عاجل
الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ملك الموت.. ولعنه بنت حوا

ملك الموت.. ولعنه بنت حوا

بقلم : محمد عبد السلام

لا أدري لماذا تحجم الفتيات عني؟!!.. ليس في مظهري ما يدعوهن إلى ذلك الإحجام.. فأنا حسن الهندام.. وقد ورثت وسامةً عن أمي.. لماذا إذاً تفر مني الفتيات؟!



 

بأصابع مرتعشة خط "ألفريد عمانوئيل نوبل" بيديه الواهنتين تلك العبارات في كراسة مذكراته، والتي أعاد صديقة المقرب، الكاتب الروسي "إيفلانوف وفلور وفانت" تدوينها بعد أن وافته المنية في العاشر من ديسمبر عام 1896، كانت تلك أحد أهم أبرز العبارات التي ذكرها علي الإطلاق، لانها كشفت لنا الكثير من ملامح ذلك الرجل الذي وصفوه بأنه "ملك الموت"، لإختراعه الديناميت، فتاه لقبه المُفضل "ملك الإختراعات" لإختراعة 350 براءة.

 

العبارة التي إهتم بتدوينها  "إيفلانوف وفلور وفانت" في صدر مذكرات "نوبل" حاول الكثير من المؤرخين والعلماء ربطها بالإتجاه ناحية إختراع وسائل الموت، فهم يرون أن اخفاقه في العثور علي مرأة تبادله مشاعر الحب وبين اختراعه المدمر، رغم ان عائلتة نفت هذا كثيرا، وإن كنت أري حقيقة أخري مختلفة قد تكون واضحة وصريحة لتلك الإشكالية التي عايشها نوبل، فقد مثلت حواء بالنسبة له "لعنة" أصابته بالعنصرية أكثر مما أصابتة بالرغبة العدوانية، وهذا ما سأؤكده فيما يلي.

 

"كنت اليوم مع جارتنا "أنيتا" في حديقة الملاهي باستوكهولم.. وفجأةً تركتني دون إعتذار أو كلمة.. مع أنها كانت قد قالت لي إنها لا تمانع في الزواج مني إذا حصلت على وظيفة مناسبة".

 

تلك العبارة المؤلمة توضح حجم ما كان يعانية ألفريد نوبل، وقد تفسر مدي عشقة للتوصل الي إختراعات لها علاقة بالتفجير والدمار، فقد وقع ألفريد نوبل الشاب في شباك الحب لأول مرة في سان بيتسبورج الروسية من ابنة صانع السفن الدنماركي الأشهر "آنيتا ديزري"، كان بطرس الأكبر قد دعاه للعمل في روسيا آنئذ، ولم يكن قد دخل الجامعة بعد، ولكنه كان يتقن ستة لغات، وقام بزيارة العديد من البلاد.

 

ورغم ان ألفريد كان يجيد قراءة أشعار الشاعر البريطاني العظيم "جورج جوردون بايرون" الحزينة، إلا إنه كان بعيداً كل البعد عن مظهر ذلك الشاعر العظيم، فقد كان قصير القامة، نحيف الجسم، شاحب اللون، ورغم ذلك تقبلت "أنيتا ديزري" مغازلته بروح إيجابية لعدة أشهر، حتى أنه راح يحلم بالزواج منها، راح يبني منزلا صغيراً في خيالة، راح يتخيل طفلا صغيرة يشبة "آنيتا".

 

وكما يحدث في الأفلام العربي، ظهر في حياتهما شاب نمساوي جميل يدعى "فرانس ليمارج"، شاب أرستقراطي من الدرجة الأولي، ونبيل بمعني الكلمة، ابن دبلوماسي نمساوي شهير وعائلة عريقة، بالطبع أشاحت "أنيتا" بوجهها عن "ألفريد" وراحت تتطلع نحوا الفتي النمساوي الجميل، الأمر الذي أسعد قلب هذا الأخير وحطم قلب ألفريد.

 

هل تعلمون ما هو رد فعل "ألفريد" ليحافظ علي "أنيتا"، دخل في معركة علمية خاسرة مع "ليمارج"، فإقترح "ليمارج" على منافسة حل مسألة رياضية بحضور "أنيتا"، حاول "ألفريد" كثيراً دون جدوى، فما كان من "فرانس" إلا أن أعطى الحل بلحظات معدودة معلناً أنه سيصبح عالم رياضيات، وما على السيد "نوبل" أن يخجل، وبعد حفل زواج "أنيتا ديزري" و"فرانس ليمارج" أصيب "ألفريد" بالحمى.

 

"لم يعد في قدرتي أن أقابل "أنيتا" ذاهبة إلى الكنيسة وعائدة منها متعلقةً بذراع الفتى "ليمارج" الذي تزوجته.. سأترك لها استوكهولم كلها.. بل السويد أيضاً.. من يدري لعلي أجد في باريس من تحبني وتفضلني على غيري من الرجال!!.. المعروف كما هو شائع أن الفرنسيات عاطفيات جداً.. فإذا صدق ذلك سأجد في باريس من تقابل عاطفتي بمثلها".

 

هل تعلموا أن تلك العبارة دونها "ألفريد نوبل" في مذكراتة، وتؤكد مدي الجرح والمعاناه التي تركة زواج أول حب له من شخص أخر غيرة، فبمجرد ان صحا من هذيانه أعلن أن سيصبح مخترعاً شهيراً، وبالفعل وفى "ألفريد نوبل" بوعده وتحدث عنه العالم، أما "أنيتا" فأسفت لخيارها فلم يصبح "ليمارج" عالما في الرياضيات أو آي شيء أخر.

 

مرت السنين في فرنسا واستطاع "ألفرد نوبل" أن يبيع حقوق استخدام الديناميت للحكومة الفرنسية بربع مليون فرنك، وصار واسع الثراء، وغدا وهو في الثالثة والأربعين من أشهر شخصيات أوروبا، وانغمس في العمل، مما حال بينه وبين البحث عن الفتاة التي تتوق لها عاطفته، إلى أن التقى الكونتيسة السويدية بارعة الجمال "بيرتا كينسكي"، والتي أخذت على عاتقها الإهتمام بشؤونه التجارية والإعلامية.

 

فبعد خيبات الأمل المتلاحقة مع النساء، نشر نوبل إعلاناً في إحدى صحف فيينا هذا نصه: "رجل عجوز، مثقف وغني، يعيش في باريس، يرغب في توظيف سيدة ناضجة تتقن اللغات للعمل عنده كسكرتيرة وقهرمانة"، وقع نظر الكونتيسة برتا كينسكي ابنة الثلاثة وثلاثين عاما على ذلك الإعلان، وفي وقت كانت تعيش فيه ظروفاً حرجة، فبرتا الفقيرة جداً على الرغم من انتمائها إلى عائلة نبيلة، كانت تعمل آنئذ مربية في فيينا عند عائلة البارون "فون زوتنر"، وشاءت الأقدار أن تقع السيدة الراشدة في حب تلميذها ابن صاحب المنزل وهو في السابعة عشرة من عمره، كذلك أغرم التلميذ بمعلمته بشكل جدي، وبعد سنتين انكشف أمر العاشقين وكان على برتا مغادرة منزل عائلة فون زوتنر.

 

في ذلك الوقت بالذات قرأت برتا الإعلان فانطلقت إلى باريس لمقابلة نوبل الذي أُعجب بمظهرها وقدراتها، لم تتمكن برتا من نسيان حبيبها الشاب، فأخبرت نوبل بالأمر وتركت منزله دون أن تطلب شيئاً منه، باعت آخر ما بقي لديها من حلي لتؤمن بطاقة العودة إلى فيينا، بعد فترة تزوجت من تلميذها البارون الشاب "ارتور فون زوتنر" وأصبحت كاتبة ومناضلة من أنصار السلام، حافظت على صداقتها بنوبل، وكان تعاونهما فعالاً خلال السنوات العشر الأخيرة من عمره، فكانت الحامل الحقيقي لأفكاره التي مولها بسخاء، حتي حصلت عام 1905 جائزة نوبل للسلام.

 

كانت "بيرتا كينسكي" تخدمه بإخلاصٍ وتفانٍ، ورغم ذلك لم يفاتحها بحاجته للعاطفة المشبوبة، لأنه كان يعلم أنها إتفقت مع ابن عمها على الزواج.

 

وقد كتب ليلة زواج "بيرتا كينسكي" في مذكراته:

 

أشعر أن توتر الأعصاب الذي كان سبباً في وفاة أبي قد انتقل إلي، أصبحت لا أحسن التفكير، وكثيراً ما راودتني فكرة الإنتحار!!.. خاصةً بعد زواج "بيرتا" من ابن عمها!!، وفوق هذا وذاك بدأت حوادث الديناميت المخيفة تثير ذعر العالم، وقد هاجمتني الصحف عقب انفجار صناديق الديناميت في بانما، مما أدى إلى مصرع 60 شخصا، وكذلك انفجار ثلاثين صندوقاً من الديناميت في ميناء سان فرانسيسكو، وعندما وقعت كارثة حرب 14 مايو سنة 1864 استُخدم فيها الديناميت، مما جعل ضميري يتعذّب بسبب تطور هذا الإختراع الذي أدى إلى الديناميت الفتاك.

 

إعترى ألفرد نوبل خوف شديد فخرج على وجهه هائماً من بلد إلى آخر، وقد استولى عليه الذهول القاتل، حتى أطلقت عليه الصحف لقب "أغنى متشرد في العالم"، لكنه كان عن الصحف في شغل شاغل، هائما في الشوارع وكل من يقترب منه لا يسمع إلا عبارات شاردة "ماذا فعلت؟!.. ماذا فعلت؟، لقد أجرمت بحق البشرية!! رحمتك يا إلهي!!.. رحمتك يا إلهي!!.

 

ومن كتاب مذكرات ألفريد نوبل يقول: تهب إلى نجدتي الكونتيسة "بيرتا" السكرتيرة الحسناء.

 

  • ألفرد.. إنك تقتل نفسك بهذه الطريقة.. لا ذنب لك في الذي حدث!!.. إنك لم تصنع الحروب!!.
  • بل أنا صانع الدمار!!، تاجر الموت!!، اسمعي يا "بيرتا" سأكتب وصيتي محاولاً التكفير عن جرمي، وسأجعلك المسؤولة عن تنفيذها، كل أموالي التي تقدر بملايين الدولارات، سوف أهبها لكل من يكرس حياته لخدمة العلم والسلام والحب في هذا العالم!!، إني أترك لك يا "بيرتا" تحديد الشروط والظروف، وليغفر لي الله ما اقترفته يداي.

 

وقامت "بيرتا" بتنفيذ الوصية حيث جعلت إيراد ثروته السنوي جائزةً تحمل اسمه "نوبل" لكل من وهب حياته من أجل العلم والسلام والحب فوق هذا الكوكب.

 

علاقة نوبل العاطفية الثالثة والأطول أمداً كانت مع "صوفي هيس" كان يميل اليها إلي درجة تصل إلي الحب أحيانا، كانت فتاة نمساوية جميلة، واستمرت هذه العلاقة 18 عاما كاملة، كان قد التقاها في فيينا عام 1876، وللمرة الثانية يصطدم "الفريد" بأحد الشخصيات التي يدعي إنه سيصبح عالم رياضيات في المستقبل، ولكن هذه المرة كان عالماً حقيقياً، انه "ميتاغ لوفلير" أحد علماء السويد في مجال الرياضيات، وكان يغازل "صوفي هيس" بشكل فاضح.

 

بدأت القصة مع صوفي في قرية نمساوية حيث كان نوبل يمضي فترة من الراحة، أما سبب تلك القصة فهو ولع نوبل الشديد بزهرة الأوركيديا، فكان كل يوم يقصد محل بيع الزهور في البلدة ليشتري لنفسه تلك الزهور، وكانت البائعة هي صوفي الجميلة، راقت الفتاة الرشيقة ابنة العشرين ربيعاً لنوبل الذي بلغ الثالثة والأربعين من العمر، فدعاها لمرافقته إلى باريس.

 

وبالفعل اشترى نوبل لصوفي شقة قرب منزله وحاول جاهداً تثقيفها لرفعها إلى مستواه، لكن عبثاً، لم تكن صوفي تحب الدراسة، فصرفت جميع الأساتذة الذين استأجرهم نوبل وراحت تطالبه بالمال، وبالرغم من تقديم نفسها بوقاحة للجميع على أنها السيدة نوبل، كان لها العديد من العشاق، وصلت أخبار مغامرات صوفي إلى "ألفريد"، وبخاصة تفاصيل علاقتها مع عالم الرياضيات "ميتاغ لوفلير"، لكنه لم يكاشفها بالأمر.

 

وبعد مرور خمسة عشر عاما على وجود صوفي قرب ألفريد في باريس، أتته ذات يوم باكية لتعلن له عن حبها لنقيب من الخيالة يدعى "فون كبيفار" وأنها حامل منه، بعد ذلك طلبت منه أن يبارك زواجهما ويعطيهما بعض المال، فكان لها ما أرادت، لكنه طلب منها عدم الظهور في منزله مجدداً، وقد ابتز الزوجان "ألفريد" لفترة طويلة، كما فعلا الأمر نفسه مع شقيقة روبرت نوبل الذي اضطر لدفع مبلغ كبير من المال مقابل تسلمه 216 رسالة غرامية كان "ألفريد" قد بعث بها إلى صوفي.

 

وعندما صاغ نوبل وصيته تذكر بالطبع "أنيتا" و"صوفي"، ولم يستطع التغلب على كرهه لعلماء الرياضيات، فما ناله منهم على المستوى العاطفي جعله ينتقم من جميع علماء الرياضيات على مستوى الجوائز، ولم يسم ملكة العلوم كلها في وصيته.

 

إثر الأزمات القلبية المتلاحقة التي ألمت بألفريد نوبل، قرر الإنتقال إلى إيطاليا للإقامة في سان ريمو ليعيش في منزلة الجديد، ولكن الإكتئاب لم يفارقه، أحس بدنو القدر فكتب لأقاربه أنه سيموت محاطاً بالخدم المستأجرين عندما لا يكون بقربه أي شخص قريب، وصدق حدسه، ففي أكتوبر 1896 أصيب ألفريد بـ"فالج" فأصبح يتكلم بصعوبة، وباللغة السويدية فقط، كان الخدم جميعاً من الإيطاليين وما كانوا يفقهون شيئاً مما يقول، مرت الأيام ولم تتحسن حاله، وفي العاشر من شهر ديسمبر 1896 توفي كما توقع، وحيداً في غرفة نومه وتأكيداً للتناقضات التي شكلت حياة هذا الرجل الفذ، أصبح يوم التعاسة في حياته 10 ديسمبر يوماً احتفالياً للسويد تمنح فيه الجوائز التي تحمل إسمه.

 

وبعد وفاته بيومين جاءت "بيرتا كينسكي" ومحامية وبعض أقاربة بوصيتة لتنفذها "بيرتا" كما وعدتة، وجاء في نص الوصية ما يلي: "أنا الموقع أدناه ألفريد بيرنهارد نوبل فكرت ملياً وقررت أن أعلن وصيتي التالية المتعلقة بممتلكاتي التي جمعتها حتى مماتي، إن كل ما يبقى بعدي ويمكن بيعه يجب توزيعه على الشكل التالي: على منفذي الوصية تحويل رأسمالي إلى أوراق مالية لتأسيس صندوق تمنح فوائده على شكل جوائز للذين قدموا أكبر منفعة للإنسانية في العام السابق.

 

تقسم الفوائد المذكورة إلى خمسة أقسام متساوية ويخصص القسم الأول للذي قام بأفضل اكتشاف أو اختراع في مجال الفيزياء، والثاني للذي قام باكتشاف أو تطوير مهم في مجال الكيمياء، والثالث للذي توصل إلى نجاحات مهمة في مجال الفيزيولوجية أو الطب، والرابع، للذي وضع أهم إنتاج أدبي يعكس المثل الإنسانية، والخامس للذي قدم مساهمة فعالة في توحيد الشعوب، والقضاء على الرق، وخفض الجيوش الموجودة والمساهمة في اتفاقات السلام.

 

وتمنح الأكاديمية السويدية للعلوم جائزتي الفيزياء والكيمياء، والمعهد الملكي الكازوليني في ستوكهولم جائزة الطب والفيزيولوجية، والأكاديمية السويدية في ستوكهولم جائزة الأدب، ولجنة مكونة من خمسة أشخاص ينتخبها البرلمان النرويجي جائزة السلام، تقتصر رغبتي الخاصة على عدم أخذ قومية المرشح بنظر الإعتبار كي ينال الجائزة من هو أكثر أهلية لها بعيداً عن كونه إسكندنافياً أو غير ذلك.

 

ختاماَ.. تعتبر هذه الوصية الأخيرة والنهائية وتتمتع بالقوة القانونية وتلغي جميع وصاياي السابقة، إذا ما وجدت بعد مماتي، طلبي الأخير والإلزامي يقتصر على قيام طبيب مختص بتحديد سبب وفاتي، وبعد ذلك فقط يمكن تسليم جثتي للمحرقة، "باريس في 27 نوفمبر 1895".. هكذا رجل ذلك الرجل تاركاً واحدا من أكبر ألغاز التاريخ الحديث، جائزة مليئة برائحة الديناميت، وحياة عاطفية بائسة أطلت بعنصريتها علي طبيعة ومعايير تلك الجائزة التي نالت من الإستهجان أكثر مما نالته من استحسان، حتي ممن حظوا بشرف الحصول عليها.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز