عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بتاح حُتب وسُنب وأبي

بتاح حُتب وسُنب وأبي

كان المركب يرقُص، على موجات هادئة، بمنبت نيل مصر العظيم، أسوان، بينما نسيم الهواء النقي، يُداعب خصلات شعري الطويل، وعيناي تخترق صفحة الماء الصافي النقي، فترى من فرط صفائه أسماك النهر.

كان نبلاء مصر القديمة، على البر الغربي، بالجانب الآخر من النهر، يرقبون في صمت، من أعلى انحدار صخور رملية، صنعوا فيها بيوتهم الأبدية، أبوابها مصوبة نحو شريان الحياة.



في حضن النيل، شعرت بالأمان، أخذتني غفوة، فإذا بي، أرى رجلًا مهيب الطلعة، في الستين من عمره، طويل الشعر، يرتدي زيًا أشبه بما خلدته جدران معابد الفراعنة. 

أطلت النظر إليه، شعرت بأنني أبُحر في نهر الزمن، إلى حقبة الأجداد، كان ينظر إلى السماء، لا ينبس ببنت شفة، كأنه فيلسوف يبحر في محيطات العقل، بحثًا عن جزيرة مفقودة.

قلت من أنت أيها القادم عبر الزمن؟! التفت ببطء، مجيبًا في تواضع العظماء: بُتاح حُتب.

مرحبًا: جدي الحكيم.

هل تعرفني: نعم ومن يجهل، الحكيم الأديب، الذي قال يومًا في بردية «بريسي» باحثًا عن مصير الموتى: «ولم يأت أحد من هناك، ليحدثنا كيف حال من قبلنا ويخبرنا عما يحتاجون إليه ليطمئن قلوبنا، قبل أن نذهب نحن كذلك إلى المكان الذي ذهبوا فيه».

ابتسم متسائلًا: وهل تعرف الهيراطيقي؟

قلت: للأسف لا، لكن حكمتك التي عثر عليها، بعد آلاف السنين، مدونة على أربع نُسخ، ثلاث منها على ورق بردي، الكاملة منها يحتفي بها الفرنسيون «بردية بريسي»، بالمكتبة الوطنية في باريس، مؤرخة بعصر الدولة الوسطى، وأخرى في بريطانيا، ونسخة على لوح خشبي بالمتحف المصري، ترجمها عالم يدعى، «بايتسكوب جن».

ماذا تعمل؟

:كاتب جدي الحكيم

قال: «إن صوت الناس يفنى.. ولكن صوت الكاتُب يعيش أبد الدهر».

: صدقت جدي الحكيم، فصوتك وتعاليمك باقية حتى الآن منذ خطتها يداك عام ٢٤١٤ قبل الميلاد.

جدي: حدثني وأنت القادم عبر آلاف السنين، كيف شيدتم حضارتكم الباقية المبهرة للأمم والأجيال المتعاقبة؟

أجاب: بالعمل..«كُن مجتهدًا في كل وقت، افعل أكثر مما هو مطلوب منك، لا تضيع وقتك إذا كان في إمكانك أن تعمل، مكروه ذلك الذي يُسيء استخدام وقته.. إن العمل يأتي بالثروة، والثروة لا تدوم إذا هُجر العمل».

بَعضُنَا نحن الأحفاد يستعجل الثروة، ويرهقه كثرة العمل؟

قال:«إذا كنت تعمل بجد، وإذا كان نمو حقلك كما ينبغي، فذلك لأن الإله قد وضع البركة في يديك»، فكثرة العمل نعمة.

جدي الكاتب..  بم تنصحني وغيري من كُتاب عصرنا؟

قال: هل قرأت ما خطه جدك الحكيم «سُنب حتب»؟

قلت: لا 

قال: أعُلمك ما علمه ابنه..«تعلم كيف تحرك أصابعك القلم، وكيف يحرك عقلك أصابعك، فلا يَخُط قلمك إلا الحكمة والمعرفةُ وما ينفع الناس .. اجعل لُفافات البردي وأدوات الكتابة أصدقاءك، ستجدهم أوفى الأصدقاء وأخلص الندماء».

أقال هذا حقًا أجدادي العظام؟!

بتاح حُتب: أكثر من هذا بكثير، لكنكم تجهلون تاريخكم، فلم يُفلح عدو في غزو مصر، إلا بعد أن نسي الجيل المهزوم تاريخه.

صَمتُ للحظات أتمعن في الكلمات، أنه يتحدث عن أخطر سلاح، يواجهنا في القرن الواحد والعشرين، تغييب الوعي، هُزمنا يوم غُيبنا عن تاريخنا وحضارتنا، هُزمنا اقتصاديًا وعلميًا، تخلفنا عن ركب الحضارة، عندما أغمد كَتابنا أسلحت التنوير.

جدي: إن الكاتب المسؤول الأول عن نسيان أجيال لتاريخها، ولكن من هو الكاتب، فقد بات كل من يُمسك بقلم يصف نفسه بالكاتب؟

قال: ولدي إن لقب الكاتب في زماننا من الألقاب العلميةُ التي يحصل عليها حاملها من «بيت الحياة»، 

الملحق بالمعبد، فهو جامعة العلوم والآداب والفنون، في عصرنا الخالي، أعلى مراتبها تخصصًا، «أسرار الوجود»، ثم «كُتاب الحكمة»، و«كتاب التشريع وتوثيق التاريخ والملاحم»، ثم «كُتاب الشعر والأدب الشعبي».

سألته وكيف كان يقتات الكاتب، المتفرغ للفكر والحكمة والإبداع في زمانكم؟

أجاب: الكتابة مهنة مقدسة بني، وقد خلد أجدادك في برديات الأسرة التاسعة عشرة، نصًا ملكيًا أصدره الملك سيتي الأول بإعفاء الكاتب والأديب من الضرائب، وبردية أخرى، تركناها لكم من عهد رعمسيس الثالث تُضيف إلى إعفاء الكاتب من الضرائب بأنواعها، صرف تموين للكاتب بحصة ثابتة من خزائن الدولة، يقتات منه ليتفرغ لعمله ولا تشغله مطالب الحياة عن القيام بمهمته المقدسة، وبعض الملوك زادوا على ذلك بمنح الكاتب مسكنًا.

بم تنصح كُتاب جيلنا؟

قال: «القلم سلاحك الذي وهبك الآله إياه وخصك به، وميز به مكانتك بين الناس، فاحتفظ به نظيفًا».

ما أروع كلماتك، فماذا تقول عن نيل مصر العظيم، الذي تحملنا مياهه الآن؟

نيل مصر هو هبة الحياة، على ضفتيه نشأت حضارة مصر، ومن غاب النيل أمسك الكاتب المصري، بأول قلم، ومن أوراق البردي النامية على ضفافه صنع الورق، ومن ريش الأوز السابح فيه، طور القلم، ومن عصارة نبات النيلة استخلص عصارة الحبر، كنّا نقسم للإله بأننا لم نلوث مياه النيل، لم نجعل إنسانًا يذرف دمعة، بنينا للحياة، حتى الموت كان عندنا بداية لحياة أبدية وبعث جديد وميزان عدل.

جدي، أشعر مع الكتابة بلذة، لا تضاهيها مُتعة في الحياة، هل من تفسير لذلك؟

قال: بني ألم تقرأ بردية «رع حُتب»، التي يصف فيها الكتابة؟! ألم يقل: «الكتابةُ تجعل الكاتبُ أسعد من امرأة وضعت طفلًا، فالكتابةُ كميلاد الطفل، تعوض الأم ما تحملته من آلام، في حمله وولادته، فلا تشُعر بأي تعب وهي تقوم لترضعه، وتعطي ثديها لفمه كل يوم، فرح هو قلب الكاتب الذي يزداد شبابًا كل يوم، فرحًا وهو يسترد أضعاف ما أعطى، من حبهم له وتعظيمهم له وتقديس أعماله». 

بُني: اقرأ برديات «تشتريتي»، فقد سرقها لصوص الحضارة، واحتجزوها في المتحف البريطاني، بها دون الحكيم «سُنب حتب»، وصاياه لابنه قائلاً: «ستزيدك الكتابةُ بما هو أجمل من ملابس الكتان، وعطور اللوتس، أن ما يخطه قلمك هو أعظم ميراث لا تعبث به يد الطامعين، وأثمن إرث في أرض ناحية الشرق، أو مقبرة ناحية الغرب، إن الكتابة مهنة مقدسة تقربك من الإله الذي منحك العقل، والقلم.. فغذاء العقل الذي تقدمه للناس باقٍ، أما غذاء البطون الذي يقدمه لهم الغير فلا يدوم».

رفعت عيني من الماء إلى السماء متضرعًا: أشكرك ربي لما وهبتني، أجمل عطاياك أبي الفلاح البسيط، الذي كان دائمًا ينصحني: ول وجهك نحو العلم، نحو القلم والورق، لا توله نحو الحقل، وأنا لك بعد الله ما حييت سندا.. رب ارحم أبي وأمي كما ربياني صغيرًا.

فجأة.. يد تهز كتفي، استيقظ يا أستاذ «إيه هواء العصاري لطشك، وأخذتك غفوة؟!».

لا يا مراكبي: بل صحوة.

 

 

[email protected]

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز