عاجل
الثلاثاء 23 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
شماعة للبيع

شماعة للبيع

على جدار حياتنا رف طويل نعلق عليه ما لا نحتمل: هزيمة صغيرة، كسرة قلب، فشل، حلم مؤجل.. كلها مُعلّقة كمعاطف قديمة تنتظر الاعتراف.



 

الشماعة صارت أكثر أمانًا بالنسبة لنا من المرآة، فهي لا تكشف وجوهنا بل تخفيها، ولا تطلب الحقيقة بل تمنحنا ترف العذر.

 

الغريب إن الشماعة "عمرها ما اشتكت"، مع إننا حملناها أكتر من قدرة هرقل نفسه، وصدقنا إنها من لحم ودم، وإنها مسؤولة عن كل كبواتنا.. الأمر وصل لدرجة أننى تخليت أنها تتحدث وتطلب منا أجازة مريضة حتى مرتاح.

 

المشكلة أننا نتناسى عن عمد أن الشماعة لا تحملنا نحن، بل نحملها معنا حيث نذهب، كظل ثقيل يذكّرنا كل مرة: الخطأ لم يذهب، هو فقط ينتظر اعترافا.

 

أنا لست فيلسوفا كـ"سقراط" حتى أقول إن الاعتراف بالجهل هو بداية الطريق إلى الحكمة، فالشجاعة في الاعتراف بالتقصير أهم من التظاهر بالمعرفة.. كما أنني لست ممن يفتشون عن "شماعة" يعلقون عليها أسباب فشلهم فيهربون من مواجهة أنفسهم، أنا ممن يرون أن الاعتراف بالخطأ لا يقلل من قدر الإنسان، بل يرفعه، لأنه يملك الشجاعة لقول الحقيقة في وقت يفضل فيه الآخرون الاختباء خلف أعذار واهية.

 

والسؤال الأبدي الذي يظل يطاردنا طول الوقت: "مين فينا الغلطان؟".

 

غالبا ما تتحول الإجابة عنه إلى جدل لا ينتهي، - يشبه خناقة في طابور العيش- جدل يحتاج إلى قوة هرقل، وصبر وإصرار سيزيف، وشجاعة أخيل، وقليلون منا يملكون هذه القدرة ليحسموا هذا الجدل ويقولوا بوضوح: "آسف".

 

والأمثلة كثيرة: موظف يتأخر في إنجاز عمله، نجده يقدم المبررات: السيستم واقع، ضغط العمل، قلة الإمكانات، أو حتى زملاؤه.. الطالب الذي قضى عامه الدراسي على المقهى ومشاهدة التيك توك بحثا عن كود سري للغش، وحين رسب يصرخ أمام الجميع يردد في ثقة أن الامتحان كان مؤامرة كونية ضده.

 

وأتذكر أنني تأخرت يوما عن ميعاد مهم، قضيت نصف ساعة أحمّل الزحام المسؤولية، بينما الحقيقة أنني أضعت وقتي أبحث عن شراب ضائع وأنا أحمل كوب شاى بارد. لحظتها ابتسمت بسخرية قائلا: نحن بارعون في صناعة الأعذار أكثر من البحث عن الحلول، وصدقونى حتى الطقس عندنا اتهمناه مرة أنه السبب في فشل علاقتنا العاطفية: "مش بتعمل كده أحيانا؟ تعلق غلطك على أي شماعة قريبة؟".

 

هذه الأمثلة الصغيرة تعكس نمطا أكبر، هو هروب الإنسان من مسؤوليته، حتى يظل ضميره مرتاحا، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة، فتظل غائبة.

وأعترف أنني في لحظات كثيرة علّقت أخطائي على شماعات جاهزة: مرةً على ضيق الوقت، ومرة على الظروف، ومرة على الآخرين، كنت أظن أن ذلك يخفف عني عبء الشعور بالذنب، لكنه في الحقيقة كان يزيده ثقلا– يا إلهي، كم خدعت نفسي-، الغريب أن الاعتراف نفسه حين جربته لأول مرة لم يكسرني كما توقعت – مازلت احتفظ بالورقة التي كتبته بها-، بل جعلني أتنفس بعمق، ومن هنا أدركت أن الحقيقة ليست دائما جميلة، لكنها دائما محرّرة.

 

البعض يتعامل مع التبرير وكأنه تعويذة سحرية تبرئه من المسؤولية، فيردد أعذارا لا تنتهي: "الظروف، الناس، الحظ السيئ".. وهو في الحقيقة يقوم ببناء أسوار وحصون من التبريرات حول نفسه، يظن أنها تحميه، لكنها تعزله أكثر عن الحقيقة، وتحبسه داخل دائرة مغلقة من الأعذار.. هذه التعويذة الزائفة تخدر الضمير لحظة، لكنها تترك صاحبها غارقا في الخطأ نفسه.. أما الاعتراف بالخطأ، فهو التعويذة الحقيقية التي تحرر الإنسان، وتفتح أمامه طريقًا جديدا يبدأ بخطوة شجاعة واحدة، قول: "أنا المخطئ".

 

والمفارقة أن من يعترف بخطئه يتحرر منه سريعا، وكأن سيزيف تخلص من صخرته، أما من يرفض الاعتراف، فيبقى أسيرا لخطئه، يحمله معه أينما ذهب، فالإنكار هنا يشبه أخطبوطا ضخما، كلما حاول صاحبه الخروج إلى النور جذبه من جديد نحو القاع، حتى لا يرى ضوء النهار أو يسمع أصوات الحياة من حوله: نداء الباعة، وضجيج المارة.

 

الأمر هنا لا يقف عند الأفراد فقط، بل يتسع ليشمل المجتمع بأسره.. حين يخشى الناس مواجهة الحقيقة، تنتشر ثقافة التبرير، ويضعف الإحساس بالمسؤولية، وتتراجع المنظومة الأخلاقية التي تحفظ تماسكه، فالمجتمع الذي يعلّق فشله على شماعات جاهزة، يعيش داخل دولاب ضخم من الأعذار.

 

 الشجاعة الحقيقية ليست في أن نبدو دائما منتصرين، بل في أن نعترف حين نهزم، ونواجه حين نخطئ.

 

إن استعادة قوة المجتمع تبدأ من قيم بسيطة: الصدق، وتحمل المسؤولية، والاعتراف بالخطأ، فالفرد الذي يملك الشجاعة ليقول "أنا المخطئ"، هو نفسه الذي يستطيع أن يتجاوز أزمته ويبدأ من جديد، والمجتمع الذي يتبنى هذه القيم يصبح أقوى في مواجهة أزماته، فالخوف الذي يجعلنا نهرب من مواجهة أخطائنا، هو نفسه الذي يسرق منا قوتنا، أفرادًا ومجتمعا، فلنجعل من الاعتراف بالخطأ بداية لانتصار أكبر: انتصار على خوفنا، على أعذارنا، وعلى القيود التي صنعناها بأنفسنا.

 

خطر ببالي أن يجيء يوم تصبح فيه الشماعة سلعة نادرة، ويُعلن عن مزاد لاقتناء واحدة.. وقتها لن أشارك، سأحتفظ بما هو أثمن: شجاعة الاعتراف، فالشماعة تُباع وتُشترى، أما الشجاعة فلا يملكها إلا من يجرؤ على قول الحقيقة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز