

د. داليا المتبولي
مصر لا تقايض العبور بالابتسامة.. هذا زمن الكرامة لا المجاملة
لم تكن قناة السويس مجرد ممر، كانت دائمًا امتحانًا مستترًا للعزة، ومسطحًا مائيًا يختبر المعادن قبل أن يختبر السفن. حين ظنّ البعض أن بإمكانهم المرور مجانًا، لم يكن السؤال عن المال، بل عن الكرامة.
تلك الكرامة التي تُصقل بماء النيل وتُروى بعرق من حفروها بأظافرهم، لا بماء المانغو في صفقات رجال الأعمال.
ترامب، ذلك الذي أتى من أبراج الذهب وخرائط الصفقات، حسب أن مصر ستفرش له القناة سجادة بلا فواتير. تخيّل أن البوارج الأمريكية، الموشّاة بنجوم الرغبة والهيمنة، ستمر وكأنها في نزهة بحرية بين يختين خاصين. ولم يخطر بباله أن لهذا الممر حراسًا لا يبيعون الذكرى، ولا يقايضون الشرف بالودّ السياسي.
لم تكن إجابة الرئيس عبد الفتاح السيسي طويلة، لا تحتاج إلى خطابة. كانت تشبه تلك "اللا" التي يقولها الفلاح حين يُطلب منه بيع فدان من الأرض دُفن فيه جده. بسيطة في نطقها، عميقة في دلالتها: "لا عبور مجانيا" لا لأن الدولة محتاجة، بل لأن الكرامة لا تُعبر بالمجان.
ولعل ترامب، كعادته، لم يفهم الفارق بين الشطارة والهيبة. ظن أن العلاقات الدولية تُدار بمنطق الخصم الموسمي. لكن الرئيس السيسي، الذي لا يرفع صوته إلا حين يسكت الآخرون، أدرك أن التاريخ يُصنع من وقفات صغيرة في لحظات يظنها البعض تفاهات. موقف القناة لم يكن ضد أمريكا، بل ضد فكرة أن السيادة يمكن أن تُقصّ بمقص المساومة.
وما إن عاد الرئيس السيسي للمنصة، هذه المرة من بغداد، حتى بدا وكأنه يُكمل الجملة. لم تكن قمة العرب إلا ساحة أخرى لقول الحقيقة. فلسطين لم تكن شأناً جانبياً، بل لبّ كل شأن. من يساوم على العبور في القناة، يساوم لاحقاً على عبور الجيوش إلى القدس. ومن يتساهل في دفع ثمن الطريق، يتساهل في دفع ثمن الدم. وهكذا، كانت الكلمة المصرية أكثر من خطاب، كانت بلاغًا للضمير العربي، وجرس إنذار في وجه من يتعمد الصمت.
الرئيس السيسي، وهو يُعبّر عن موقفه، لم يكن يستعير نبرة خطيب، بل يسترجع صوتًا قديمًا يسكن كل من سار في شوارع القاهرة القديمة، وكل من عاش في ظل جيلٍ عَرف فلسطين كقضية، لا كخبر عاجل. لم تكن لغته متعالية، لكنها حملت غضب من لا يقبل تكرار المهزلة، وسخرية من يدرك أن بعض الحلفاء لا يفرّقون بين النُبل والنَفْع.
ترامب، في عالم آخر، قد يكون شخصية من مسرحية عبثية، يُلقي النكات في حضرة المآسي، ويرتبك حين يُطالبه أحدهم بفاتورة. لم يفهم، ولن يفهم، أن قناة السويس لم تُفتح ليجري من تحتها ماء السياسة الفاسد، بل لتُعيد تعريف من يستحق أن يمر، ومن عليه أن يتوقف.
في الخلفية، كانت مصر تُعيد تشكيل موقفها، لا كما تفعل الدول الصغيرة التي تغيّر رأيها كل موسم، بل كما تفعل الجبال حين تهتز لتذكّر الأرض بمن عليها.
رفض العبور المجاني لم يكن دفاعًا عن اقتصاد القناة، بل دفاعًا عن معنى السيادة. والسخرية ليست في الطلب، بل في أن من طلبه كان يظن أنه فوق الطلبات، وأنه حين يبتسم، تبتسم القارات.
في بغداد، كانت الكلمة أكثر وضوحًا، فخامة الرئيس السيسي لم يتحدث فقط عن فلسطين كقضية، بل كاختبار. كأنما يقول للعرب: من ينجح في اختبار القناة، قد ينجح في اختبار القدس. ومن يراوغ في موقفه تجاه الاحتلال، لن تثبت قدمه على أي أرض طاهرة. كانت فلسطين في خطابه ليست عنوانًا قديمًا يُستدعى كلما ضاقت الخطب، بل حجر الأساس لأي بيت سياسي يُبنى من جديد.
وفي الوقت الذي يُراهن فيه البعض على النسيان، خرج الموقف المصري تذكيرًا بأن الذاكرة لا تزال حية. أن الأوطان لا تُدار بمنطق القروض، ولا تُختزل في اتفاقيات تقبل القسمة على اثنين. أن القضية لا تزال كما هي، حتى إن تغيرت وجوه اللاعبين، وتبدّلت أسماء الحلفاء.
فحين يتحدث الرئيس السيسي، لا تسمع صوت رجل دولة فقط، بل تسمع خلفه أنفاسًا جماعية لأمة سئمت الخداع، وتعبت من التحايل باسم السلام. لم يكن الموقف المصري موقفًا من شخص، بل من فكرة. من زمن يحاول أن يجعل كل شيء قابلًا للتفاوض، حتى الأوطان.
وها هو ترامب، بعد أن خرج من البيت الأبيض، لم يعد يملك حتى منصة، بينما ظل صوت مصر يُسمع من بغداد إلى نيويورك. لا يحتاج إلى مؤثرات صوتية، بل إلى موقف واحد يكفي لتتضح الصورة: إن من أراد أن يمر، عليه أن يدفع، لا فقط المال، بل الاحترام.