يكون أول جنود الحملة الراحلين، لم يكن يدرك عواقب تلك الرحلة، لكنه كان يدرك أن تأمين مجيء "حابي" لملئ النهر العظيم مهمه مقدسة، يجب ان يشارك بها، تلك رسالة جده العظيم، ووصية جدته "كار- بي- تا".. "يجب أن نكون هناك يا أبي.. لا يجب أن نترك "نون" بمفردة".

 

المشهد الرابع

 

نهار خارجي (حقل زراعي دمنهور 20 اغسطس 2030)

 

يوم من أيام الصيف الحار، الشمس كعادتها في شهر "مسري" في كبد السماء، تلقي باشعتها الحارقة علي تلك القرية، فبقي سكانها في بيوتهم تاركين الحقول بلا فؤوس، حتي الأطفال ما عادوا يلعبون في الأزقة أو بين البيوت، في تلك اللحظة، جلس "عواد" علي رأس حقلة أسفل شجرة التوت، يلتمس من فروعها الجافة بعض من ظل، بين الفينة والأخري يلقي نظرة علي أرضة التي تشققت تربتها، وجف ما بها من زرع، فهذا العام لم يأت "حابي" بالسعادة، وجف النهر العظيم "أتور- عا".

 

"تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب.. بل أن الناس أكلت الميته وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لإصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح".. عذرا لم يكن هذا جزء من حكاوي شيخ المؤرخين المصريين "أحمد بن علي المقريزي" والذي عُرف باسم "تقي الدين المقريزي، في رائعته "إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا"، ولكنه واقع ستعيشه مصر إذا ما بخل علينا رب المياة الأبدية "نون" ورفض يوماً أن يمنح "أتور- عا" النهر العظيم، "حابي" روح الفيضان الجالبة للسعادة، ستتحول "تي من هور" إلي تلك القرية المهجورة.

 

"النيل نجاشى.. حليوه أسمر.. عجب للونه دهب ومرمر.. ارغوله فى ايده.. يسبح لسيده.. حياة بلدنا.. يا رب ديمُه.. قالت غرامى فى فلوكة.. وساعة نزهة ع الميه.. لمحت ع البعد حمامة.. رايحة على الميه وجايه.. ووقفت انادى الفلايكى.. تعالى من فضلك خدنا.. رد الفلايكى بصوت ملايكى.. قال مرحبا بكم مرحبتين".. هل تذكرون تلك الأغنية التراثية، كتب كلماتها أمير الشعراء أحمد بك شوقي منذ أكثر من 85 سنه مضت، وقام بتلحينها وغنائها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، حينما كان للفن معني ورسالة تُكتب من خلالة تاريخ أمة، اليوم، ونحن نعيش مرحلة فن المهرجانات، كيف يمكن كتابه تلك القصيدة، وبالشكل الذي يلائم المرحلة، النيل مجاشي.. والأرض العطاشي.. تشتاق لمجئ حابي.. النيل مجاشي.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز