عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
مكرم محمد أحمد
البنك الاهلي
عرفتُ الأستاذ مكرم محمد أحمد

عرفتُ الأستاذ مكرم محمد أحمد

كُنت لا أزال أتحسس خطواتي الأولى، في بلاط صاحبة الجلالة، عندما حالفني الحظ بالتخصص في ملف الصحافة والإعلام، حيث الغوص في أعماق قضايا المهنة، والاحتكاك المباشر بأساتذة عمالقة كبار.



 

كان ذلك في العام ٢٠٠٦، وحتى اليوم ١٤ عامًا، في تلك السنوات المكتظة بالأحداث المهنية، والسياسية، عرفتُ الأستاذ مكرم محمد أحمد عن قرب، عايشت معه مواقف لا تُنسى، في كل منها تعلّمت الكثير والكثير، استمتعت بمحاورته عشرات المرات، ومساندته في الانتخابات، عايشت تناوله الكثير من القضايا والمشكلات، شرفت بصحبته في عدد من السفريات والمؤتمرات، فكان كل كلمة وكل موقف يصلح لأن يُكتب عنه مجلدات تتدارسه الأجيال الشابة والقادمة.

 

الأستاذ  مكرم محمد أحمد، مهني حتى النخاع، متواضع، مُحب لتلاميذه، مُخلص لأصدقائه، معتز بذاته، واسع الثقافة، يجيد تحدث اللغات، متطور بشكل دائم، ملاحق للتكنولوجيا، خفيف الظل، عكس ما يبدو لمن لا يعرفه، حازم في قراراته، شرس في صراعاته، لا يخشى البوح بكلمة الحق مهما كانت تبعاتها، سياسي محنك، حرفي محترف، يجيد قول ما يشاء بدبلوماسية وحرفية.

 

الأوصاف السابقة، حقيقية، لا مدح، عصارة تجربة معرفة عن قرب، لأستاذ عاصر الأحداث واعتصرته التجربة، دعوني أطلعكم على بعض المشاهد، لتحكموا بأنفسكم:

 

المشهد الأول:

الزمان: الاثنين ٥ يناير ٢٠١٠

المكان: مكتب نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد.

الحدث: وقع ٥٦ صحفيًا ينتمون إلى ٣٩ إصدارًا صحفيًا قوميًا وخاصًا وحزبيًا، وأخرى تحمل رخصًا أجنبية، في خطأ مهني فادح، عرّضهم لملاحقة قضائية من أسرتي القتيلتين، هبة العقاد، ابنة الفنانة المغربية ليلى غفران، وصديقتها نادين خالد، اللتين عثر على جثتيهما في فيللا بالشيخ زايد.

 

الزملاء محررو الحوادث، ضلل أحد المصادر بعضهم، وتناقل البعض الآخر الشائعات ذاتها، التي دعّمت وجود مخدرات وفقدان إحداهما عذريتهما، وهو ما نفاه الطب الشرعي، فبات الزملاء والصحف في مأزق قانوني، عرضة لصدور أحكام قضائية بتعويضات مليونية.

 

كان الأستاذ  مكرم غاضبًا من تلك السقطة المهنية، وفي الوقت ذاته يسعى لإنقاذ الزملاء، فهو نقيبهم وراعي المهنة، سألته: ماذا ستفعل يا نقيب؟ صمت لدقائق، وقال: نعتذر.. إيه رأيك؟!

قلت: حضرتك بكده تكون أنقذت الزملاء، وقدمت نموذجًا يحتذى، فهي سابقة أولى، لم تعتذر النقابة من قبل، هل ستعتذر النقابة في بيان؟

 

أجاب الأستاذ: لا في مؤتمر صحفي، يحضره ممثلو الضحيتين ومحاموهم ونوّقع تصالحًا، نرد اعتبار الضحيتين في الإعلام، كما تمت الإساءة إليهما في الإعلام، ونحمي الزملاء.

 

وبالفعل الخميس، ٨ يناير ٢٠١٠، دعا الأستاذ مكرم وسائل الإعلام لمؤتمر بالقاعة المستديرة بالطابق الثالث، سبقه اتصالات وجلسة للنقيب والسكرتير العام الأستاذ حاتم زكريا، والشؤون القانونية بالنقابة مع محامي الضحيتين، بينهما الأستاذ عصام شيحة، وتم توقيع اتفاق المصالحة.

 

في المؤتمر، بذكاء شديد قدم النقيب اعتذارًا لأسرتي الضحيتين، رحمهما الله، وأعرب عن تعازيه، لكنه أشار إلى أن مصدرًا مجهولًا ذا صلة بالتحقيقات، هو من ضلل الصحفيين، لرغبة منه في سير النشر في طريق آخر، لمصلحة التحقيقات، وهذا يستوجب على الصحفيين اليقظة، منتهزًا تلك الفرصة لتجديد مطالبة الحكومة بقانون يُتيح حرية تداول المعلومات.

 

وانتهت الأزمة بسلام، حفظ كرامة الضحيتين، وأرضى أسرتيهما، وأنقذ ٥٦ زميلًا من ملاحقات قضائية، كانت إدانتهم فيها شبه حتمية.

 

المشهد الثاني:

الزمان: ٢٠٠٩

المكان: فندق بـ الدار البيضاء بالمغرب، ترانزيت١٢ ساعة في الطريق إلى موريتانيا، لحضور مؤتمر «الإعلام والتنمية».

الحدث: الأستاذ  مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين، أمين عام اتحاد الصحفيين العرب حينها: أيمن سأرتاح ساعة، وأريد الخروج لشراء شيء هل تأتي معي؟

- تؤمر يا ريس.

في الطريق جلسنا على مقهى لاحتساء الشاي، ناديت أحد العاملين فالتقط لنا صورة، في طريق العودة المنظر بديع، أستاذ مكرم ألتقط لك صورة هنا؟ فقال: أعطني الكاميرا، قف هناك، سألتقط لك الصورة، اندهشت الأستاذ يقف يُمسك بالكاميرا، يُدقق لالتقاط صورة عالية الجودة.

 

قمة التواضع، الأستاذ العملاق يلتقط صورة لشاب صحفي، في الطريق تحدث الأستاذ عن السلع المميزة في كل عاصمة، التي يمكن إذا صادف وزرتها أن تشتريها.

 

في الفندق بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، عقب الإفطار، بينما الوفود منشغلة بتبادل أطراف الحديث، سألني: أيمن معك جهاز لاب توب، أجبت: معي.

فقال: ممكن تجيبه لي وتفتح الإنترنت، أشوف الدنيا فيها إيه، وأكتب مقالي وأبعته.. فعلت، فإذا بالأستاذ يذهب إلى محرك البحث، ويفتح الواشنطن بوست، يُطالع صحفًا أجنبية.

 

الدرس: أستاذ من جيل الرواد، في سن كبيرة، يواكب التطور، ويُجيد استخدام التكنولوجيا، يُجيد اللغة الإنجليزية، ويُطالع صحافة العالم، غير مقتصر على الصحافة المحلية.

 

ذلك الإتقان للغة فاجأ الأستاذة عبير سعدي ذات يوم، عندما كانت تقود لجنة تطوير المهنة والتدريب، واستضافت وفدًا أجنبيًا، فالتقى بهم النقيب مكرم محمد أحمد، فإذا به يُدير معهم حوارًا بطلاقة أبهرتها، لتخرج مبتسمة: الأستاذ مكرم فاجأني، إنه يتحدث لغة بطلاقة.

 

في تلك الفترة، حصل الأستاذ مكرم للصحفيين على عدد كبير من أجهزة اللاب توب من وزارة التعاون الدولي، كان يوزعها على المقيدين الجدد بجداول النقابة لتطوير قدراتهم، ونجح في تجهيز معامل التدريب بأحدث الأجهزة.

 

المشهد الثالث:

الزمان: ٢٠٠٩

المكان: أمام مؤسسة الأهرام

الحدث: كان الأستاذ  مكرم محمد أحمد، خارجًا لتوه من مؤتمر انتخابي، بمؤسسة الأهرام، وبصحبته الأستاذ طارق حسن- رحمه الله- وكاتب هذه السطور، فإذا بزميل يهرول نحوه، بانفعال: أنا عندي مشكلة لازم تحلها، مش هسيبك. رد الأستاذ بانفعال: فيه إيه اتكلم.

روى الزميل مشكلته، وكانت تتعلق بمشكلة أمنية، نفى علاقته بما هو منسوب إليه، هدأه الأستاذ، ووعده بأن يذهب معه للواء حسن عبد الرحمن لحلها عقب الانتخابات.

 

انتهت الانتخابات، واتصل بي الزميل في اليوم التالي لإعلان النتيجة، منفعلًا نجح الأستاذ مكرم فين وعده، ابتسمت هو لحق، دعه يلتقط أنفاسه.

 

اتصلت بالنقيب مساءً، قال: أنا مسافر في مهمة عمل ثلاثة أيام وراجع، إن شاء الله هحل له مشكلته، ممكن اتصل وأرسله، لكن عاوز أكون معه، وبالفعل عاد وأنهى المشكلة، ووفر فرصة عمل دائمة للزميل في صحيفة محترمة.

 

وفي حالات كثيرة، وهو نقيب الصحفيين، كان يطلب لقاء رؤساء تحرير، يدعوهم، أو يذهب إليهم في مكاتبهم ويحل المشكلة، لا يتكبر.. قمة تواضع الواثق، فبمجرد ذهابه بقيمته وقامته تُحل أعقد المشكلات إكرامًا له.

 

الدرس: النقابي إنسان محب للزملاء ولو اختلف معهم، يخدم قدر المستطاع المناهضين له، والمتوافق معهم على قدم المساواة.. طبعًا كان يُطلق إفيهات ظريفة في لحظات غضبه، لكنه لا يتركهم، يُدعم وينجز الحلول.

 

المشهد الرابع:

الزمان: أزمنة دائمة ومتكررة.

المكان: مؤتمرات متخصصة ومؤتمرات صحفية.

الحدث: الأستاذ  مكرم محمد أحمد، يجلس ممسكًا بقلمه وأوراقه، يُسجل نقاطًا مثل أي صحفي نشيط في سن الشباب، يطلب الكلمة ويطرح أسئلة مهنية احترافية توّلد معلومات قيمة من المصادر.

 

الدرس: الصحفي المحترف، مهما تقلّد المناصب، يبقى صحفيًا، مطالعًا للمستجدات، يعلم أن مهمته، ومهارته في طرح الأسئلة المهنية، التي تستخلص المعلومات من مصادرها، لا أن تنتظر، وتستنزف الوقت في طرح وجهة نظرك للمصدر لتُعلمه ما ينبغي أن يكون، هي آفة غير المهنيين بالمؤتمرات الصحفية.

 

بهذه المناسبة، أذكر أن الأستاذ مكرم محمد أحمد، لم يعرّف نفسه بمنصب، في مناسبة، أو في كارت شخصي، دائمًا يكتب مكرم محمد أحمد (صحفي)، له تاريخه المهني، الذي يجعل اسمه أقوى من المنصب.

 

المشهد الخامس:

 

الزمان: ١٠ ديسمبر ٢٠١٧

المكان: فندق الرشيد ببغداد

الحدث: فعاليات الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب، بعد انتهاء فعاليات اليوم الثاني، الأستاذ مكرم يقف أمام المصعد، وتبدو عليه علامات الإرهاق، متكئًا على عصاه، سلمت عليه وقلت: أي مساعدة يا ريس، أوصلك لغرفتك، قال: شكرًا يا أيمن، محمود كان معي- سكرتيره الخاص- لكن أنا عاوز أفضل منشط ذاكرتي، ومعتمد على نفسي، الحمد لله أنا بخير.

 

الدرس: الأستاذ صلب وعنيد، كما كان في معاركه الانتخابية، والمهنية، والسياسية، فهو صلب عنيد في مواجهة الإرهاق أو المرض، ومقتضيات تقدم السن.

 

أذكر في حواري معه، في عام ٢٠١٧، بمكتبه بدار الهلال، سألته عن محاولة الجماعة الإرهابية اغتياله عام ١٩٨٧، بإطلاق النار على سيارته بالقرب من ميدان التحرير، فكانت إجابته التي اختتمها: «أنا غير قابل للإرهاب».

 

الأستاذ مقاتل شرس في كل معاركة، خاصة الفكرية، غير قابل للإرهاب، فقد أجرى سلسلة حوارات تاريخية بعد ذلك ٢٠٠٢، داخل السجون مع الجماعات التكفيرية، وأسهم فيما عُرف بالمراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية، التي انتهت باعتراف قيادات الجماعة بأخطائها الفقهية، وإبطال مفعول القناعات الفكرية التي بموجبها استقطبت شبابًا مغيبين، باسم الدين، وسالت بسببها دماء أبرياء.

 

الأستاذ  مكرم، عملاق، يندر أن تُنجب الصحافة مثله، علامة فارقة في تاريخ المهنة، ستتدارس تاريخه الأجيال، مقاتل، مهني مشتبك مع الواقع على مدار الساعة، شرس، لكنه خفيف الظل، حتى في حالات انفعالاته الغاضبة، تجد نفسك تبتسم، لأنه يتحدث دائمًا من أعماق قلبه، بكل صدق، واقعي، رجل أفعال، يرفض «الحنجوريين»، كثيرًا ما كان يقول: لا يمكن خداعي، "فقد جبت المهنة زحفًا من البداية".

 

الأستاذ  مكرم، لا تسع مآثره المقالات، فلم أبالغ عندما قلت إن الكتابة عنه تمتد إلى مجلدات، نسأل الله له العافية، والشفاء العاجل، ليعود لنا ويُضيف مزيدًا من القيم والعلم، والمهنية، والبهجة.

 

هذا المقال نُشر ١٥ يوليو 2020، أعيد نشره اليوم، فقد رحل الأستاذ القدير إلى دار البقاء، أسأل الله له الرحمة والمغفرة وجنات النعيم ولأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.

 

[email protected]

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز