

د. رانيا يحيي
معرض بابلو بيكاسو بروما
تعلمنا أثناء دراستنا بالكونسيرفتوار تذوق جميع أشكال الفنون، وكيف نقرأ اللوحة التشكيلية ونتذوقها، بل ونستنطق إيقاعاتها اللونية، ونسمع صداها بأعيننا، ودائماً ما أتذكر العنوان العبقرى الذي وضعه رائد الثقافة المصرية الحديثة الدكتور الراحل ثروت عكاشة على أحد مؤلفاته القيمة «العين تسمع والأذن ترى» فتوقظ بداخلى أحاسيس ومشاعر متدفقة، ومن حبى للفنون عامة أحرص دائماً على زيارة المعارض التشكيلية لإيمانى بما يمكن أن تحدثه فى الذائقة الشخصية وتربية العين على الجمال، فزرت معرضاً للفنان الإسبانى الشهير بابلو بيكاسو بالعاصمة الفرنسية باريس، تضمن ثلاثة طوابق تنضح بإبداعات متفردة، فتتملكك متعة حسية وروحية من تلك الموهبة التشكيلية المتعددة الجوانب.
وما أن سمعت عن معرضه بروما الذي أقيم خلال الفترة الماضية، فكنت شديدة الحرص ألا أترك تلك الفرصة من الجمال البصرى والاستمتاع بأعماله، وكانت صحبة الزيارة مع أحد الأصدقاء الفنانين الذين يتمتعون بحس فنى رصين، وإبداع متجدد فكان للزيارة وقع خاص على تلك المشاهدة بروح الفنان التشكيلى، لنرى ونسمع معاً أعمالًا بديعة، ولوحات متميزة، حيث يضم المعرض ما يقارب المائة عمل فنى ما بين لوحات، رسومات، منحوتات، وأعمال خزفية مصحوبة بوثائق، رسائل، صور وفيديوهات، تصل بالزائرين إلى تجربة متكاملة لعالم بيكاسو الفنى المتفرد.
وتطرقت بعض الأعمال لحياته الفنية فى روما إلى جانب عباقرة مثل جان كوكتو، إريك ساتى، سيرجى دياجييف، وليونيد ماسين، وبدا فى بعض الأعمال تميُّز المدرسة التكعيبية فى لوحاته التي تعتبر وسيلة داخله لفهم الواقع بفهم مبتكر، كما ظهرت تعددية أساليبه بين الكلاسيكية الجديدة والسريالية والتجريدية التي تؤكد رفض بيكاسو للجمود الفنى، بل ويتضح من خلال بعض الإبداعات تفكيك الأشكال وإعادة بنيتها من زوايا متعددة، فيمنحها فلسفة أعمق من فكرة المحاكاة البصرية.
ولم يكن هذا الفنان العميق روحياً وفكرياً بعيداً عن الهموم الحياتية والإنسانية، بل حمل هموم الإنسان الاجتماعية والسياسية على كاهله، وعبر عن آلام البسطاء والمحتاجين، ونبذ العنف والحروب والدمار، فجسد أوجاع البشر معبراً عن الحزن والوحدة واليأس، وكانت ألوانه أداة حية للتعبير النفسى والوجدانى، ومحطمة للتقاليد السائدة فى حينها، فكان المجدد والمتحرر من كل قيد، وكسر الحواجز الجامدة بين كل مدرسة أو أسلوب. ويظل اسم بيكاسو واحداً من أشهر الفنانين عى الإطلاق حتى بالنسبة للعامة وغير المتخصصين، ومهما ننهل من إبداعه فنجده دوماً متخطياً كافة الحدود معبراً عن الإنسان فى تجرده ومشاعره وأحاسيسه فى المطلق. إنه الفن الحقيقى الذي يتجاوز الزمن ليبقى تأثيره أعم وأشمل وأنضج من أن نقصره داخل قولبة فى ذاتها.
إن هذا المعرض خوض فى دائرة الانتماء والهوية البصرية، تعبيراً عن قدرات وإمكانات لا نهائية لبيكاسو الإنسان قبل الفنان، معلناً التطور والتجدد اللا نهائى.. متعة حسية فى قلب روما وفى واحد من أهم وأشهر شوارعها الجميلة، مع متعة الصحبة الراقية والخبرة الفنية الاستثنائية.
يمنح المعرض الزائر فرصة استثنائية لفهم بيكاسو ليس فقط كفنان ثورى، بل أيضًا كشخص عاش حياة مزدوجة بين العظمة والغربة.
المشى فى أروقة Palazzo Cipolla خلال هذه التظاهرة يعيد كتابة العلاقة بين الفنان والمكان بين الوطنية والهامش الثقافى. إنه دعوة للتعلّم والانفتاح، بكل تفاصيل الفن والتاريخ التي يقدمها هذا المعرض الفريد فى روما.
نقلًا عن مجلة صباح الخير