عاجل
السبت 13 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
السنبلة ورجال القش

السنبلة ورجال القش

كلما أشعر بالضيق أهرول نحو محمود درويش.. أفتش في أبياته عن المعنى الغائب، لكنني في كل مرة أزداد حيرة، يدخلني متاهة جديدة، يفتح لي أبوابًا لا أعرف كيف أغلقها.



"لا الرحلة ابتدأت، ولا الدرب انتهى".. بهذا البيت وضعني في بحر من التيه.. تيه وغربة أعيشها منذ سنوات، أبحث عن معنى للرحلة، عن بابٍ للخروج، لكنه يظل مؤجلًا، مؤصَدًا، وكأن الحياة كلها محطة انتظار طويلة بلا بداية واضحة ولا نهاية أكيدة.

تيه يزداد كلما قابلت "رجال القش" الذين تحدث عنهم الشاعر الإنجليزي "إليوت"، هم ليسوا خيال مآتة، لكنهم أجساد تتحرك في الفراغ، لكن بلا روح حقيقية أو معنى، وقلوب تخفق على إيقاعٍ آلي لا يعرف الدهشة ولا الخوف ولا الحب، حينها أدرك أن الغربة ليست فقط في البُعد عن المكان، بل في السير بين عابرين يشبهون الظلال أكثر من كونهم بشرًا.

جلست في مؤخرة الأتوبيس كعادتي، أراقب الوجوه المتعبة التي غطاها صمت ثقيل.. إلى جواري أب يتحدث مع ابنه الشاب بصوت مرتفع، يوبخه لأنه لم يحقق ما كان يتمنى له، والابن يشيح بوجهه إلى النافذة وكأن الكلام لا يعنيه، بدا الحوار باردًا، بلا دفء ولا حنان، كأن الأب يكلم غريبًا التقاه صدفة في الطريق.

أدرت وجهي إلى النافذة، فرأيت مشهدًا آخر: امرأة عجوز تحمل أكياسًا ثقيلة، تمر بجانب شابين يقفان على الرصيف، يتبادلان الضحك دون أن يخطر ببال أحدهما أن يساعدها، عندها أيقنت أن الغربة أيضًا في انقطاع الروابط التي كانت تجعل البشر أكثر رحمة ببعضهم.

 

مرّت بخاطري أسئلة كهمس الريح: لو كنت مكان ذلك الشاب، هل كنت سأحتمل مرارة العتاب؟ ولو كنت مكان الشابين، هل كنت سأمد يدي لتلك العجوز؟، أسئلة صغيرة لكنها كشفت لي أن في أعماقنا جميعًا ظلًّا لرجل القش، يتربص بنا من حيث لا ندري. وأتساءل: كيف ظهروا في وادينا الطيب بكل هذه القسوة؟، كأنهم لا ينتمون إلى التراب الذي نشأنا عليه، ولا إلى الحكايات التي تربّينا على دفئها.

جاؤوا غرباء، بلا ملامح ولا جذور، يحملون قسوتهم كما يحمل رجل القش فراغه، وحين يعبرون حياتنا يتركون وراءهم رمادًا لا زهر فيه، وصدى أسئلة لا جواب لها.

لن أكون مثل دون كيخوته، الفارس الحالم الذي قاتل طواحين الهواء ظنًّا أنها عمالقة، فأهدر جهده في معارك وهمية، لن أبدّد طاقتي في محاربة رجال القش، ففى حياة كل منا الكثير منهم ، سأكون ما أريد، فالناس تغيّرت، صارت الإنسانية مجرد شعار مكرر بلا أثر حقيقي، كل واحد منشغل بنفسه ومصلحته، لا يلتفت لمشاعر غيره ولا يكترث لوجع أحد، يتعاملون مع القلوب كأنها حجارة ملقاة على جوانب الطريق، يمنحون أنفسهم الحق في قذفها وسحقها، لذا صارت العلاقات خفيفة كالغبار، سرعان ما تتناثر، ومع أول مصلحة تنتهي، لم يعد السؤال عنك بدافع المحبة، بل بدافع الحاجة، ولم يعد الوقوف بجانبك إلا إذا كان هناك مقابل، كأن القلوب أُغلقت، وصارت الروابط بين البشر أشبه بصفقات مؤقتة، تنتهي بانتهاء المنفعة.

أصدق درويش حين يقول: "وأشهد أن الزمان يخبئ لى سنبلة، تعوضني، تمنحني الأمل كي أكمل الطريق.. "سأصبر يومًا ما أريد"، وأقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة ليس من بينها "رجال القش".

قد يملأ رجال القش الطرقات، لكنني ما زلت أؤمن أن سنبلة واحدة كافية لتكسر صمت الحقول.”

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز