عاجل
الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
عشق التروس

عشق التروس

أكثر من أربعين قصة قصيرة  تضمنتها  مجموعة "عشق التروس" للكاتبة  د. عطيات أبو العينين.



 

وتبدو القصص كومضات ساطعة  , وترصد حالات شعورية مختلفة , وإن كان معظمها يتأمل حالة من الصمت الموحى والذى خصصت له الكاتبة أكثر من قصة , ومنها " عيون الصمت " , حيث تبحث بطلتها عن ثورة من كلمات , بل وتهتم تلك الومضة بالتعرف على الصمت الحقيقى لأول مرة , ووجها لوجه فتقول: 

"وليس الصمت أن تسكت، ولكن أن تُسكت ذلك الإحساس بالقلق الذى يضطرم بداخلك , فيتوهج  ويطغى على صمت اللسان" .

تنويعات على لحن الصمت.. وربما تكون هذه القصص تنويعات على لحن الصمت الكاشف لجوانب النفس الإنسانية الغامضة , والمخبوء من معاناة الفرد فى عالم يتعامل معه كترس فى آلة , وحيث لا يستطيع أن ينفلت هاربا من تعشيقات التروس , وتتساءل بطلتها فى أسى فى قصتها عنوان المجموعة " عشق التروس " : " زغدة منه لأنهض على الفور , أنفذ ما يطلبه  دون روح , فالحركة من ترس لآخر , وتغيير اتجاه حركتها , لا يكسب التروس مرونة , أو يدفعها لتغيير حركتها , وبرغم عشق التروس بعضها لبعض , والتحامها معا بتعشيقاتها , لا لتبادلها حبا بحب , بل تنبرى وتتآكل أسنانها , وهى تبدو للجميع أكثر التحاما , فما يكلف القرص نفسه عناء

السؤال عن تعشيقاته , هل هى سعيدة بدورانها , والتحامها مع الترس فى فُلك آلتها أم لا  ؟ "

على هذا النحو من التأمل العميق , وأنسنة الأشياء والجوامد تمضى الكاتبة فى قصصها التى تتخذ أحيانا سؤالا لم يجب عليه أحد فيصبح مثل ورطة تواجهه بطلتها دون إجابة فتقول فى ومضة بعنوان " ورطة دمعية " : " حارت وحرت معها .. ميلاد .. فرح  .. حرمان .. وجع .. موت .. حزن عبر المسافات , عمرنا دموع يفتح نهرا جديدا على خد الزمان , انسابت دموع الفرح برغم ملوحتها , قد نبكى من الفرح أو من الحزن بعد أن نعجز عن الكلام ... من يخرجنى من تلك الورطة الدمعية ؟ "  .

جدارية الدمع.. ويأتى تصوير بعض القصص عميقا منحوتا على جدارية من الدمع , يصف لوحة حياة امرأة حولت معاناتها إلى أفعال ايجابية , فصنعت من صمتها  عرائس , تراكمت , وازدحمت فى خزانتها , وتكشف القصة مأساة المرأة برهافة , مثيرة للدهشة والأسى معا كالتى طرزت ثوبها من دمعها , وهى من أكثر ومضات هذه القصص سطوعا , فتقول الكاتبة فى أقصوصتها وهى بعنوان  " سر الدميتين " : " فتح الصندوق , وجد بداخله دميتين من القماش , وإبر للكروشيه , أسفلها مبلغ خمسة وعشرون جنيها , سألها عن تلك الأشياء , همست : " عندما تزوجتك أبلغتنى جدتى أن سر الزواج الناجح يكمن فى تفادى الجدل والمشاكل , ونصحتنى  بأنه كلما غضبت منك , أكتم غضبى , وأقوم بصنع دمية من القماش مستخدمة هذه الإبر 

لمعت بعينيه دمعتان بينما كان يحدث نفسه : دميتان فقط ؟ أى لم تغضب منى طوال ستين عاما سوى مرتين  رغم حزنه على كون زوجته فى فراش الموت , أحس بالسعادة لأنه فهم أنه لم يغضبها سوى مرتين , سألها – حسنا عرفنا سر الدميتين , لكن ماذا عن الخمسة وعشرين ألف جنيه ؟

أجابته : هذا المبلغ جمعته من بيع الدمى " . تحمل القصة دلالاتها الغنية فتفصح عن ما عاشته هذه المرأة من غضب مكتوم , حاولت أن تحوله بصبر إلى عمل منتج , كانت جذوره وبذوره من ألم , وتوشك القصة بين سطورها أن تدين نصيحة الجدة أو تراثها  ومعارفها عن الزواج والتى أورثته حفيدتها روشتة للنجاح , فهاهى الحفيدة على فراش الموت عاشت غضبى , محاولة أن تكتسب بصبرها وعرائسها معنى لحياتها البائسة , ولعل اختيار العرائس أو صناعة الدمى هو استمرار صامت لمعانى الطفولة السعيدة التى كانت تلهو فيها تلك المرأة  وهى صغيرة بالدمى , وكأن فى إنتاج الدمى من جديد محاولة للعودة إلى الصبا أو الزمن السعيد , والتشبث بعالمه الذى أورثها سرورا ذات يوم بعيد , وهاهو اكتناز الخبرة الطفولية ينضج على مهل ليصبح زادا نفسيا  يبدو ثروة هذه المرأة التى لم ترد أن تضيع حياتها عبثا , ولا أن تذهب جهودها فى محاولة  أن ينجح  زواجها سدى , بينما موقف الزوج يدعو للتأمل فهو لم يشعر بغضب امرأته ولا معاناتها  طوال سنى زواجهما , و يكتشف حقيقة هذه الزيجة البائسة فى آخر لحظة , عندما أوشكت الزوجة أن تفارق الحياة .

لقد بلغ صمتها  ذروته فانتهت حياتها ولم تعبر عنه مرة , فهل نجح زواجها حقا  ؟ , أم أنها مضت مع تعشيقات التروس لا تدرى أيها طواها بين أسنانه ؟ , وأيها أدمى قلبها , وجرح مشاعرها , أسلمها ترس لآخر , و أودت بها دائرة تروس إلى حب وهمى , وصمت غاضب كلفها حياتها نفسها .

وفى الومضات حالات مختلفة لنساء صامتات لكن بعضهن يتمرد على الآلة التى يدور فيها , فبطلتها فى قصة : " الياى " تتمرد على قيودها , لتأتى صرختها مدوية " أنا حرة " , ولترصد التناقض الذى يجعل بطلتها امرأة مضيعة بين قيود مجتمعها ورغبتها فى تحقيق ذاتها , فتهتف " يرون حريتهم فى قيدى , وراحتهم فى ألمى " , لكنها تتمرد على هذا الوضع , وتصف الكاتبة فى لوحة تصويرية هذه المرأة المقيدة فتقول : " مقيدة بجنازير حديدية , أتحرك كالياى المربوط  بالزنبرك , ما كدت أخطو خطوة حتى أعود إلى وثاقى , إنهم يتقنون فنون اللعبة , كم امقت الزنبرك والياى والقيد , أمقتهم جميعا " .

ثم تنجح فى تمردها وانعتاقها من قيدها فتقول : " لكننى لست باللعبة ولا بالياى , انتزعت نفسى انتزاعا , قطعت كل الدوائر , صرخت فى وجوههم , أنا حرة " .

وتعالج بعض قصص المجموعة هذا الخيط الرفيع الذى يتمزق بين زوجين بسبب الغيرة والشك لمجرد سماع رنة هاتف , وكأن بيتهما مشيد ومنسوج بأوهى الخيوط , وكأنه بيت عنكبوت , يكاد أن يتهاوى قبض ريح فى قصة " نفد الهيليوم " , وهو الذى يملأ البالون الذى ارتفع فى سماء بيتهما على شكل قلب , وترصد الكاتبة هذا القلب الممتلىء بالهيليوم من بداية سعيدة إلى نهاية مؤلمة , فمن امتلاء إلى خواء وكأن الأشياء تشارك أبطالها قصص الحب والبدايات بل والنهايات أيضا فتقول : " رن جرس الهاتف , تقطيبة وسؤال حائر فى عينيها لم تكد تسأله عن المتحدث , دق هاتفها و نظرة شك فى عينيه , يهبط القلب قليلا , تسحب يدها من يده 

- أنت مكابر

- أنت عنيدة

يهبط القلب رويدا رويدا

- أنت مغرورة 

- أنت أحمق 

توقفت نظراتهما , تجمدت البسمة على شفاههما , يسقط قلب الهيليوم , يزحف أرضا , سحبت يدها من يده  ترك يده نهائيا , يحاول قلب الهيليوم الصعود , تطوعت العروس برفعه لكنها سقطت على رأسها , مد الدب يده محاولا إنقاذ القلب , فترنح بجسده الهائل , القلب يسقط , ينهار , يتداعى , يحاولان المقاومة لإنقاذه , دفعاه بأيديهما لكنه سقط على الأرض بلا حراك , لقد نفد الهيليوم " 

أسئلة المرجان.. وتأتى قصة " أشواك المرجان " لتتوج قصص هذه المجموعة من الومضات , ولتبلغ تأملات الكاتبة ذروتها الفنية فى تعمق الأشياء والموجودات , وعلاقتها بالإنسان , لتتشابه مشاعر بطلتها مع المرجان الذى يتساءل هو أيضا عن كينونته وذاته , ويصبح سؤال المرأة فى هذه القصة هو تساؤل المرجان أيضا , ويمكننا أن نلمح أوجه التشابه , بين طبيعتين , الجماد بصلابته وجموده والنبات بليونته وطراوته , وبينهما يقع المرجان وكذلك بطلة القصة  , التى تواصل الأسئلة  حائرة باحثة عن جواب لسؤال يبدو طرحه مدعاة للدوران فى دائرة الصمت من جديد , الصمت المفعم بالكلام وبالأسئلة فتقول الكاتبة : " أنا والمرجان دائما فى حيرة , هل ننتمى لعالم الجماد ؟ , أم ننتمى لعالم النبات ؟

فأنا أشبه الجماد فى تحجره , وأشبه النبات بكونه أشجارا نابتة فى قاع البحر , ذوات عروق وأغصان خضر، متشعبة قائمة كأنى تحولت لأشواك المرجان , فما أنا إلا إنسانة طردتها الحيوية من عقر دارها، وجافاها الحب , وهجرتها الحياة إلى غير رجعة , فترى هل سترجح كفة الجماد أم النبات؟، وإلى أيهما سأميل؟".

إنها أسئلة الصمت العميق، وتجلياته فى ومضات آسرة استطاعت أن تبلور رؤى حول معاناة الإنسان المعاصر الذى يتمرد على عشق التروس، ويريد أن يشعر بإنسانيته من خلال الحب والإحساس بالتعاطف والمشاركة . 

وهذه المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة د. عطيات أبو العينين  هى أحدث كتاباتها  وقد صدرت عن فنون للطباعة  2020 , وللكاتبة العديد من الأعمال القصصية والروائية منها : " مرارة المشمش " قصص، ومن رواياتها: "مهسورى"، و"رقص العقارب"، و"داروما"، و"باربيكيا ".

 

 

 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز