عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
عاشق الشاشة الصغيرة.. وصانع كتب الصغار "١-٢"

عاشق الشاشة الصغيرة.. وصانع كتب الصغار "١-٢"

 الرسم، على أنواع شتى، هو التآلف بين الفكرة المنحجبة، والصورة البادية للعين، وهو حركة، ومضة، انفعال، جاء الفنان يصورها جميعها، بالحبر وباللون.



والدرب بين خاطرة الفنان وانفعاله، والريشة والحبر واللون، طويلة مؤلمة، لا يؤتيها الفنان من الموهبة فقط، إنما من خبرات الغير، والاستفادة منها للوصول إلى تحقيق ذاته.

لذلك فإن اللوحة، إن كانت تشكيلية، أم رسم كاريكاتوري، هي وعاء خواطر الرسام ولواعجه. والرسام الذي تمكث رسوماته في مطاوي النفوس طويلا، هي التي تطلع في الورق، أصدق تعبيرًا، أشد ألمًا، أكثر إشراقا، يبهر العين ويدخل القلب ويسكن العقل.

رمسيس واصف زخاري، هو واحد من هؤلاء الرسامين الذين استفادوا من خبرات وتجارب أساتذتهم وأقرانهم والمحيطين بهم، فرسم، وأبدع، وأبهر، حتى في تعليقاته الطريفة الساخرة، عن الواقع السياسي والاجتماعي، فدخل دائرة مبدعي فن الكاريكاتور في مصر المحروسة.

 

لم تطأ قدماه حرم كلية الفنون الجميلة، ومع ذلك أبدع في فن الكاريكاتور.

درس العلوم التجارية، لكنه شغف بالفن لا بالأرقام والحسابات، جذبه التمثيل، وأحب الشاشة الصغيرة إلى حد العشق.

وقد مشى على درب الذين سبقوه من طلاب الجامعات، الذين خطفهم الفن والأدب، والشواهد كثيرة:

عادل إمام وصلاح السعدني ومحمود عبد العزيز: من الزراعة وعلومها إلى المسرح والشاشة، يحيى الفخرانى وعزت أبو عوف: من الطب إلى التمثيل، أحمد مظهر من الحياة العسكرية إلى الحياة الفنية، أحمد بهاء الدين، فتحي غانم، رؤوف توفيق، صالح مرسي… والعدّ على الأصابع لا ينتهي…

مثّل رمسيس واصف زخاري، كهاوٍ، في عدد من الأفلام منها: ”توت توت”، ”عليه العوض”، ”بنات في ورطة”، ”يا ناس يا هو”، ”الجبلاوي”، ”الواد سيد النصاب”… كما كان له نصيب في المشاركة في عدد من المسلسلات التلفزيونية، منها: ”دموع في صاحبة الجلالة”، ”المرأة أصلها نمر”، ”أهل الطريق".

ولأن الفن لا يطعم خبزًا، ففي أحيان كثيرة عمل رمسيس محاسبا في “مؤسسة الدواجن”، وهي هيئة حكومية أنشئت على عهد جمال عبد الناصر، وقد اعتبرت، حينذاك، إنها أحد الحلول لمواجهة أزمة الأمن الغذائي، وانتشرت معها “الجمعيات التعاونية” لتوزيع المعونة، فكان لكل عائلة الحق في دجاجة واحدة، كيس سكر وزجاجة زيت… وأمام تلك الجمعيات، كان الناس يقفون طوابير على مدى ساعات طويلة لنيل تلك “المعونة”، وفي أحايين كثيرة، كانت تنفد الكميات المرسلة قبل أن يصل دور العديد من الواقفين تحت وهج الشمس، أو رذاذ المطر، في الطابور الطويل!

وأذكر جيدا أن رمسيس، عندما انضم إلى أسرة “صباح الخير”، وكان لم يزل يعمل في “مؤسسة الدواجن”، أحرجه بعض الزملاء بأن طلبوا منه العمل على زيادة حصصهم، فكان رمسيس، بتهذيب فائق، يفهم الذين يلحون عليه بطلباتهم، أن أمانته تمنعه من التصرف خلافا للقانون.

ولم يطل الأمر برمسيس، إلا أن ترك الوظيفة “الميري”، وأسلم نفسه ووقته لريشته، وتفرغ لفن الكاريكاتور.

ذات صباح، وكنت بكرت في الوصول إلى مكتبي، تلقيت اتصالا من الصديق الأحب إلى قلبي، كمال الملاخ، (برد الله ثراه)، الذي عوّدني على الاتصال بين حين وآخر. إلا أن مكالمته في ذلك الصباح كانت خاصة، كما قال، ولم يبطل الحديث فيها عن شاب، سيكون له شأن في فن الكاريكاتور، إن أفسح له المجال وأعطي فرصة إبراز موهبته، وهو إلى ذلك، على درجة عالية من الثقافة.. وسماه لي، وألح عليّ في مقابلته، ومساعدته على الانضمام إلى “صباح الخير “.

في الموعد المضروب، دخل عليّ رمسيس واصف زخاري، فلفتني ظرفه الحلو، على ذكاء حاد، كامل الفكر، سريع الإجابة. بهرني ما حمل من رسومات، تشعر معها أن ريشته مشغولة بهموم الناس، وخطوطه جريئة وجديدة على فن الكاريكاتور.

احتضنته وقدمت رسوماته على صفحات”صباح الخير“، فعرف واشتهر، وبات ملء السمع والبصر، فاستعانت به وزارة السياحة في بورصة برلين للسياحة في رسم الشخصيات الزائرة، ضمن حملتها لتنشيط السياحة.

دارت ريشة رمسيس واصف زخاري، على مختلف أطوار المعايشة، عبر بتلقائية عن معاناة المصري العادي، المطحون، الكادح، فالوطن الذي يعج بالغادين على العيش، فتزحم المناكب المناكب، كان لهم في رسومات رمسيس نصيب، فتح العيون على قضاياهم ومعاناتهم. وتعليقاته الواخزة الناعرة بسخريتها والمؤلمة في آنٍ، عن الحال السياسية، وضعته، مع غزارة إنتاجه، جنبا إلى جنب مع الذين جاءوا إلى “صباح الخير“، رسموا وأبدعوا وتركوا بصمات ريشاتهم للزمان و…  رحلوا.

                                                                 

كان رمسيس واصف زخاري، يحمل البسمة والتفاؤل على وجوه المدمنين على “صباح الخير”، وعلى زاويته الخاصة على صفحاتها: “يا تليفزيون يا…”، وبريد المجلة كان يتخم يوميا بالرسائل التي تطري ريشة وإبداع رمسيس، وبأخرى تقترح عليه أفكارا لتناولها بريشته المبدعة.

ونجاح تلك الزاوية، وإقبال القراء عليها، جعل سامية صادق، رئيسة التليفزيون، ترغب وتتمنى تحويل ما يرسمه رمسيس في “الصبوحة”، إلى برنامج حوار بالكاريكاتور، واقترحت أن يطلق على البرنامج اسم : ”مع رمسيس”، اقتنع الرسام المبدع بالفكرة، ورفض الاسم، وأصر أن يطلق على البرنامج اسم زاويته الخاصة في المجلة “يا تليفزيون يا …”، و هكذا كان.

أعد وقدّم رمسيس أولى حلقات برنامجه سنة ١٩٨٤، وبدأ  بأصدقائه: عادل إمام،  فاروق الفيشاوي، محمود ياسين، شهيرة … واستمر يعدّه ويقدمه ويبثه التليفزيون المصري، خلال شهر رمضان، على مدى عشرين سنة متواصلة.

 

كان رمسيس، ينتظر كل شيء، إلا أن يؤخذ عليه أنه مسيحي!

فقد واجهته هند أبو السعود بقول ناب ممجوج: “مالك و مال رمضان… رمضان ده بتاعنا إحنا”.

كانت بصفاقة ظاهرة، غير مألوفة في هاتيك الزمن في الوسط الإعلامي والفني، تعترض على تقديم برنامج “يا تليفزيون يا …” في التوقيت نفسه الذي كانت تبث فيه القناة الثانية برنامج شيخ الأزهر، فقد دلّت الإحصائيات، أن عدد المشاهدين لبرنامج رمسيس يفوق ثلاثة أضعاف الذين يتابعون برنامج شيخ الأزهر.    

خلال زيارة الرئيس حسني مبارك لمبنى “ماسبيرو”، بيت التليفزيون المصري، طلب لقاء الفنانين ومعدي البرامج، في استوديو رقم ٥. لما رآه، أومأ له، فتقدم رمسيس من الرئيس مبارك، الذي كان واقفا إلى جانبه صفوت الشريف، وزير الإعلام، فبادر الرئيس: “إيه الحكاية… ليه وقفت برنامجك؟”.

لم يشتك رمسيس، ولم ينقل له ما قالته هند أبو السعود، فهو كلما عتا خصمه، صفا وراق وأفاض ما عنده أشبه ما يكون بالجدول الرضي، وبكبر وتعال واعتزاز بالنفس، أجاب الرئيس مبارك:

“البرنامج يا سيادة الرئيس متوقف لأننا نعيد النظر فيه لتطويره، ليس إلا…”.

ولم يقتنع الرئيس حسني مبارك بالإجابة، استفسر، وعرف ما كان ودار، وتدخل الدكتور مصطفى الفقي، المسؤول، وقتذاك، عن مركز المعلومات في رئاسة الجمهورية، فأصدر مبارك قرارا رئاسيا يقضي بإيقاف هند أبو السعود، وعودة برنامج رمسيس من جديد إلى الشاشة الصغيرة التي عشقها الرسام.

وكان مبارك طلب من رمسيس، بغية رفع الوعي عند مشاهديه الكثر، أن يحوّل البرنامج من استضافة الفنانين وحدهم، إلى استضافة العلماء في المجالات شتى، إلى جانب المثقفين المتنورين، وكان للرئيس ما أراد.  ومن أكثر الحلقات مشاهدة وإثارة للجدل، كانت تلك التي استضاف فيها فريد الديب المحامي المعروف وزوجته، وهو الذي تولى الدفاع عن الجاسوس عزام عزام، وأثار المحامي في الحلقة مسألة الأخطاء القانونية في الدراما. وازداد عدد المشاهدين، وأصبح البرنامج حديث الناس، ونقاش لجنة “مهرجان الإذاعة والتليفزيون“، التي أجمعت في دورة المهرجان سنة ١٩٩٠، منح “يا تلفيزيون يا …” جائزة أفضل برنامج، وكانت الجائزة حصرما في عيون الذين تسببوا  لفترة في إيقاف البرنامج، بسبب الحقد والكراهية.

 

ترك رمسيس واصف زخاري، سبعة أجزاء من كتاب “يا تلفزيون يا…”، و كتاب “حكايات ورحلات رمسيس”.

كان ذلك الرسام الملهم المبدع في الرصفاء، أثبتهم على عهد، وألطفهم في ظل، وأسرعهم في تغمد المؤاخذة، وأمدّهم في بذل المشورة، ترك سمعة ولا أنقى ولا أصفى، وفنا من النوع الذي يبقى على مر الزمان.

من سبع سنوات أطبقت عليه راحة القبر، كان في التاسعة والستين، ومن سنوات عشر مات عنا  فنان آخر لا يقل إبداعا وعطاء: محيي الدين اللّباد.

 

وللحديث بقية إن شاء الله

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز