

مي كرم جبر
انتهى حلمك إلى الأبد
الصفحة ٢٤١ من كتاب "البحث عن الذات"، الذي خطه الرئيس محمد أنور السادات بيده، هي دائمًا ملاذي الحاني في كل مرة يصيبني فيها اليأس أو الاكتئاب، وأنا أصارع الحياة، كي ابني قلعة أحلامي، وأتحصن داخلها، وأحقق كل النجاح الذي أتمناه، لا شك أن الدنيا مجحفة، ولا شك أن كلًا منا بعد مشوار طويل سيصل لمرحلة من التعب والألم لن يجدى معها المواساة المعتادة، ولا شك أيضًا أن تراخيك واستسلامك وأنت على حافة الصراع مع الدنيا سيدفعك حتمًا للانتحار.. إذًا الحل هو الإنصات لصوت محارب مر بكل مراحل الهزيمة حتى حقق الانتصار، انتصر أولًا على إحساس بالخنوع تملك قلب رجل عسكري محنك، اعتصرته قبضة النكسة، ثم انتصر أخيرًا على محتل خبيث اغتصب سيناء، وطمع فيما هو أكثر من ذلك.
يقول السادات في السطر الأول من الصفحة ٢٤١: "دهم إحساسي بالهزيمة نفسي، بحيث استغرق شعوري، فكنت أعيش الهزيمة في يقظتي ومنامي.. وكنت في كل يوم يمر أتكشف أبعادها، فيتمزق صدري، ولكني لا أعرف ماذا أفعل".
الرئيس السادات، أشتد به الألم النفسي، بعد نكسة ٦٧، لكنه عكف على دراسة أسبابها، بالرغم من أنه لم يكن صاحب قرار حينها لكن دائمًا تصرفات القائد دالة على عقليته، اعتزل السادات الناس تمامًا لمدة ثلاثة أسابيع قضاها في منزله، ثم قرار أن ينهض ويخرج من السجن الذي وجد نفسه فيه فجأة، ولم يكن السجن هو حيطان البيت، بل كان حيطان الفكر، الذي حبسه في نتيجة واحدة، وهى أن الجيش غير قادر على القتال، كان هذا أكثر ما يقلق السادات، فقرر أن يستوضح الأمر بنفسه وذهب إلى مستشفى المعادي العسكري، والتقى بعض المحاربين المصابين، وأخذ يسألهم عن فنيات الحرب، وهم يجيبون عليه، حتى تأكد من أن الجندي المصري لم يفقد كفاءته القتالية، فنهض وترك المشفى، بعد أن قضى فيها أسعد أيام حياته، قبل يوم نصر أكتوبر على حد وصفه، لماذا؟! لأن تفكيره تفكير قائد يعلم ما عليه من واجبات، وما على الآخرين، ويعلم أيضًا أن الجيش به ألف قيادة أخرى قادرة على رسم خطط النصر على تراب سيناء، ولا ينقصهم سوى روح الجندى المصري، التي لا تعرف الاستسلام أبدا.. وهذا أول درس من قائد حقيقي هو أن تقود عقلك، وتتحكم فى طريقة تفكيرك، وتفتش عن عوامل النجاح وأسبابه، ولا تركن للإخفاق مهما كانت نتائجه.
كان السادات ينوى، أن يلحق بإسرائيل هزيمة نفسية وعسكرية، حتى لا يراودها وهم احتلال سيناء مجددا، فوضع نصب عينيه الظن الذي كان دارجا حينها بأن جيش إسرائيل لا يقهر ، وقرر أن يقهره.
"عندما أصبحت بمفردى فى الغرفة، أغلقت عينى وبقيت بلا حراك تماما لمدة دقيقة، وأعتقد أننى لو لم أتعلم خلال كل هذه الأعوام كيف أكون قوية لكنت تحطمت كليًا".
بهذه الكلمات وصفت جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية، كيف مرت عليها أول ثلاثة أيام من حرب أكتوبر ١٩٧٣، وكيف انهار أمام عينيها جيشها الذي لا يقهر، تلك الأسطورة التي بنيت على تلال الوهم، وأذابت عقول الإسرائيليين فى كأس من خمر، وجعلتهم يظنون أنهم يعيشون فى قلعة محصنة، شيدت خلف حائط حديد لا يمكن هدمه.
استيقظت جولدا على صفعة من الرئيس السادات، جعلتها تدرك أن إسرائيل يمكن أن تهزم فى أقل من يوم ونصف، لم تتجرأ جولدا على مواجهة شعبها، وظلت تخفى خبر الهزيمة، إلى أن هبطت الطائرة الأمريكية جلاكسي على أرض مطار "اللد" الإسرائيلي يوم ١٤ أكتوبر، لتعلن عن تغيير كبير في قواعد اللعبة، ولم يكن هذا أمرا هينا، حيث كانت جولدا تعيش بين نارين، نار الهزائم ونار مماطلة الأمريكان وتجاهلهم لتوسلات المسؤولين الإسرائيليين، فقد تذللت جولدا واستجدت تعاطف كل صناع القرار في الإدارة الأمريكية، وتوسلت المساعدات طويلا لدرجة أنها وصفت إلحاحها في مذكراتها بأنه: "وصل إلى درجة ضايق أصدقائي الأمريكيين".
"لقد خسرتى الحرب، ويجب أن تعدّي نفسك لهذا"، هذه الكلمات القاسية قالها هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي لجولدا فى أيام الحرب الأولى، قبل أن تتخذ أمريكا قرار مساندة إسرائيل، وكان الأمر برمته يشبه الجحيم، لدرجة دفعت صديقة جولدا المقربة، وتدعى "لو كاراد"، أن تعد للحظة التي ستتخذ فيها جولدا قرار الانتحار، حيث طلبت من طبيب مقرب لها أن يعطيها جرعة من الحبوب اللازمة، لإنهاء حياة صديقتها العزيزة جولدا.
تخيل عزيزي القارئ هذا التحول الدرامي بين لحظة شعر فيها السادات بضيق، فقرر أن يذيق أعداءه من كأس أشد مرارة، وفعل ما عزم عليه.
أما موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي، فقد أولاه السادات اهتماما من نوع خاص، أصابه بلوثة عقلية، لدرجة أن ديان فى اليوم الثالث من الحرب أخذ يغمغم، "سقوط المعبد الثالث يحدث أمام أعيننا" ، ويقصد ديان ربطا تاريخيا بين بقاء إسرائيل، دولة ودينا، فالمعبد الأول كان القدس، الذي دمره أهل بابل عام ٥٨٦ قبل الميلاد، والمعبد الثانى خربه الرومان عام ٧٠ م، أما المعبد الثالث فهو دولة إسرائيل نفسها.
حوّل السادات الحرب بينه وبين ديان من استرداد أرض مغتصبة لحرب الأحاجي العقلية، لأنه كان يعلم جيدًا أنه سيسترد سيناء على الأحوال كافة، إذًا عليه أن يوظف طاقات عقله لتلقين المدرسة العسكرية الإسرائيلية، درسًا مهينًا.. وضع السادات القنطرة شرق على رأس المناطق، التي يجب أن يستردها فى الساعات الأولى من الحرب، لأنها تعد مغنمًا بالنسبة لإسرائيل، وهذا ما عبّر عنه موشيه ديان فى خطاب له أمام طلاب الجامعات في إسرائيل بعد نكسة ٦٧ حيث قال: "لقد تسلمنا الأمانة من الجيل السابق لجيلنا، فوصلنا حدود إسرائيل من القنطرة فى مصر إلى القنيطرة فى سوريا، وعليكم أنتم الجيل الصاعد أن تحموا هذه الحدود وتوسعوها".
ومنذ أن وصلت هذه الكلمات إلى مسامع الرئيس السادات، كان يراوده دائما ذلك اليوم، الذي سيرد فيه على ديان ويقول له: "انتهى حلمك إلى الأبد".