عبد الله إمام
مجتمع القاهرة يوم صدور «روزاليوسف»
عام 1925 كانت المرأة تعيش داخل سجن رهيب من التقاليد.. بالرغم من أنه قد انقضى على دعوة قاسم أمين ما يقرب من عشرين عامًا!
ولقد تجرأت النساء بعد ثورة 1919 وخروجهن فى المظاهرة المشهورة.. ونزعت إلى التحرر والانطلاق والتمرد على سُلطة الرجل.. وأصبح السفور حقيقة واقعة، وتحول الجدل إلى حق المرأة فى الخروج، وحريتها فى الذهاب إلى الحفلات المختلطة.. وسلوكها مسلك الأوروبيات، وبدأت النساء يطالبن بمزيد من الحقوق!
وكان الاتحاد النسائى الذي تكوّن عام 23 يقود النشاط النسائى إلى جانب جمعية المرأة الجديدة.. وقدّم الاتحاد النسائى عام 24 عريضة تحمل مطالب المرأة، يطالب فيها بمساواتها بالرجل فى التعليم العالى وحق الانتخاب، واستشهد على نبوغ النساء بمدام كورى، وطالب بعدم إعطاء رخص لإقامة الزار ومحاربة البدع وإنشاء حدائق كثيرة وسط المدينة ليلعب فيها الأطفال.. وإنشاء نقابات للعمال الزراعيين.
والمشكلة الأولى فى نظر المرأة اليوم، كانت هى المشكلة الأولى أيضًا عام 24 أيضًا، فقد طالبت النساء فى عريضتهن إلى البرلمان بضرورة إصدار تشريع يمنع تعدد الزوجات إلا لعقم الزوجة أو مرضها مرضًا مستعصيًا على أن يقرر الطبيب الشرعى ذلك.. كما طالبن بجعل حق الطلاق أمام القاضى على ألا يصدر حكمه إلا بعد محاولة التوفيق بين الزوجين بواسطة حَكم من أهله.. وحَكم من أهلها.
وفى مقدمة سيدات ذلك العصر اللامعات: صفية زغلول، وهدى شعراوى واستر ويصا ومدام حَب الرمان وجميلة عطية، وحواء إدريس وإحسان أحمد، ونبوية موسى ومنيرة ثابت التي كانت تصدر مجلة الأمل.
وكان تعليم البنات قاصرًا على مدرسة السنية.. حيث تذهب إليها بنات العائلات بالحبرة واليشمك الأبيض.
ومدرسة المعلمات ببولاق لبنات الشعب، وعادت أول بعثة نسائية من الخارج لتتولى الإشراف على تعليم البنات بينها نظلة الحكيم وإنصاف سرى ومنيرة صبرى وعايدة وفائى. وكان عام صدور «روزاليوسف» عامًا حاسمًا، لقد شهد بداية تنفيذ قانون التعليم الإلزامى، الذي غير وجه الحياة فى الريف.. فدخلت البنات والأطفال المدارس فى القرى لأول مرة بنَص القانون!

خطوط الموضة
ومن وراء اليشمك والحبرة.. كانت النساء يتطلعن إلى خطوط الموضة، وتجرى وراءها، وبدأت الحبرة تختفى ليحل مكانها المعطف الأسود، وكانت بعض النساء يتمسكن «بالحزام الواطى» الذي ينزل إلى أسفل البطن.. والفساتين القصيرة ويضعن فوق رؤوسهن غطاء أشبه بالعِمامة.
وظهر واضحًا أن النساء يجرين وراء الموضة الواردة من فرنسا، فقد كتبت الصحف تقول إن عصمة النساء لم تعد فى أيدى الرجال.. ولا فى أيديهن.. ولكنها انتقلت وأصبحت فى أيدى صانعى الأزياء فى باريس من اليهود ومشيعى الفجور.
ونشرت الصحف أن موضة الشعر هى «الإجارسون» وتحسرت على الفتيات اللواتى يقصصن شعورهن.. ويصبحن كالرجال، ويقضين على التاج الذي طالما ترنم بجماله الشعراء!
وفى عام 1925 أعلن شيكوريل عن أول عرض للأزياء بصالة شاى جروبى تعرض فيه الفتيات العاملات بالمحل أحدث الأزياء، وأعلن أن ثمن تذكرة الدخول عشرون قرشًا بما فيها تناول الشاى والعَشاء، وبينما كانت الصحف تهاجم هذا الفُجور والتحرر كان الناس يرقبون فى ذهول تطور الزى، وتقلص الثياب فوق أجساد النساء!
وكان العمل مقصورًا على نساء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، حيث يعملن مدرسات وممرضات. وكانت وزارة المعارف لا تسمح للمدرسات بالزواج إلا بعد أن يقدمن استقالاتهن على أن يكن قد أمضين فى العمل خمس سنوات على الأقل.
أما البائعات فى المحلات الكبرى.. كشيكوريل والبون مارشيه والماوردى فكن من الأجنبيات، وكانت مصلحة التليفونات تبحث عن فتيات للعمل بها، ولا تجد فكانت تطبع فى دفاتر المشتركين ودليل السكة الحديد إعلانات دائمة ترغب الفتيات فى العمل بها.. وكانت تكتب فى كل صفحة من دفتر التليفون هذه العبارة:
«التليفون مهنة الآنسات.. مصلحة التليفونات دائمًا فى احتياج إلى آنسات متعلمات».
حرب التبرنط
ولم تكن الضجة قاصرة على أزياء السيدات ومهاجمة الموضة؛ بل انتقلت أيضًا إلى صفوف الرجال.. فبعد أن استنفد الرجال كل مقومات الأناقة من القمصان المنشاة إلى البابيون، بدأوا يفكرون فى غطاء الرأس.. ففى نفس السنة التي صدرت فيها «روزاليوسف» قامت ضجة عندما أعلن طلبة دار العلوم الثورة على العمامة، وقرروا التخلص منها، ليحل مكانها الطربوش.. فالعمامة والزى الأزهرى تعوق الرياضة وتحول دون الاشتراك فى المباريات، وأصرت وزارة المعارف على ضرورة ارتداء الطلبة للعمامة.. وأصدرت المدرسة أوامرها بعدم قبول أى طالب إلا إذا كانت فوق رأسه عمامه.. واتفق الطلاب على تحدى القرار.. وفى موعد الدخول جاءوا جميعًا بالبدل والطرابيش، ففوجئوا بأن الوزارة قد أعلنت التعبئة العامة حول المدرسة وأحاطتها بجنود من بلوك النظام وضباط البوليس ليقهروا العدو اللدود من فوق رءوس الطلاب.
وانتهز دعاة التجديد هذه الفرصة، فراحوا يهاجمون الطربوش؛ وبخاصة أن حكومة الجمهورية التركية كانت قد ألغته، وفرضت على المواطنين القبعات، وطالب المجددون بنبذ الطربوش وإحلال القبعة مكانها؛ لأنها تقى من الشمس والمطر، واشتركت الجمعية الطبية فى المناقشة، فللقبعة فوائد صحية.. وكان أنصار القبعة يقولون أننا نرتدى الزى الأفرنجى فلماذا نقف فى وجه القبعات بالذات، وتزعم مصطفى صادق الرفاعى الموظف بطنطا الحملة على دعاة «التبرنط»، واشترك علماء الأزهر فى الحملة لأنها اقتداء محرم بالأوروبيين!
وفى نفس العام قامت حركة تدعو إلى تجديد الأزهر، وتطويره وتعديل مرتبات مدرسيه، وقامت حملات تطالب بصبغ الأزهر بالصبغة العلمية وهجر طرق التدريس والكتب العتيقة.
عبث النساء..
وفى محيط الطلاب.. نشرت الصحف أن مدرسة الرشاد الثانوية احتفلت بزفاف أحد طلبة القسم الداخلى، وتمت الدخلة فى المدرسة، التي أفردت قسمًا خاصًا من عنبر النوم للعروس.. والتلميذ العريس لأن الطالب من الأرياف وليس لها أقارب فى القاهرة وتهكمت الصحف على هذا الخبر، وطالبت المدرسة بأن تعلن أن المصاريف تتضمن «الكتب المدرسية، والمهر، ونفقات الزفاف».
وفى نفس العام، هاجمت الصحف الآنسة منيرة جرجس من السويس لأنها أول طالبة تحاول الانتحار لرسوبها فى الامتحان.. وقالت إنها أول طالبة تثبت عمليًا المساواة مع الطلاب حتى فى الانتحار بسبب الرسوب!
وكان بالقاهرة أربعة نوادٍ رياضية كبرى هى الأهلى والترسانة والمختلط والسكة الحديد، وكانت المنافسة بينها تشتد حسب تنقلات اللاعبين بينها.
وكانت اللعبة الرياضية الأولى هى كرة القدم.. واشتركت مصر عام 1924 فى دورة باريس الرياضية، وهزمت المجر 3/صفر فى الكرة، وكان بين كبار اللاعبين حسين حجازى ومختار التتش، وسيد أباظة وعلى الحسنى وعبدالسلام الحسنى.. وكان بين الرياضة المنتشرة حمل الأثقال، ومثلنا فى دورة باريس حامد سامى كما اشتركنا فى ألعاب الجرى والقوى. ونشرت الصحف صورة لفتيات يتزحلقن على الجليد فى أوروبا، ويشتركن فى سباق الجرى، وقالت إنه لا يستبعد أن تقلد نساؤنا هذا البعث الذي تفعله الأوروبيات فى يوم ما. وكان جمهور الكرة والمتفرجون من الرجال والنساء الأجنبيات!
مجد المسرح
أمّا المرأة المصرية فكانت تسليتها الأولى هى الذهاب إلى المسرح، وإلى دور السينما التي تعرض أفلامًا أجنبية، فإن أول شركة سينمائية مصرية كونتها عزيزة أمين، كانت فى العام التالى لصدور «روزاليوسف» عام 1926.
وفى الأعوام الأولى من حياة «روزاليوسف» عاش المسرح المصري أمجد أيام حياته، فلم تكن صناعة السينما المصرية قد نشئت بعد.. وكان كل الممثلين متجهين نحو المسرح.. حيث تعمل فرق مختلفة ليوسف وهبى وجورج أبيض، ونجيب الريحانى وزوجته بديعة مصابنى.. وعكاشة!
وكان بين الممثلات المشهورات حشد هائل من النوابغ، فيهن أمينة رزق وعزيزة أمين وزينب صدقى، ومارى منصور وفردوس حسن ودولت أبيض.
وفى عام صدور «روزاليوسف» غيرت فاطمة رشدى لقبها من «صديقة الطلبة» إلى «صديقة الموظفين»!
وكان بين الممثلين الرجال بشارة واكيم وحسن البارودى وزكى رستم ومختار عثمان وأحمد علام واستيفان روستى.
كان المسرح تابعًا لوزارة الأشغال التي تقيم مهرجانات سنوية توزع فيها الجوائز والمكافآت التشجيعية على الممثلين الممتازين.
ومن أشهَر المؤلفين المسرحيين فى هذه الفترة أنطون يزبك وسليمان نجيب، ومحمد عبدالقدوس وإبراهيم رمزى وعباس علام وعمر وصفى، والنقاد هم محمد التابعى ومحمد على حماد ومحمد عبدالمجيد حلمى ومحمود كامل والمازنى وتوفيق يونس وأسعد لطفى.
وعندما صدرت «روزاليوسف»، كان سيد درويس قد مات منذ عامين وتربع على عرش الموسيقى والغناء صالح عبدالحى والبلبل الصداح محمد عبدالوهاب وعبداللطيف البنا، أمّا لقب ملكة الطرب، فكانت تنازعه ثلاث مطربات، أم كلثوم التي تغنى ووراءها تخت معمّم، وتعاقدت معها شركة بيضافون على خمسين جنيهًا نظير تسجيل الأسطوانة.. ومنيرة المهدية التي تمثل وتغنى.. وتمنحها شركة بيضافون أربعين جنيهًا فى الأسطوانة، والمطربة التي لمعت فى ذلك العام وهى فتحية أحمد.. وفى الصف الثانى من المطربات نعيمة المصرية وتوحيدة وفاطمة سرى وفاطمة قدرى!

ليالي القاهرة..
وليالى القاهرة.. كانت كما هى ممتعة ساحرة توحى بالحب والجمال!
فندق شبرد ملىء بالسياح والأجانب والكونتننتال يغض بجنود الاحتلال الذين يملأون الشوارع والحانات وأزقة كلوت بك يسكرون ويعربدون ويمرحون!
أبناء البلد يعيشون النهار فى دوامة الصراع من أجل لقمة العيش.. ولا يحسون بجمال الليل.. والأغنياء يسهرون فى البارات والكباريهات.. وبار اللواء كان يحتل مكانًا بارزًا عند الكتّاب والأدباء وفى البيوت كانت تقام الحفلات والسهرات التي تشهدها نساء البيوتات.
ونشرت الصحف عام 1925 أن كازينو سان استيفانون بالإسكندرية أقام حفلاً راقصًا اشتركت فيه ربات الخدور وساكنات القصور وخاصرن الرجال على نغمات الموسيقى.
وقامت ضجة على هذه الحملة تزعمها الشيخ محمود أبوالعيون.. فقد تعوّد الناس أن يقرأوا عن الحفلات.. وأن الرجال كانوا يخاصرون الأجنبيات لأن المصريات لم يتعلمن الرقص وأجسادهن المترهلة تحول دون مراقصتهن للرجال.
وكان الفندق يقيم حفلات خاصة ترقص فيها النساء مع النساء.. وتحظر إدارة الفندق على السكان أن يطلوا من الشرفات حتى لا يروا حفلات النساء الخاصة!

ولذلك أثارت الحفلة ضجة لأن المصريات راقصن فيها الرجال، وكانت فرصة انتهزها الشيخ أبوالعيون ليدعم دعوته بمحاربة الفجور والعُرى، فاستأنف حملاته فى الصحف وطبع منشورات وزعها على أعضاء البرلمان.
وكانت المواصلات الداخلية فى القاهرة غريبة.. فقد جاء إلى مصر رجل أجنبى وأنشأ عربات سوارس تجرها خيول تصل بين مناطق القاهرة، وعندما حصلت شركة الترام على امتيازها عام 1895 تقلصت عربات سوارس، واكتفت بالشوارت التي لا تمر بها عربات الترام.. وبعد الحرب العالمية الأولى عرفت مصر سيارات الأجرة، ثم سيارات الأتوبيس.. وكان كل من يمتلك سيارة أتوبيس يستطيع أن يسيرها على أى خط.. فلم يكن هناك شركات معينة تحتكر امتياز تسيير خطوط أتوبيس.. وكانت السيارات تقف فى أى مكان.. وتسير فى أى شارع وفقًا لمزاج غالبية الركاب!
الحياة الأدبية
ولقد وُلدت «روزاليوسف»، وسط مجتمع يموج بكبار الأدباء ومشاهير الفنانين.
.. ففى قهوة صولت بشارع عدلى كان يجلس أحمد شوقى مع أصدقائه الدائمين شاعر الشباب أحمد رامى والمطرب محمد عبدالوهاب وتوفيق دياب.
وحافظ إبراهيم كان يجلس فى قهوة دار الكتب مع شلته.
وأحمد حسن الزيات ومحمد حسين هيكل، ومنصور فهمى والمازنى وسلامة موسى، وزكى أبوشادى وطه حسين وعباس العقاد ومحمود عزمى وعبدالقادر حمزة وتيمور وزكى مبارك يكتبون فى الصحف بصفة منتظمة.
ومن الغريب أن المشاكل الأدبية كانت تناقشها الصحف دائمًا هى نفس المشاكل التي ما زالت تناقش حتى اليوم، وهى الدعوة إلى تيسير الكتابة العربية، وإحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية، وإحياء الأدب الشعبى والاهتمام به بدلاً من الأدب القديم، والمشكلة الثالثة هى الصراع بين اللغة العامية واللغة الفصحى.
وفى تلك السنة شهدت مصر معركة عنيفة من معارك حرية الفكر، بطلها شيخ معمم يعمل قاضيًا بمحكمة المنصورة الشرعية هو الشيخ على عبدالرازق..
فقد كانت الخلافة الإسلامية قد سقطت فى تركيا، واستعد الملك فؤاد ليرثها، فأصدر الشيخ على عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، هاجم فيه فكرة الخلافة الإسلامية لأن الإسلام لم يرد فيه نص عليها، والقرآن لم يحدد شكلاً معينًا للحكم، وثار العلماء، وأنبرى الشيخ محمد الخضر حسين للرد عليه فأصدر كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، وكان على عبدالرازق قد هاجم الملك فى إهداء كتابه عندما كتب «أشهد أن لا إله إلا الله، لا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدًا سواه»، فاستعدى الشيخ خضر عليه الجهات المسؤولة عندما صدر كتابه بنفس الإهداء بما أن أضاف إليه عبارة «وعلى كل من حرس شريعته بالحجة أو الحسام وأحسن الحراسة».
وتشكلت لجنة من كبار العلماء لمحاكمة المؤلف الذي مَثل أمامها، وأصر على كل كلمة كتبها ودافع عن رأيه، فأصدرت حكمها وجردته من شهادة العالمية.. ووقف المفكرون إلى جوار الشيخ على عبدالرازق ودافعوا عنه.. وانتصروا له.
وبعد:
لقد كانت ظروف الحياة تدفع إلى التقدم.. فالناس قد فرغوا من الثورة والبرلمان الوليد يبدأ نشاطه والفلاحون الذين عادوا من الحرب العالمية إلى الريف حملوا معهم عادات غريبة، أفكارًا غريبة وأمراضًا غريبة.. وهاجر الكثيرون منهم إلى المدن للعمل فى المصانع التي قامت لتسد حاجة البلاد أثناء الحرب.. وغيرت من طابعهم الريفى، والإقطاعيون والأغنياء يستوردون كل شىء من الخارج.. حتى طريقة قص الشعر!
وفى وسط هذا المجتمع الغريب المتناقض.. وُلدت «روزاليوسف».
نقلاً عن مجلة روزاليوسف
نشر في العدد 1960 بتاريخ 31 / 10 / 1960
















