عاجل
الثلاثاء 21 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
تعيشي يا ضحكة مصر

تعيشي يا ضحكة مصر

بقلم : محمد عبد السلام

علي خط النار، عالمٌ أخر، عالمٌ غير تلك العوالم التي تعرفونها، أٌناس ليسوا هم من عايشناهم من قبل، منهم أخي وجاري وابني وصاحبي وأستاذي، إلا إنهم يوم بعد يوم، يتحولون، يتغيرون، يدركون أنهم يعيشون واقع لا ندركه، فقط نتابع أخبارهم عبر الأثير، نتدثر أغطية برد الشتاء، أو نروي ظمأ حر الصيف بالمثلجات، ثم نتغنى برائعة الشاعر أحمد فؤاد نجم والموسيقار كمال الطويل: "دولا مين ودولا مين دولا عساكر مصريين".



منذ سنوات ليست بالبعيدة، وأثناء تواجدي بأحد مراكز التدريب العسكري بالقاهرة، انتظر أخي الذي أصبح جندي مجند بالقوات المسلحة، هالني ما رأيت، شباب صغير، ينطلق خارجا بزيه المموه، زادتهم سمرة شمس يوليو الحارقة صلابة الفراعين الأولين، تعلو وجوههم المشرقة بسمة لم تفارق شفاههم، بريق عيونهم الجذلة تشعرك أنهم ما عانوا مشقة قط، اقبلوا فرحين ليس للقاء الأهل والأقارب، ولكن لاستقبال ما لذ وطاب، حتي أخي، كفهد جائع انقض علي  ما نحمله من طعام وكأنه صيد ثمين.

"هتعشي اية ليلة الدخلة يابا الحج".. بمجرد أن هدأ دخان المعركة، لم ينتظر "مسعد أبو المعاطي"، ذلك النجار الصغير الذي جاء من بحري ليدافع عن تراب وطنه طويلاً، بأنفاس مشبعة برمال سيناء، وبصوت مازح لم يخلو من الجدية أطلق الفتي ذاك التساؤل، راجياً قائدة أن يُخرجه من تلك الورطة، فلم يجد قائدة الشاويش "محمد" سوي كتم ضحكة كادت أن تفلت منه، أطلت من "مسعد" نظرة طفل سُلب لعبته المفضلة، "متهيألي يا مسعد الفراخ ظريفة"، أخرجت إجابة "شوقي" رفيق السلاح الفتي من تلك الحالة الغاضبة، فعادت إلي وجهة تلك الابتسامة الطيبة قائلاً بصوت خبيث: "لالالا فراخ اية يا عم شوقي.. دا فيه ناس قالت لي إن السمك كويس أوي في ليلة مفترجة زي دي"......

منذ خمسة وأربعون عاماً قدم لنا الثنائي العبقري، الكاتب والسيناريست مصطفي محرم، والمخرج علي عبد الخالق، واحدة من أروع الأعمال السينمائية في التاريخ السينمائي المصري، "أغنية علي الممر"، إحدي مسرحيات الكاتب العظيم علي سالم، ليصنعوا أعظم مشاهد البطولة للجندي المصري، ومدي كفاحهم عقب نكسة لم يشاركوا فيها، البطولة هنا لم تكن في الصمود والحفاظ علي الموقع من السيطرة الإسرائيلية، ولكنها في الجانب الإنساني للمواطن مصري، فخرجت الصورة بتلك الواقعية التي جسدها أبطال من طين هذه البلد.

"نفسي يبقي عندي بيت صغير.. وعيلين.. وبطانيتين صوف.. وأدفي بقي".. لم ينس "مسعد"، والذي برع في أداء دورة الفنان العظيم صلاح السعدنى، تلك اللحظة الرومانسية مع حبيبته التي تركها ليدافع عن وطنه، كالصقر راح يراقب الممر من أعلي الحصن، وكإنسان راح يتذكر حب العمر، يستأنس بها وحشة الصحراء القاحلة، يحلم باللحظة التي سيعود إليها لحقق ذلك الأمل الذي وعدها به، "بيت صغير، وعيلين، وفوقهم بطنيتين صوف، ويدفى بقي إبن المحظوظة"، حقا هو حُلم بسيط، لكنه بالنسبة له كان أمل عظيم، بمجرد أن تضع الحرب أوزارها سيعود إلي قريته ليحققه.

المشكلة التي كانت دائماً ما تؤرق الجندي مجند مسعد، ولم يجد لها حل، "هيتشعى إية ليلة الدخلة"، لا تتعجبوا فقد كانت تلك هل كل مشاكل هذا الفتي الصغير، وفقاً لرؤيته فليلة مفترجة كتلك يجب أن يكون لها طقوس خاصة، وإلا ضاعت بركاتها، ويفشل في تحقيق حلم "العيلين"، وبدل ما يشتري بطنيتين يوفر بطنيه، ضاحكاً تذكر موقف تلك الحبيبة تعيسة الحظ، وكيف أنها أصرت آلا يذهب إلي الجبهة قبل أن يكتب عليها، "تقولش لقت لقية"، لكن تظل المشكلة، لقد إنتهي من كل شيء، حتي فرش البيت الصغير صنعة علي يده، وقامت حبيبته بتفصيل الستائر، لكن ما يحير هذا الصغير، "هيتعشي اية ليلة الدخلة".

هل تذكرون زيارتي لأخي بتلك الوحدة العسكرية، يومها تذكرت مقوله والدي رحمة الله علية، "يا بني الحياة علي الجبهة شيء أخر.. الموت هناك هو القاعدة وما عدا ذلك استثناء"، تلك اللحظة فقط، أدركت السبب الحقيقي لتلك الحالة التي ظهر عليها شباب ظلوا 45 يوم وسط الصحراء، نفس الوجه البشوش، نفس الضحكة الجذلة، حتي بريق العين، لا يختلف كثيراً عن "مسعد" في أغنية علي الممر، كان لديهم نفس الحلم، فانقضوا علي ما نحمله من طعام.

"أنا راجع.. مسعد أبو المعاطي ميموتش أبداً.. بشرفي لنعمل حتة دين دخلة محصلتش".. أعلي التبة أمسك سلاحه العتيق متحفزاً، جف حلقة، تشققت شفتيه، طيلة يومين كاملين لم يدخل جوفه شربه ماء، علي يمينه انهمك حمدي في تلحين قصيدة النصر، بين الفينة والأخرى يطلق صفيراً معبراً عن فقرة أو حتي جملة، فتذكر وعده لحبيبته عن "الدخلة اللي محصلتش"، ابتلع ريقه بصعوبة كادت تجرح أمعائه، ثم إلتفت الي رفيق سلاحه مازحاً: "بشرفي يا حمدي لتحي الفرح بتاعي"، كالعادة يطلق الجميع العنان لضحكات بائسة لدعابة ذلك الفتي.

انتبه مسعد فجأة إلي ذاك الصوت المعدني، مُعتدي إسرائيلي، يُطلق تحذيره بسرعة تسليم الموقع وإلا سينسفونه، كان بين خيارين كلاهما أحب إلي نفسه من روحة، بين أن يخرس ذلك المُحتل الي الأبد ويخسر حياته، وبين أن يفي بوعده لحبيبته ويخسر وطنه، لم يطل الإنتظار، فقد أدرك أن وطن ضائع لا يمكن معه الحلم بالبيت الصغير، ولا بالعيلين، ولا بالبطانيتين، وطن ضائع لا يعني علي الإطلاق دفء، فانطلق صوب صاحب التهديد ليخرسه الي الأبد، وقبل أن يحتفل بنصره جاءته رصاصة الغدر ليقضي نحبه.

مات مسعد أبو المعاطي، مات قبل أن يجيبه احد من الباقين، هيتعشي إية ليلة الدخلة، تلك الليلة المُفترجة التي يحلم بها سنين عددا، صعدت روحة إلي السماء دون أن يحقق حلمة، سكنت أنفاسه إلي الأبد، تلاشت ضحكته التي اشتهر بها بين أقرنائه، ضاعت ضحكته وبقيت ضحكة حبيبته، ولأنه ذلك الفتي الشقي، لم يكن صعوده الي السماء كأي صعود لشهيد من قبل، راح يرقص ويتغني بأنشودة الخال عبد الرحمن الأبنودي، "أبكي.. أنزف.. أموت.. وتعيشي يا ضحكة مصر.. وتعيش يا نيل يا طيب.. وتعيش يا نسيم العصر.. وتعيش يا قمر المغرب.. وتعيش يا شجر التوت.. أبكي أنزف أموت وتعيشي يا ضحكة مصر".

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز