محمد عاشور
فلسفة التطوير
يولد التطوير في لحظةٍ لا تُقاس بالوقت، بل بالشعور؛ اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان أن ما بين يديه لم يعد يليق بما يحلم به. هناك — في المسافة الرفيعة بين الرضا والطموح — تبدأ شرارة التحوّل بلا صخبٍ ولا إعلان، إنما هي ومضةُ وعيٍ هادئة تقول لك: حان الوقت لتعيد تشكيل نفسك.
التطوير ليس شعارًا، ولا خطوةً تُتَّخذ تحت ضغط الظروف؛ إنه لحظة صادقة نعيد فيها ترتيب أنفسنا، ونمنح أفكارنا مساحةً كي تنضج وتتنفّس. حين يدرك الإنسان هذه الحقيقة، يفهم أن أول الطريق ليس في تغيير العالم، إنما في تهذيب الذات؛ وفي شجاعة الاعتراف بأن ما كان صالحًا بالأمس لم يعد كافيًا اليوم.
قال الملك المصري القديم أمنمحات الأول لابنه سنوسرت، وهو يسلّمه مفاتيح المُلك:
"الذي يبني على يقظةٍ يبقي ملكه، والذي ينام يهدم ما بناه."
ليست تلك وصيةً في الحكم فحسب، بل قانونٌ حياة؛ فالتطوير يقظةٌ دائمة، وبصيرةٌ ترى أن قيمة الطريق في الاستمرار، لا في سرعة الخطوات. فالكمال رحلةٌ نتهيأ لها كل يوم. وفلسفة التطوير لا تُقاس بالقوة، بل بقدرة الإنسان على التواضع أمام اتساع العالم، وأن يستيقظ كل صباحٍ كما لو أنه يبدأ من جديد.
ولعل أعظم ما في التطوير أنه امتحان للصبر قبل أن يكون استعراضًا للإنجاز؛ فالتحوّلات الكبرى لا تصنعها الضوضاء، بل التراكم الهادئ، واليد التي تعمل حتى حين لا يراها أحد.
إن الأمم — مثل الإنسان تمامًا — لا تُقاس بقفزاتها المفاجئة، بل بقدرتها على أن تُضيف إلى يومها معنًى جديدًا، وأن تُصلح من ذاتها قبل أن تطلب من العالم أن يراها عظيمة.
وتلك الروح — التي حملها المصري القديم في فنونه ومعابده وحكمة حجارته — نراها اليوم تتجسد في صرحٍ لا يُرى كبناء، بل كلحظة وعي أمة: المتحف المصري الكبير.
ليس معرضًا لآثار، إنما بوابةٌ زمنية تربط القلب بالحجر، وتفتح بين الماضي والمستقبل ممرًا من الضوء.
منذ المسابقة العالمية عام 2002، ثم بدء البناء في 2005، حتى اكتماله في 2021، لم يكن الهدف إضافة مبنى إلى القاهرة، بل إعادة كتابة صفحةٍ من هوية مصر. فالأهرامات صُنعت لتبقى، أما المتحف الكبير فصُمّم ليعيد للخلود روحه. وشكله الزجاجي لا يعكس الضوء أو ينفذه فقط، بل يحاوره؛ والآثار لا تُعرض كذكريات، بل كنبضٍ يستعيد الحياة.
وفي مركز الترميم داخل المتحف — الأكبر في الشرق الأوسط — تتجسد الفلسفة ذاتها: أن نحفظ القديم بأدوات المستقبل، ونمنح اللون دفئه، والنقش صوته، والحجر إنسانيته. هناك يعمل المصريون في صمت، يرمّمون الزمن كما لو أنهم يرمّمون أنفسهم، فيعود الأثر حيًا لا لأنه نجا من الماضي، إنما لأنه مستعدٌّ ليكمل معنا الحكاية.
قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر هنري برجسون:
"التطوير ليس إضافةً، بل اندفاعٌ داخلي للحياة نحو مزيدٍ من الإبداع."
هكذا فعلت مصر؛ لم تُضف سطرًا جديدًا إلى تاريخها فحسب، لكنها فتحت كتابها، ونفخت في صفحاته روح عصرٍ آخر.
التطوير لا يهدم القديم ولا يجمّله؛ بل يوقظه. فالأمم لا تتقدّم حين تنكر تاريخها، ولا حين تكتفي به، لكن عندما تجعل منه طاقةً تُضيء الطريق إلى ما لم يُكتب بعد.
وعندما يفتح المتحف أبوابه للعالم، لن يكون احتفاء المصريين بالحجارة، لكن بوعيٍ متجدّد؛ وعيٍ يدرك أن الحضارة ليست ما نحتفظ به في القاعات، لكن ما نواصل تشييده في العقول والإرادة والعمل، واعترافٍ بشعبٍ يعرف كيف يصون ماضيه ليصنع مستقبلًا يليق به.


















