الخميس 18 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

مصر والاقتصاد الأزرق

بوابة روز اليوسف

في خطوة تعكس تحولا استراتيجيا في طريقة إدارة الدولة لثرواتها الطبيعية شرعت الحكومة في إعداد استراتيجية وطنية متكاملة للاقتصاد الأزرق كأنها تعيد صياغة علاقتها بالبحر، بما يلائم عصرا جديدا تتسابق فيه الأمم على تحويل المياه المفتوحة إلى مصادر للثروة والمعرفة والقوة.. هذا التحرك ليس إجراء فنيا ولا مجرد خطة حكومية بل هو إعلان عن بداية مرحلة تفكر فيها مصر في البحر لا بوصفه حدا يحيط بها بل بوصفه مجالا مفتوحا لنمو اقتصادي قادر على إعادة رسم ملامح المستقبل وتزداد قيمة هذه الخطوة لأن مصر تمتلك سواحل بحرية يزيد طولها على 3000 كيلومتر على البحرين الأحمر والمتوسط، الأمر الذي يجعل بناء اقتصاد أزرق ضرورة وطنية لها بعدها الاقتصادي والاجتماعي والاستراتيجي.

 

ويقوم الاقتصاد الأزرق على فكرة بسيطة في ظاهرها عميقة في جوهرها هي أن تتحول الموارد البحرية من فضاءات تستغل بشكل تقليدي إلى منظومة اقتصادية متكاملة تدار بعقل علمي قادر على تقدير قيمة الموارد والبيئة، إنه اقتصاد يوازن بين العائد المالي والحفاظ على النظم البيئية ويجعل من البحر مصدرا للطاقة والغذاء والابتكار والمعرفة وفرص العمل لا مكانا يستهلك بلا حساب.

 

وعندما نقترب من صورتنا المصرية ندرك أن البلاد تمتلك مقومات نادرة، فالسواحل الممتدة تمنحنا ثراء بيئيا وبحريا فريدا، فعلى ساحل المتوسط تمتد فرص تسمح بطاقة رياح بحرية عالية ومناطق واسعة لإنشاء موانئ تجارية وصناعية تضيف إلى قدرات النقل البحري.. وعلى الجانب الآخر يكشف البحر الأحمر عن واحدة من أغنى البيئات البحرية في العالم بشعابه المرجانية وتنوعه الحيوي الذي جعله وجهة سياحية استثنائية ومختبرا طبيعيا لعلوم البحار وصناعات دوائية متفردة تعتمد على ثروته الكبيرة من الكائنات البحرية الدقيقة،

ولا تقف مقومات مصر عند المقومات الطبيعية، فالموقع الجغرافي الذي تلتقي عنده قارات العالم يمنح البلاد قوة لا يمكن تعويضها، فقناة السويس ليست ممرا مائيا فحسب إنها شريان تجاري عالمي يمكن أن يتحول إلى قلب لاقتصاد أزرق متقدم إذا ما أحسن استثمارها. فالمنطقة الاقتصادية للقناة قادرة على أن تصبح مركزا لوجيستيا عالميا يجمع الصناعات البحرية وخدمات إصلاح السفن وإعادة الشحن وسلاسل القيمة المضافة لتتحول الجغرافيا إلى مصدر مباشر للقوة الاقتصادية

ويأتي قطاع المصايد والاستزراع السمكي كركيزة أساسية لهذا التحول الاقتصادي، فمصر تمتلك موارد سمكية واسعة لم تستغل، كما يجب ويمكن للتكنولوجيا الحديثة في الاستزراع العائم والتربية البحرية العميقة وإدارة المخزون السمكي أن تجعل القطاع السمكي مصدرا للأمن الغذائي ولصناعات تحويلية توفر الآلاف من فرص العمل.

 

كما أن مصر تمتلك إمكانات واسعة للطاقة البحرية، فالسواحل المصرية تسمح بطاقة رياح بحرية قوية خصوصا على ساحل البحر المتوسط، إضافة إلى إمكانات مستقبلية لاستغلال طاقة المد والجزر إضافة أيضا إلى الطاقة الحرارية البحرية، وإذا نجحنا في بناء صناعة وطنية للطاقة البحرية فإنها تضيف إلى الاقتصاد مصدرا مهما للقوة إضافة إلى طاقة نظيفة وفرصا كبيرة للتصنيع ونقل التكنولوجيا.

 

هذا التحول نحو الاستغلال الأمثل لمقومات الاقتصاد الأزرق ليس بعيدا عن مؤهلاتنا البشرية لأن مصر تملك ثروة بشرية وعلمية قادرة على دعم هذا التحول، تتمثل في جامعات ومراكز بحثية عملت لعقود في علوم البحار والمصايد يمكن أن تتحول إلى مراكز معرفة قادرة على وضع أساس علمي للاقتصاد الأزرق، إذا ما تلقت الدعم والمساندة الحكومية المناسبة لتقوم بهذا الهدف، كما أن خبرة مصر في إدارة الموانئ تمنحها قدرة على بناء موانئ ذكية تعتمد على الرقمنة والأنظمة الحديثة

وتزداد الصورة وضوحا حين نستفيد من التجارب الدولية الرائدة في هذا المجال ففي البرتغال تحول البحر إلى محور اقتصادي معاصر عبر الاستثمار في البحث العلمي البحري وتطوير الطاقة البحرية وابتكار تقنيات جديدة عززت مكانتها الاقتصادية وفي الدنمارك نجح البلد في بناء نموذج صناعي يقوم على طاقة الرياح البحرية حتى أصبحت في مقدمة الدول في تصنيع مكونات الطاقة البحرية، وفي اليابان امتزجت التكنولوجيا المتقدمة مع الثقافة التاريخية للبحر فطورت الدولة تقنيات الاستزراع البحري العميق والرصد والمراقبة البحرية إلى جانب تقدم كبير في الصناعات الدوائية المعتمدة بشكل أساسي على عناصر بحرية لتصبح التجربة اليابانية مرجعا عالميا.

 

ومع هذه المقومات والتجارب تظل التحديات قائمة في هذا المجال الوليد، حيث لا بد من تعزيز أنظمة الرقابة البيئية وتنظيم الشواطئ وتحديث القوانين، لتصميم استراتيجية جريئة تضع مصر على طريق اقتصاد أزرق قادر على تحويل البحر إلى شريك في التنمية لا مجرد خلفية جغرافية للحياة المصرية.

 

بهذه الرؤية يصبح البحر جزءا من مستقبل مصر الاقتصادي ومجالا تكشف فيه البلاد عن طاقاتها الكامنة وكأنها تعيد عبر الاقتصاد الأزرق اكتشاف ذاتها وتكتب فصلا جديدا في مسارها التنموي.

تم نسخ الرابط