

جيهان ابو العلا
المنوفية وسر ظاهرة الأوائل
المنايفة كما يطلق على أهل المنوفية تراهم هذه الأيام أشد الناس زهواً وفخراً بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة وتصدرآبنائهم مشهد الأوائل بحصول 6 طلاب على المراكز الأولى بين المتفوقين على مستوى الجمهورية وهذه ليست المرة الأولى فهى ظاهرة متكررة تعكس اهتمام بل حرص الأسرة فى المنوفية على دعم التعليم والاهتمام بالتفوق لدرجة أن هناك واقعة متداولة وليست نكتة لأم ضربت ابنتها الحاصلة على 98% كيف أضاعت 2% من نتيجتها!! الأسرة المنوفية تنفق كل ماتملك حرفياً لتعليم أولادها فقد شاهدت فيديو على أحد المواقع الأخبارية عقب النتيجة لأسرة طالب من المنوفية يجلسون على الأرض بين أربعة جدران من الطوب الأحمر بدون أثاث ولديها أربعة أولاد اكبرهم فى كلية الهندسة والثانى كان أملها فى الثانوية العامة ولكن وقعت الطامة الكبرى على رأسهم بحصوله على 55% فقط بعدما كانوا ينتظرون نتيجة تفوق الـ90% وحكى الأب كيف أنهم مدينون بحق دروسه الخصوصية والأم تقول بحسرة شديدة (رجعوا لى حق ابنى اللى تعب وشقى وحد تانى خد حقه)! فهى لا تصدق أو تتخيل أن ابنها من الممكن ان يحصل على هذا المجموع الضعيف.
والسؤال الذي يراودنا جميعا ماالسرفى حالة التهافت أو الشغف التعليمى التي تتمتع بها كل الأسر فى المنوفية فهى لاتعد من المحافظات الغنية حسب التنصنيف الأقتصادى للمحافظات المصرية.
وايضًا لماذا المنايفة فى الصفوف الأولى سواء فى التعليم و فى المناصب العليا كمستشارين وقضاة ولواءات بل ورؤساء جمهورية أيضا! وفي الوظائف المتميزة كأطباء ومهندسين وصيادلة.. بحثت كثيرا لتفسير تلك الظاهرة.. ظاهرة حب المنايفة الشديد للتعليم والتفوق.. وبدأت من موقعها وتاريخها الإنساني.
فموقعها الجغرافى المتميز فى الدلتا بين فرعى دمياط ورشيد جعلها محافظة زراعية وصناعية وتاريخياً أيام الفراعنة كانت تسمى المنوفية (بيت الذهب) وهب مدينة فرعونية قديمة اسمها "بير نوب" أي بيت الذهب حيث كان يوجد بها مناجم للذهب ثم أصبح اسمها القبطي "بانوفيس" وبعد الفتح الاسلامى لمصر قلبت الباء ميم فى اللغة العربية فأصبحت "مانوفيس "ثم أصبحت تنطق بالعامية "منوف" اختصاراً لاسم "مانوفيس" وظلت منوف عاصمة لإقليم المنوفية منذ الفتح الاسلامى حتى 1826 ثم نقل محمد على العاصمة من منوف إلى شبين الكوم.
ورغم تميزها التاريخى والجغرافى فإن الحياة الاجتماعية والتعليمية لم تختلف عن باقى المحافظات فقد كان التعليم فى هذا الوقت حكراً على القادرين أما الكادحون والفقراء فلم يكن متاحاً لهم وكانت فرص التعليم قليلة وشاقة الى أن ظهرت فى حياتهم جمعية (المساعى المشكورة)حاملة لواء العلم والتنوير فى المنوفية والتي غيرت من فكر ووعى وسلوك كل بيت منوفى، حيث زرعت فيهم الأمل والطموح وحب الخروج من دائرة الفقر والجهل إلى دائرة التنوير وتمسكت الأمهات بتعليم بناتهم وأولادهم.
فلم يكن بالمنوفية حتى أواخر القرن الـ19 سوى الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم والتأهيل للالتحاق بالأزهرالشريف، ومدرسة ابتدائية وحيدة فى مدينة شبين الكوم وكان الانتقال اليها شاق جداً على التلاميذ.
فبادربعض كبار ملاك الأراضى الزراعية بالمنوفية عام 1892 وعلى رأسهم محمود باشا حسين وقرروا إنشاء جمعية أطلقوا عليها اسم "المساعي المشكورة " ومقرها شبين الكوم، الهدف الرئيسى من إنشائها نشر التعليم لإتاحته للكادحين والفقراء الذين يستحيل عليهم الاغتراب طلبا للعلم.
وتولى محمود باشا رئاسة الجمعية، واكتتب كبار ملاك الأراضى الزراعية بالمنوفية فى شراء ألف فدان وتم وقفها للمساندة فى خدمة التعليم فى ربوع المحافظة ، فكانت الجمعية صاحبة ثانى مدرسة ابتدائية للبنات على مستوى الجمهورية، وخامس مدرسة للبنين إلى أن أصبح لها فى كل مركز من مراكز المحافظة مدرسة.
وافتتحت مدرسة البنات الابتدائية بشبين الكوم 1899 فى مجتمع زراعي تحكمه تقاليد صارمة تحد من حركة الفتاة، وكانت الدراسة بهذه المدرسة داخلية ، فكانت المدرسة الثانية لتعليم الفتيات فى مصر كلها بعد المدرسة السنية التي أنشأها الخديو إسماعيل بالقاهرة.
وفى 1904 افتتحت الجمعية مدرستها الثانوية للبنين بمدينة شبين الكوم . لاستقبال تلاميذ المدارس الابتدائية الخمس التابعة لها . فكانت هذه المدرسة هى الخامسة على مستوى الدولة وكان لهذه المدرسة دور بارز فى تأهيل المتميزين من طلابها للالتحاق بالجامعة المصرية منذ كانت جامعة أهلية.
وقد بلغت نسبة التلاميذ عام 1907 فى مدارس الجمعية الابتدائية 15% من مجموع تلاميذ هذه المدارس على مستوى الدولة وبلغت نسبة التعليم فى المدرسة الثانوية 11% من مجموع الطلبة فى مدارس مصر كلها.
وظلت مدارس الجمعية وحدها حاملة لواء التعليم والتنوير على أرض المنوفية دون منافس حتى منتصف ال40 من القرن العشرين ، إذ لم يكن للدولة حتى ذلك الحين ـ بمواردها المحدودة فى ظل الاحتلال البريطانى ـ مدرسة ابتدائية أو ثانوية على أرض المنوفية ، وعندما أخذت الدولة بنظام مجانية التعليم عام 1950 ، تنازلت جمعية المساعى المشكورة عن المدارس إلى وزارة المعارف العمومية عام 1958 بغير مقابل وكل ما اشترطته فى عقد التنازل أن تبقى المدارس حاملة لاسم المساعى المشكورة ولم تتخل الجمعية عن أهل المنوفية بل ظلت تمارس أدواراً هامة أخرى تساند بها الوزارة فى تعليم وتغيير البيئة المنوفية مثل إنشاء المدارس والتبرع بالأراضي لهيئة الأبنية التعليمية ورعاية الطلبة الأيتام والمحتاجين بجامعة المنوفية.
وهكذا لعبت جمعية المساعى المشكورة دوراً اساسياً فى زرع قيمة وأهمية العلم والتعليم لدى كل الأسرة المنوفية بتغيير المفاهيم والوعى وتقريب المسافات والاحتياجات فتوارثت الأجيال حب العلم والتميزوالسعى للأفضل فى التعليم والعمل.