

محمد عبد السلام
العجوز ذو الأطراف الحديدية
بقلم : محمد عبد السلام
"عجب أمر المصريون.. شعب طافح المر ولا يعرف للسكر طعم.. ورغم ذلك مش عاوز يسيبه.. بيجيله في الدم".. لم تكن تلك طرفة أو نكتة ثقيلة الظل، ولكنها الحقيقة المرة أدركتها الألباب والعقول، حقيقة ذلك الشعب الي يعاني أكثر من عُشر سُكانه من أمراض السكر، قد يبدو هذا أمراً مُبالغا فيه، ولكنها الحقيقة التي أكدتها إحصاء الجمعية المصرية للسكري، وقد وصل الأمر حد مطالبة مجلس النواب بسرعة وضع خريطة طريق جديدة للتعامل مع هذا الغول الذي يفتك بأجساد وعظام المصريين، فأضحت أجسادهم هشة وعظامهم متآكلة.
المأساة الأولي:
"علي باب معهد السكر بالقاهرة ستجد شعبا يتذوق المر".. بتلك العبارة الممزوجة بقطرات الدمع بدأ "شعبان عبد الناصر" حديثة معي، عجوز تخطي الخامسة والستون بقليل، يحفظه كل من يذهب الي معهد السكر، عُرف باسم "العجوز ذو الأطراف الحديدية"، أجبره السكر الذي أصابه منذ ثلاثة عقود علي إجراء ثلاثة جراحات بتر لأطرافه، فأضحي يمتلك يدين وقدم يُمني حديدية بدلا من تلك العظام التي آكلها السكر، رغم سنواته الستون للوهلة الأولي تراه شاب في العشرين، لا أثر للتجاعيد، ولا للشعر الأبيض، وإن تسلل بعضها إلي فودية، ما منحة هيبة رجال وقور، لا تفارق الابتسامة ثغرة، ولا يتوقف لسانه عن شكر الله.
علي كورنيش النيل يُقبلُ العجوز بكرسيه المتحرك علي مغامرة كل أربعاء، يسعي حثيثاً لعبور الشارع المواجه لمعهد السكر، لا يسعفه كرسيه المتهالك، يكاد يسقط أرضاً لولا صلابة قبضتيه الحديديتين، لم تكن يدين بالمعني المتعارف عليه، بدت أشبه بكلابتين قُدتا من الصُلب، وقف العم شعبان يترقب حركة السيارات التي لم يرحم سائقيها عاجز مثله، ورويداً، رويداً، راح يتقدم خطوة، خطوة، حتي نجح أخيراً في الوصول إلي باب المعهد، وما أن وقف علي بابه حتي إلتفت إلي نهر الشارع رافعا يديه الحديديتين مُعلناً انتصاره.
لم تفارق الإبتسامة وجه العم شعبان، فتلك رحلة وجد نفسه مُجبراً علي اجتيازها منذ عقود طويلة، يوم الأربعاء من كل أسبوع يستيقظ قبل الفجر، يتوضأ ويصلي، ويقل القطار قادما من قريته بمحافظة بني سويف إلي القاهرة لتلقي العلاج، يحمل داخلة يقيناً أن ما أصابه أفضل كثيرا مما أصاب الآخرين، وأن حالته أفضل كثيرا من حالات أخرى موجودة داخل ذلك المعهد، قائلاً من خلف ابتسامة متأسية: "فمن يدخل هنا يا بني لا يعود كاملا أبداً".
"مكنتش عارف أن الإهمال يخليني في يوم أعيش متسول.. المرض قضى على صحتي وعلى شقا عمري".. زفره حارة جعلته يبتلع قطرات دمع حزينة أرادت أن تبل وجنتيه، قديماً اشتهر في بلدته كأفضل صنايعي في عمل الجبس المنزلي، ادخر كثير من الأموال من حرفته تلك، كان يعمل ليل نهار، حتي بعد أن أبدل إحدي ساقية ويده اليسرى بأطراف حديديه، ومنذ أقل من عامين اضطر لبتر اليد اليمني ووضع بدلا منها يد حديديه، ليتوقف عن العمل بشكل نهائي، لم يبخل بكل ما ادخره من أجل العلاج، فكان ينفق بالقسم الاقتصادي للمعهد ما يقرب من اثنتي عشر ألف جنيها كل عشرة أيام، وفي النهاية اضطر للاقتراض من أشقائه لسداد ديونه.
المأساة الثانية
بمجرد أن تدخل بقدميك الي عنابر المرضي بمعهد السكر، ستدرك منذ اللحظة الأولي المعني الحقيقي للمرض، ستدرك العلاقة الحميمة بينه وبين الفقر، فعنبر البؤساء أو "السكر سابقا" يحوي ثمانية من الآسرة، لم يجد زائريه أي ضابط أو رابط، افترشوا الأرض مرافقين لذويهم الذين اختلفت حالتهم ما بين بتر في أحد الأطراف، وبين حالات تنتظر البتر.
وسط كم هائل من الأنين ونزاعات الألم جلست علي فراشها، لم أري وجهها في بادئ الأمر، التحفت بغطائها البالي فلم يعد يظهر منها أي شيء، بعض الاهتزازات المنتظمة والعبارات غير المفهومة تجعلك تشعر وأن تحت الغطاء شخص ما، اقتربت من تلك الملتحفة علني أفهم ما تقول، "مبقاش في العمر بقية... يعني هعيش أكتر من العمر اللي راح... هو انا يعني من أمتي عايشه.. يلا.. حسن الختام"، كجلمود صخر وقفت أمام تلك العبارات المتقطعة، لا أجرؤ علي الحركة، لم أتفوه بكلمه، فأسفل الغطاء كائن ما، أضحي بقايا إنسان.
"سيدتي.. أمي.. حجة".. بكل الألقاب رحت أنادي تلك الملتحفة علها تجيبني، لكنها لم تفعل، كإيقاع منتظم يتبع نوته موسيقية راحت تردد تلك العبارات، تصاحبها نفس الاهتزازات التي خُيل لي وكأنها رقصات حزينة، مددت يدي لأرفع الغطاء عنها، وكأنها تراني أو تشعر بما سأفعل، توقف صوتها واهتزاز جسدها، "استني يا واد متفتحش عليا.. أغطي رجلي الأول".
عائشة إبراهيم، اسم السيدة الملتحفة، تخطت الخمسين من عمرها، وان بدت في عجوز في السبعين، ذو وجه خمري ملئ بالتجاعيد، وعيون بارزة التف حولها السواد التفاف السوار حول المعصم، وعظام وجه بارزة وفم فقد أغلب أسنانه، وشهر غزا الأبيض خصلاته، جاهدت كثيرا تلك المرأة لتجلس علي ما يطلقون علية فراش، تراقب تعبيرات وجهي الصادمة، وتعبيرات عيني الداهشة، أطلقت تنهيدتها قبل أن تقول بصوت اعتاد علي مواجهة تلك المواقف: "هنعمل إية يابني.. دا حالي من 18 سنة مع المرض.. مورثناش من أهالينا غير الفقر والسكر"، قالتها ببراءة طفلة في الخمسين من عمرها، وبابتسامة أكثر براءة أشارات إلي لأجلس بجوارها.
هل تذكرون جدتي وحواديتها، رغم أن فارق السن بيني وبين عائشة ليس كبيراً، إلا أنها ذكرتني بجدتي، حينما كانت تجلسني الي جوارها وتبدأ في سرد حكاويها، امتثلت لأمر تلك العجوز وجلست بجوارها استمع إلي شكواها، منذ ثمانية عشر عام استيقظ منزلها بصراخ وعويل، فتلك الشابة التي لم تتعد الثانية والثلاثون ربيعا بعد، جثة هامدة علي فراشها، باتت ليلتها حزنا علي خطيب قرر الزواج من أخري، أكثر جمالاً ومالاً، لم يشفع له انتظار ثمانية سنوات، فآبت أن تعيش في تلك الدنيا الظالمة أهلها، تركت العنان لجسدها الهزيل ليموت في هدوء، وفي الصباح أنقذ الطبيب قدميها من جلطة شاردة، وكعادة مشفانا الإهمال، أدي تأخير الجراحة الي بتر القدم كلها، واليوم سارت عمياء، كانت مفاجئتي أن تلك السيدة لا تراني.
المأساة الثالثة
تركت الست عائشة بهمومها وأوجاعها وخرجت من العنبر لا أرى أمامي، تركتها تردد نفس الكلمات التي استقبلتني بها "مبقاش في العمر بقية... يعني هعيش أكتر من العمر اللي راح... هو انا يعني من أمتي عايشه.. يلا حسن الختام"، ووسط عالم الأنين هذا تراءي لي طفلة تضحك، لم تتعد الثانية عشر من عمرها، جلست علي حافة فراشها ذو البطانية الزرقاء تأرجح قدميها، تسرد لوالدتها طرائف زميلاتها، تحن للعودة إليهن، لمدرستها التي حرمها المرض من فصولها.
"يعني لو الأستاذ خلاني أروح الحمام مكنتش جيت هنا... العيال في الفصل افتكروا إني حامل.. وصحباتي كل ما يعملوا فيا مقلب يعصبوني ويخلوني اضربهم... جابولي السكر ولاد الاية بس وحشوني"، تلك هي المواقف المضحكة المبكية لتلك الطفلة، أسمها فاطمة، زار السكر جسدها الهزيل منذ عامين، وعقابا علي عصبيتها الزائدة قرر البقاء للأبد، وبلا رحمة.
أكثر ما يضايقها رفض المدرسين الدائم لذهابها المتكرر لدورة المياة، رغم إنها تضطر لذلك لمعاناتها من تراكمات دُهنية علي الكبد، تلك التراكمات أدت الي ارتفاع ملحوظ في البطن، ما جعل كل من يراها أنها تعاني من بوادر حمل مُبكر، وهو ما أثار حفيظتها وعصبيتها تجاه كل من يتهمها بالحمل، وعندما سمعتهم يقولون ذلك شعرت بالإنهيار واندفعت تهاجمهم وتدافع عن نفسها، وفي الصباح ساءت حالتها النفسية وازداد الألم، وعندما حل المساء كان السكر يلتهم جسدها الضئيل دون رحمة.
"إنت بتتصنت علينا يا جدع إنت.. واقف كده ليه".. لم يكن هذا صوت الطفلة ذات الثانية عشر ربيعاً، صحيح انه خرج من فمها، ولكنه ليس صوتها بالتأكيد، صوت أجش غليظ صارم، ورغم ذلك تراه مغلفاً بالأنين، تري عينيها كعين نمرة مفترسة، ورغم ذلك تلمح فيهما حنين طفلة فقدت شغف اللهو، لا تخدعانك فكيها الأشبه بفكي فهد مفترس، فمازالت أسنانها الصغيرة تنبئ عن ضعف حيلتها، رفضت كثيرا أن تتحدث معي، رفضت أن تشكو ضعف قوتها وقلة حيلتها وهوانها علي الناس، فقط وافقت أن تحكي نوادرها مع زميلاتها ومدرسيها.
السكر في بر مصر
"يا تري فيه كام شعبان وعائشة وفاطمة فيكي يا مصر".. اعتقد أنه بعد تلك الرحلة المؤلمة في رفقة أجساد آكلها المرض يجب أن يكون هذا هو السؤال، فما رافقتهم طيلة سبعون دقيقة فقط هم مجرد أفراد يقفون كما يقف أغلب الشعب المصري في طابور طويل لا ينتهي من المعاناة والألم مع المرض، فلك أن تعلم ان ما تم رصده يتخطي حاجز الثمانية ملايين مواطن مصري يتعايشون مع السكر، يا لا سخرية القدر، حُرموا من السكر طعاماً فجاء إلي أجسادهم مرضا، ثمانية ملايين يشكلون 9% من سكان المحروسة، ويتوقع ازدياد أعدادهم الي أكثر من 10 ملايين بعد سبع سنوات، يكبدون الإقتصاد المصري خسائر سنوية تصل الي أكثر من اثني عشر مليار جنية.