

بقلم
محمد هيبة
محنة الدستور القادم
12:00 ص - الثلاثاء 13 نوفمبر 2012
بقلم : محمد هيبة
«لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد.. والنعمة.. لك والملك.. لاشريك لك».
دعانى الله سبحانه وتعالى.. ومن علىّ أن كتب لى أن أحج إلى بيته الحرام.. دون سابق تجهيز أو ترتيب أو تخطيط.. وإنما هى النية الخالصة لله سبحانه وتعالى.. واستجاب الله لهذه النية.. فوجدت نفسى فى طريقى إلى الأراضى المقدسة أؤدى مناسك الحج أعظم الفرائض وأكثرها روحانية ومشقة.. تلك الفريضة التى تطهر القلوب والنفوس.. وتغفر الذنوب.. وتعيد الناس فى الدنيا كما خلقهم الله.. وكما ولدتهم أمهاتهم.
تركنا الدنيا وراءنا نبغى وجه الله الكريم.. نرجو الرحمة والمغفرة.. والعتق من النار.. أن يرحمنا فى الدنيا والآخرة.
تركنا الدنيا من ورائنا.. تركنا كل الهموم والأوجاع والآلام التى خلفتها الأيام السابقة من بعد ثورة عظيمة قمنا بها.. أعدنا بها كتابة التاريخ.. ونحن أيضا الذين قمنا بكتابة أسوأ نهاية لها.
تركنا الانقسام والتشرذم والتخوين والصراع بين كل القوى السياسية والدينية التى تسيطر على الساحة.. وتركت المعركة المحتدمة كالحريق حول دستور مصر القادم، ودعوت الله هناك فى الكعبة المشرفة أن يكشف عنا الغمة.. وأن يهدينا سبيل الرشاد.
هناك فى الحج ونحن نؤدى المناسك، تعلمنا ثقافة الاختلاف.. كل يحج بطريقته.. السنة.. الشيعة.. المذاهب المختلفة الآسيويون.. الأفارقة.. العرب.. العجم.. لكن لا أحد يكفر أحداً.. الأركان لا خلاف عليها.. فلا حج إلا بها.. لكن السنن والخطوات التى قيل إن النبى سار عليها.. كانت هناك خلافات بسيطة فيها.. وما كان مكروها فى السابق أصبح متاحا.. الدين يسر لا عسر.. أيام الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحج البيت بضعة آلاف من المسلمين.
والآن يؤدى الفريضة كل عام ما يقرب من خمسة ملايين حاج يكادون يؤدون المناسك فى آن واحد.. يطوفون ويسعون.. ويقفون على عرفة ويبيتون فى المزدلفة ويرمون الجمرات فى أيام التشريق.
لذلك كان التيسير على الناس.. فلا جناح أن يرموا الجمرات قبل صلاة الفجر.. ولا جناح أن يمتد وقت الرمى من بعد الزوال إلى فجر اليوم الثانى.. ولا جناح أن يجمع طواف الإفاضة والوداع فى آن واحد.. ولا جناح فى التعجل فى يومين.. ولكن بشرط ألا يمتد ذلك للمغرب.. ولاجناح أن تبيت خارج منى فى أيام التشريق.. فى النهاية علينا أن نؤدى الفريضة.. وأن نجتهد فى المناسك.. عسى أن يتقبل الله منا وأن يغفر لنا ويرحمنا وأن يعتق رقابنا من النار.
وهناك أعجبتنى بشدة التوسعات والتطويرات التى تحدث يوما بعد يوم وعاما بعد عام.. لا شىء يقف أمام راحة الحجاج.. كذلك النظام الشديد والسيطرة الهائلة رغم كل هذه الأعداد الكبيرة من الحجاج.. لأن عدم النظام معناه الفوضى.. وسقوط الكثير من الضحايا والقتلى.. ونحن بالتالى لا نشكو ولا نتذمر ولا نجادل ولا نحتج.. خمسة ملايين شخص فى بقعة واحدة يؤدون المناسك فى آن واحدة.. لكن الشىء الوحيد الذى هالنى هو هذا الكم الهائل من المخلفات والقمامة فى كل الأماكن التى ينزل بها الحجاج.. ورغم محاولات السلطات السعودية إزالتها بما لديها من إمكانات.. إلا أن الأعداد الكبيرة من الحجاج ومخلفاتهم أكبر من طاقاتهم وإمكاناتهم.
وعدت بعد أداء الفريضة.. وأنا مازلت منقطعا عن الدنيا.. وعما يحدث داخل مصر.. مازلت أعيش فى حالة السكينة والسمو الروحى من هذه الرحلة العامرة بالروحانيات.. ولكن تدريجيا وجدت نفسى أمام خطايانا التى نسيتها يوما بيوم، عدت لأجد مليونية تطبيق الشريعة.. الجماعات الإسلامية تنظم مليونية لتطبيق الشريعة.. تعجبت.. هو شعبنا.. شعب مصر أصبح شعبا كافرا جاءوا إليه ليعلموه الدين ويطبقوا عليه الشريعة.. أمال احنا كنا إيه؟ فى الحج.. التقيت بمصريين أكثر مما التقيت من أى جنسيات أخرى.. فنحن شعب متدين بالفطرة لكنى عدت لأجد الخناقة حامية وحريقة والعة على مسودة الدستور.. وصراع القوى المدنية.. والقوى الدينية.. قوى تدافع عن مدنية الدولة وعن الحريات والحقوق التى كفلها الدستور وكل القوانين الدولية.. وقوى أخرى تصر على العودة بنا إلى عصور الظلام وسيطرة الدين على الدولة.. نحن لا نخاف من سيطرة الدين على الدولة ولكن الخوف الأكبر أنهم سيطبقون الشريعة كما يرونها هم، وكما يفسرونها هم.. وهم ليسوا معتدلين وليسوا وسطيين.. والإسلام دين الوسطية.
القوى الدينية تحاول جرنا إلى بديهيات ومبادئ ثابتة منذ عقود طويلة.. وتحاول أن تعيدنا مرة أخرى إلى أن الخروج على الحاكم هو خروج عن الدين.. شوفوا الكارثة.. قمنا بثورة ضد الطغيان والظلم والديكتاتورية.. وهم يحاولون إعادتنا إليها تحت مظلة الدين.. الغريب أنهم يتهمون من وراء القوى المدنية والعلمانية بالكفرة.. وأنهم لايمثلون المصريين.
إن القوى التى تطالب بتطبيق الشريعة الآن وكأننا مجتمع كافر.. لابد أن تضع نصب أعينها أن المهمة الأولى لنا جميعا هى إعادة بناء الإنسان المصرى من جديد.. إعادة بناء الأخلاق.. وإرساء المبادئ والمثل العليا التى غابت عن مجتمعنا فى الثلاثين سنة الأخيرة وخربت كل شىء حلو فينا لدرجة أننا كشعب أصبح فى أسفل سافلين بسبب انعدام الأخلاق والمثل والمبادئ.. لا فرق فى ذلك بين مسلم ومسيحى.. وقد كان الجهل والفقر السبب فى ذلك.. انظروا إلى المجتمعات الغربية.. نحن متخلفون عنهم بأكثر من 300 سنة.. والسبب كما قيل قبل إنهم هناك إسلام بغير مسلمين.. ونحن فى مجتمعنا مسلمون بغير إسلام.. والدليل على ذلك أن الثورة التى قمنا بها.. وكان من المقرر أن تبرز أفضل ما فينا.. أظهرت أسوأ ما فينا كمصريين وأكدت أننا كنا نعيش فى مستنقع قذر.
إن محنة الدستور القادم الذى يحاولون كتابته وتمريره أنه يعيدنا لتكون الفجوة بيننا وبين العالم كله كالفجوة بين العصور الوسطى والعصور الحديثة.. لقد أخذونا وشغلونا فى معارك وهمية وبديهيات انتهينا منها منذ أكثر من مائة عام.. ومع ذلك يحاولون ردنا إلى الوراء حتى يستطيعوا السيطرة علينا.
إن أسوأ ما يحدث فى كتابة الدستور الحالى أنه يتم بأيدى أناس أقرب إلى القوى المدنية خاصة أنهم أساتذة فى القانون والدستور.. ولكن تم تسييسهم لصالح فئات معينة.. وتيارات بعينها وهم يحاولون من خلالهم تمرير أسوأ دستور ستشهده مصر.. ومهما كانت الحلول التى تطرح بأن يعيد الرئيس تشكيل الجمعية التأسيسية لتحقيق التوازن المطلوب.. فهم نسوا أن الرئيس جاء من جماعة الإسلام السياسى والتيار الدينى.. ولذا فلا أمل لو أسقطت الجمعية التأسيسية الحالية بحكم القضاء أن يعيد الرئيس التوازن الطبيعى للتيارات المختلفة إلى الجمعية الجديدة لو شكلت.
إن ما نعيشه الآن من صراع وحرب ضروس حول كتابة الدستور الجديد هو ما حذرنا منه منذ 20 شهرا.. ومنذ اندلاع الثورة وقيام الإعلان الدستورى فى 30 مارس 2011 وهو الذى أطال أمد المرحلة الانتقالية وعدم الاستقرار الذى نعيشه الآن.
مائة يوم وهم يحاولون كتابة مسودة الدستور.. ولم يفلحوا.. ومصر لن تتحمل مائة يوم أخرى بدون دستور.. والحل فى رأيى إما إعادة دستور 17 إلى العمل بالتعديلات التى أدخلت عليه فى استفتاء 91 مارس وإما دستور مؤقت نسير به عامين على الأقل.. وإن كنت أؤكد أنه فى حالة خروج دستور مؤقت.. فلن نستطيع كتابة دستور دائم قبل 5 سنوات.. وراجعوا التاريخ عندما صدر دستور 1964 المؤقت واستمر العمل به حتى وضع السادات دستور 17 الدائم.. أعيدوا دستور 17 حتى نخرج من محنة الدستور القادم.
تابع بوابة روزا اليوسف علي