عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
من مذكرات جورج بهجوري.. "جوجواه" "10"

في عيد ميلاده التسعين

من مذكرات جورج بهجوري.. "جوجواه" "10"

قال لي وهو مطأطئ الرأس: افعل ما تريد بالمرسم ولكن لا تمس السقف، أريدك أن تتركه كما هو، كلمات يائسة قالها وكأنه يودع قصة حبه القديم.



 

عثر له أصدقاؤه على مرسم جديد بشارع الدوفين، كان صاحب المرسم فنانًا مهووسًا اسمه «جوجواه». 

 

يجاور مرسم «جوجواه» في الدوفين والمازارين قاعة بائسة فقيرة ولكن لها عطرًا خاصًا، فمرورًا بالمخبز، «فلتس» حاملًا رغيف الخبز، وليست على طريق أو شارع وكان الأيقونة في كف يده ترشده للعنوان قاعة «فرانسواز برناردین» «Bernardin François» والمعرض به لوحات إنسانية لها مغزى كبير وسيدة القاعة كما «سارة برنار» «Sarah Bernhardt» في إحدى مسرحياتها جميلة، الوجه به أنف حادة قليلا ولكن بعيون واسعة تتطلع حول المعرض لتتفحص لوحاته، ولكن نظراتها الزرقاء تشق الجدار وترى شيئًا غائبًا ربما تتذكر ماضيها أو حياتها السابقة مع زوجها أو رجل عاشت معه. 

 

عندما دخلت القاعة تابعتني بشيء سحري، وبدأنا حديث طويل لم يكتمل إلا بأنها ستأتي إلى مرسم جوجواه الذي استأجرته، وترى أعمالي بعمق نادر وكأنها في خلوه مع كل شخص أرسمه في كل لوحه من البورتريه إلى العاري إلى الطفل في حواري مصر.

 

وتحدد لي معرض، ويصبح الممر المجهول الخفي عن أنظار المارة سوقا يكثر فيه صباح الباعة وثرثرة المتفرج وتبيع لفلتس بعض اللوحات وتعطيه بإخلاص كل فرنك يستحقه ويمتد العرض أسبوعًا جديدًا ويعاود فلتس زيارته فيرى مشهدًا متكررًا كل مساء.

 

السيدة القديمة التي تحمل سر الحضارات القديمة في مظهرها الجميل، تحتفظ بزجاجة نبيذ أبيض تحت مائدة مكتبها تصب في كأسها لنفسها من الحين إلى الآخر، وتبتسم في وحدة كأنها ترقص في حفلة، ويأتي إليها تباعًا كلوشارات الحي يحيونها بكلمات غير تقليدية ولكنها تبعث الضحكة والغمزة والصداقة فيصبح أمامها على مكتبها الصغير وسط لوحات فلتس عدة كؤوس تصب لكل واحد منهم فيشربون ويضحكون ويعاودون عبارات الثقافة الرخيصة... ليس ما كان أفضل مما كان... الفن الكبير يأتي من حزن كبير... أنا أبحث لأنني أجد... أنا لا أرسم ما أراه... أنا أرسم ما أعرفه... النجاح للنصاب والمحتال أولًا... أحبك لأنك تعيش بجوار اللوفر.

 

يأخذ فلتس في اليوم الأخير بقية لوحاته التي لم تبع، ويدير ظهره للقاعة وللسيدة التاريخية التي تحمل في مظهرها تاريخ مسرح فرنسا، وتعود لوحاته إلى مكانها تحت السرير.

 

الأيقونة تكرر شراء رغيف الخبز ونسيانه طيلة النهار والليل أثناء إبداعه دون غذاء، وراح في كفه تضح له الخلق الفني المستمر، وتتضاعف كل يوم لوحاته وتزداد نورا في اللون والتون والبسمة الحزينة وهي منتصف الضحك والبكاء، يشعر إزاء كل تعبير في الوجه عن العدل والاكتفاء... ويضاعف أيضا عدد أرغفة الخبز الطويلة الناصعة الأصفر، عندما يقترب من احتراقه ليصبح بنيا والخباز الماهر يلتقط عصا الخبز وهي في أعماق أعماق الفرن حول النار، والنار حوله تعطيه الوهج فقط، دون أن تلمسه، فتصبح عصا الخبز نورًا بذاته من لون الحنطة التي في الحقل قبل طحنها.

 

في كل مرة يتطلع فلتس إلى وجه الخباز وزوجته ودقيق الأبيض حول وجهه ويديه وخدوده وأنفه أحيانا يشعر بأنه أمام لوحة «النقاء والخلاص»، وإذا تابع وجه زوجته التي تشاركه العمل والبيع، تبدو لوحة أخرى أنها حولت الأبيض إلى الوردي.

 

وأضافت كأي قروية كمية كبيرة من أحمر الشفاه لمواجهة الجمهور والطابور المتواصل صباحًا مساء وهي تقول ألف مرة يوم سعيد أحبكم... في الصباح وتقول في المساء... بعد ظهر جميل... سهرة طيبة... أحبكم.

 

الرغيف أمامه دون أن يلمسه، ينضم إلى عدد كبير منهم منذ مدة طويلة، فيصبح جافًا كما العصا المعدنية أو الخشبية... إلا أن ألوانه تتغير فتصبح قاتمة بعد الإشراق، وملمسه يزداد جفافًا ولونه يصير أكثر احتراقًا وقدمًا، وكأنه جزء من أثاث الغرفة. شعور بالاطمئنان هائل لديه لأنه يشعر بأنه طالما امتلك هذا العدد الكبير من عصا الخبز لا يفكر في الجوع يوما. 

 

رغيف الحصا في بيته الباريسى- باقة زهور- تعطيه الإيمان بعدم الحاجة إلى ثمن الغذاء إنه يختار حياة جديدة باختياره، ومنفى دائم بكل رغبته، ويستمع إلى أنين أيقونته في كفه.

 

ويدرب أصابعه على خطوط جديدة في كراسته اليومية... إنه يتخطى تعاليم الأقدمين بإرادة قوية، يقضم فطيرة الكريب على الناحية أو قطعة الفريت الساخنة في المطعم ويعود من جديد جنينا في رحم اسمه باريس. 

 

وعندما يعود إلى اللوحة لا يجد قماشًا ليرسم عليه، فيصحبه زميله «عنتابي» للهبوط إلى سلة المهملات، وقد رمى فيها صاحب المرسم الذي استأجره منه قماش لوحاته القديمة ليرسموا عليها من جديد أو على الجانب الآخر من التوال.  

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز