عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

صباح الخير بالليل

«الدنيا لمن يستيقظ باكرا» كتبها جبران خليل جبران، واقتدينا بها، أحمد بهاء الدين وأنا، فكنا أول من يصبح (الصبوحة)، ويدخل مكاتبها.



اعتدت، متى سنح وقت الأستاذ، أن أتناول معه قهوة الصباح، أستأنس به وبآرائه، هو المتمتع بصحوة ذهنية حية وقادة، المعروف بحكمته وقت الأزمات والهموم الكبرى، وأستمتع بما يرويه من حكايات، فلقد كان، برد الله ثراه، طيب المزاج، حلو النادرة مع وقار ورزانة.

 

مع آخر رشفة من الفنجان، يمسح الأستاذ فمه بمنديل و...يخلص الكلام، فأترك مكتب الأستاذ إلى مكتبي، ليبادرني الرسام أحمد إبراهيم حجازي، المواظب على الحضور المبكر، بإبتسامة يفرشها على شفتيه، صادقة مفعمة بالمودة.

مع تنسل الأيام، بدأت أشعر أن العمل في المجلة لا تتحكم به مواعيد، ولا تؤطره القيود التي يمكنها أن تحد من إبداع الكتاب و الفنانين.

كنا مجموعة، رأينا في أنفسنا إمتيازا وجدارة، نعمل بتناغم، المحبة تجمع بين من يرسم بالأحرف على الورق ومن ينطق الرسم ويمزج الألوان لإنتاج عمل إبداعي متميز، يجعل المألوف مدهشًا والعادي صادمًا، يطل كل أسبوع على الناس مع إشراقة الضوء، حاملا البهجة والمتعة في مقالات مخدومة، فيها صحة اللغة والمعلومة التي تثري المدارك وتدخل القلوب.

 

وليس أحلى مما قاله محمود السعدني ، خلال لقاء تليفزيوني، عن تلك الحقبة من حياة المجلة: "... المحبة لن تتكرر مرة أخرى، محبة ٢٠- ٣٠ فنان وصحافي حر، مولود من بطن أمه عشان يكون في المهنة، وكأنهم من أب وأم واحدة".

 لقد كان السعدني  على صواب، فالمجلة كانت تصدرها مجموعة متجانسة، متفاهمة، متآلفة من المبدعين بالحرف والخطوط، حولتهم المحبة الى أسرة يعوذ الواحد بالآخر فيها ويستجيب: أحمد إبراهيم حجازي، إبن طنطا البار، خرج إلى عالم الرسم منها وإليها عاد. فبعدما مسح ريشته من آخر رسمة كاريكاتورية، قرر الاعتزال! محترفو السياسة، والمثقفون من القراء الذين أدمنوا المجلة، يعرفونه بإسم حجازي الرسام. 

دؤوب، صبور،  مثابر في بحثه عن الفكرة، يتعايش مع شخصياته التي ينقلها الى الورق من الشارع والزقاق والحارات…بمشاكلها وهمومها…وبين الكوب والكوب كوب قهوة آخر حتى تتشكل الوجوه تحكي قصصها وهمومها وأوجاعها على الورق، فيتسلمها ويغادر قبل أن يصل الآخرون إلى مكاتبهم!

لقد كان حجازي كتومًا، يخفي نفسه خلف ستار شفاف. إقترن لفترة وجيزة بالفنانة التشكيلية سلوى المغربي، إلا ان رباطهما لم يدم طويلا، فلقد كان مفتونا بالحرية، يرد على من يسأله: " إكتشفت صعوبة أن تحب إمرأة…ثم تصحو في الصباح تجدها لم تزل في البيت."

 

وإعتزال حجازي رسم الكاريكاتور و العودة إلى طنطا، لم يكن نوعا من الإحباط أو الإحتجاج أو الإعتراض، إنما كما شرح لسائليه:  "أنا بطلت رسم الكاريكاتور عشان خلصت الحبة بتوعي!" ولا يحلو صباح المجلة إلا مع نهاد جاد وزينب صادق، تحملن الخبز الفرنسي Baguette من الفرن المقابل للمجلة، والجبن الأبيض والرومي واللحم البارد وحبات الزيتون التي تغمز لك من بقالة النيل الأزرق، ليبدأ الإفطار مع (اللمة) الحلوة.

ونهاد جاد، لمن لا يعرف، إبنة أحد كبار ضباط الشرطة وكاتبة أعطت المسرح أحلى ما عرض على خشبته، وربما كانت مسرحية (ع الرصيف) أبقاها على مر الزمان، أخرج المسرحية جلال الشرقاوي وعرضت لأول مرة في عام 1987 وقد جسد شخصياتها سهير البابلي، حسن حسني، أحمد بدير، حسن عابدين، إلى جانب كوكبة من نجوم المسرح في ذلك الزمن.

التقت نهاد جاد الصديق الدكتور سمير سرحان في الولايات المتحدة، حيث كان يتابع دراسته، ، والحب أدى الى الزواج ومن ثمراته خالد سرحان، الممثل الذي شارك في معظم أفلام عادل أمام والعديد من المسلسلات.

أما زينب صادق، فتركت على أرفف المكتبات العربية مجموعات قصصية عدة منها (يوم بعد يوم)، (عندما يقترب الحب)،( هذا النوع من النساء).

زينب، وقتذاك، كانت تبحث عن شقة، فهي كانت مقبلة على الزواج، وتفضل (عش الزوجية) على النيل، فيرتفع صوت أحدنا مقترحا شقة على أول طريق المعادي و… تتعدد الإقتراحات ويتلون الكلام بالرغبة في المساعدة، ولا تصل زينب الرقيقة الى قرار! ولكن في النهاية حظيت بهذا المسكن علي نيل المعادي.

ويكتمل الثلاثي النسائي بوصول فاطمة العطار، فتبدأ برواية حكايات مع زوجها المحامي عاطف الجوهري، الذي كان محور حياتها. ينتصف نهار (الصبوحة)، ويبدأ الزملاء في الوصول الى مكاتبهم، كأنهم (طيور الليل) تهل علينا في وضح  ظهيرة كل يوم!

حسن فؤاد، المستشار الفني للمجلة، الهادئ بوقار ورزانة، كان يدخل  مكتبه عندما تبدأ الشمس تفكر بالمغيب، ملقياً تحيته التي أصبحت قولاً شهيراً و يستخدمها الكثيرون حتي في الحوارات الدرامية "صباح الخير بالليل" .  القلة حتى اليوم يعرفون ان ذلك الفنان المرهف الحس والهادئ الطباع الوقور هو صاحب تلك التحية.

اقتربت كثيراً من فتحي غانم، رئيس التحرير، ، فلقد وجدني طويل الصمت، دائم التفكير، أنصت باهتمام لما يقال أمامي، إن سئلت عن مسألة كان لي فيها علم أجبت، ولم أخجل مرة واحدة في أن أقول لا أعرف.

وسرعان ما أدرك فتحي غانم، من خلال أحاديثنا، أننا نتشابه بالنشأة، طفولتي مثل طفولته، مرارًا كثيرة حدثني عن هدوئه والتربية المنضبطة المقيدة بالأعراف والتقاليد التي شكلت شخصيته.

مثلي، كان فتحي غانم منعزلًا، لا يشارك أترابه لعبهم وعبثهم، راقبهم من وراء زجاج نافذة غرفة نومه معللا النفس بمشاركتهم عبثهم “ الشيطاني "! تحت مبدأ الإعتقاد الشهير أن (العزلة) هي صيانة النفس وإبعادها عن شوائب الآخرين، فنشأ وشب عليها، فإمتاز بطبع هادئ، مفتوح القلب للأصدقاء، واضحا في عواطفه.

قربي من فتحي غانم، جعلني أقف على مراحل تحويل روايته (الجبل) الى شريط سينمائي طويل. فكنت إلى جانبه في الاجتماعات الطويلة مع المخرج خليل شوقي، مرة في المكتب، ومرات في شقته المطلة على النيل بالدقي في بناية تنتصب أمام نادي القضاة، ومرات في نادي السيارات.

كانت الخواطر تومض مثل البرق في ذهن فتحي غانم، فتتحول على الفور إلى صور يرسمها في السيناريو، وكلمات على أفواه الشخصيات التي تأنى في رسم ملامحها. لذلك، كان يدقق في أدق التفاصيل بدءا من إختيار الممثلين، وقد أختير صلاح قابيل، وسميرة أحمد، وعبدالوارث عسر إلى أماكن التصوير.

لم تكن (الجبل) مجرد مرويات خيالية كتبت على الورق، إنما هي نتف من حياته، فهو عاش في المكان والزمان التي جرت فيه أحداث  الرواية. وقتذاك، كان تخرج من كلية الحقوق وكلف بوصفه " مفتش تحقيقات" بالنظر والتحقيق في شكوي تقدم بها أهالي قرية " القرنة" النائمة في حضن الجبل الغربي قبالة الأقصر، ضد المهندس المسؤول عن مشروع بناء القرية النموذجية لإسكان أهل الجبل.

يروي فتحي غانم في روايته حقيقة ما دار آنذاك بين المهندس وأهل الجبل من صراعات وتوترات. عند صدور الرواية، أتهم فتحي غانم أنه كان يغمز لمدرسة المهندس حسن فتحي و قرية "القرنة" وكاد الأمر أن يصل إلى القضاء.

ومن المفارقات أن فتحي غانم، أثناء عمله كمدير تحقيقات، أوصى في مذكرة مسهبة بإنشاء قرية نموذجية  لنقل سكان "القرنة" من الجبل، وكان الدافع لذلك هو الخوف على الآثار من النهب المستمر لها من الأهالي خصوصًا بعدما راجت تجارة تهريب الآثار!

بعد (الجبل) كتب فتحي غانم (الغبي) و طلب مني تصميم صفحات الرواية وتوضيبها، وكان الرسام جمال كامل أبدع في رسم شخصية "الغبي"، ولا أظن أن فنانا سبق أو لحق جمال كامل  في تخيل شخصية الغبي كما مثله بـ"قفاه" العريض، وعيونه الزائغة بلهاء تدوران في وجه لا ملامح فيه في رأس غريب الشكل.

في "الغبي" نجح فتحي غانم في خلط الخيال بالواقع، الفاتنازيا بالمعاش، فتقتنع وأنت تقرأ الرواية بأنه من الممكن أن تكون هذه الشخصية واقعية، وأنك ذات يوم قد تصادف هذا الغبي! كانت رواية فتحي غانم التالية (تلك الأيام) التي رسمها الرسام مأمون، و هو تتلمذ على الفنان المعروف الحسين فوزي. لكن الحظ إبتعد عن مأمون، فمضى مغموط الحق من كل جانب. تروى (تلك الأيام)  قصة أستاذ جامعي شك في سلوك زوجته ، فدفعه ذلك الى  تكليف مجرم يستسهل القتل للتخلص من زوجته. تحولت الرواية الى شريط سينمائي تولى إخراجه إبنه أحمد فتحي غانم، وأسند الدور الرئيسي للممثل محمود حميدة. لكن النقاد لم يرحموا الفيلم، وإعتبروا أن الإبن أفسد رواية الأب، وإبتعد عن روح الرواية ونصها.

يبقى في غرفة الرسامين ناجي كامل، البسيط، المتواضع، بطيبة فنان مرهف الحس. درس فن النحت في كلية الفنون الجميلة، وأتم دراساته العليا في "مرسم الأقصر" وفي إيطاليا. ثقافته عميقة نمت بقراءاته التي دعمت موهبته.حصل على منحة تفرغ،  فقام بتوثيق وتسجيل آثار الأقصر.

صرف ناجي خمسين سنة من حياته على الرسم الكاريكاتوري، فأبدع. تعاون معي بطواعية ومودة في التعبير عن محتوى المجلة بخطوطه الهندسية المميزة والمتميزة، وبوجوه فتيات لفحت الشمس ملامحهن متلاعبا بالتضاد اللوني، فبرزت من رسوماته أصالة البنت المصرية. رسومه الكاريكاتورية كانت تنتقد بسخرية، لاذعة مرات، الجانب الاجتماعي للحياة المصرية، فنضحك ونبكي في آن معًا... وذلك الإبداع لا يؤتيه إلا من تمتع بموهبة وبقدرة على التعبير بالخطوط والألوان.

كرمه الرئيس جمال عبدالناصر في "عيد العلم" بمنحه "درع التفوق"، فاستحق عن جدارة اللفتة والتكريم.

لم تقف موهبة ناجي كامل عند النحت والرسم ، فالرجل إحترف العزف على الناي، و كثيرا ما عزف على نايه الحزين لنا ولأصدقائه ومريديه الذين يترددون على مكاتب المجلة بانتظام، يعزف ويعزف ويشجعنا حتى يئن الناي إعياءا من شفتيه وأصابعه.

جمعته صداقة مع المخرج كمال عطية ، فمثل أدوارا قصيرة في أفلامه، منها فيلم "مع الناس" الذي أدى فيه دورًا صغيرًا إلى جانب رسام الكاريكاتور رجائي ونيس الأبقى في الذاكرة . وجوه تحضر وأخرى تغيب، حكايات تطل من ذاكرتي أدونها قبل أن أنسى.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز