عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
صلاح جاهين الضحكة الباكية

رباعيات الجرح والغضب عبور شفاف إلى الوجدانية العاشقة وانكسار الوطن

صلاح جاهين الضحكة الباكية

غمست سنك في السواد يا قلم



علشان ما تكتب شعر بيقطر ألم

مالك جرالك  إيه يا مجنون

وليه؟

 رسمت وردة و بيت و علم

 

كأني به، في هذه الأبيات الأربعة، التي تمور بصدق العاطفة، يروي قصة حياته:  الشاعر الحزين، و الرسام الهزال، والحبيب لإمرأتين، كانتا حب حياته، « ورجل بيت »، يرعى بحنان أولاده من المرأة الاولى، و من المرأة الثانية، و وطن، قدّس أرضه، و عَلَمه، و ناسه، و مات حسرة على الأرض، و العَلَم، و الناس.

 

الحياة قست له، فتردى بين شكوى الدهر و الأمل، يبدع خطوطًا، و ألوانًا، و شعرا، و نثرا، و عشقا للمسرح    و الفن السابع.

نديم، من نادمه و جلس اليه، إعتبره من أصفى الندماء، مُداعب، هزال، متقلب المزاج،  صعب المراس، كئيب، حزين، فرح، متألم، فريد بشخصيته، فريد بذاته.

هوّذا صلاح جاهين.

---

 

محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي، و الإسم الطويل، أُختُصِر الى صلاح جاهين.

 

والده المستشار بهجت أحمد حلمي، من وكيل نيابة، الى رئاسة محكمة إستئناف « المنصورة »، رحلة في سلك القضاء، وحل و ترحال، بين القرى، و النواجع، و المدن، و بعد ١٢سنة إستقر به المقام في القاهرة.

 

يخبر صلاح جاهين عن تلك المرحلة من حياته، في الفيلم التسجيلي « العبد لله و الناس »:

 

 « كنت خايف في القاهرة، و فضلت خايف منها يجي عشر سنين، بالضبط زي الإنسان الأول ، لما كان يرسم الحيوانات اللي كان يخاف منها على جدران الكهف، عشان يتغلب على خوفه، أنا  بقى ما رحش الخوف مني، و حسيت أني أمتلك القاهرة، غير لما عملت الليلة الكبيرة ». 

 

 وكان يقصد الأوبريت التي كان كتبها لمسرح الدمى المتحركة (العرائس).

 

 

Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1434.JPG                                 Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1448.JPG     

             جاهين و سيد مكاوى أثناء                          جاهين مع عبد الحليم حافظ و كمال الطويل    

                بروفات برنامج "المسحراتي"                     وأغاني ثورة يوليو 1952                                 

 

وقلق التنقل، والترحال المستمر، من مدينة الى  مدينة، و من قرية الى أخرى، أسهم في نمو الحس الفني لدى صلاح، عشق الحياة الريفية، تأثر بحياة الفلاحين البسيطة، و بعاداتهم، و تقاليدهم، و حكاويهم، و مواويلهم…  و قد ترجم هذا الحس، والوله، والعشق، في أول أعماله « سوق بلدنا »، و قد وضع في هذا العمل لوحات غنائية، فولكلورية، عن الأسواق الريفية.

 

جدّه لأبيه، أحمد حلمي، كان كاتبا ثائرا، طلع على الناس في جريدة « اللواء »، بفرائد كان لها بينهم صوت و جرس، ومشى في درب الكفاح الوطني جنبا الى جنب مع مصطفى كامل، و محمد فريد، فكرمته الثورة، بشارع على إسمه في « شبرا».

 

في المنزل رقم ١٢ شارع جميل باشا في « حي شبرا »، فتح الوليد صلاح عينيه على النور، كان ذلك في ٢٥ ديسمبر ١٩٣٠.

 

و«حي شبرا»، لمن لا يعرف، كان زمن الفاطميين، مغمورا بالمياه، ضمن مجرى النيل، ولم يُرسم على خريطة المحروسة، إلا في القرن الثالث عشر، عندما إلتحم المجرى بالأرض.

 

و« شبرا »، لفظة مشتقة من كلمة « شبروا »، أو « جيرو »، و هي قبطية الأصل ، تعني « الكوم »، أو  « التل ». 

 

قديمًا عُرف « شبرا » بانه حي الفنانين، فقد سكنه علي الكسار، و سراج منير، و ماهر العطار، و محرم فؤاد، و يوسف شعبان، و بليغ حمدي، و فيه ولدت يولندا كريستينا جيغليوتي في ١٧يناير١٩٣٣، التي أصبحت سنة ١٩٥٤ ملكة جمال مصر، إنتقلت بعدها مع عائلتها الى فرنسا، و إتخذت إسم داليدا عندما بدأت الغناء.

---

 

أمّه، أمينة حسن، كانت « حبه الأبدي »، خريجة مدارس الإنكليز، مربية، إنصرفت الى التدريس، و لمّا تزوجت، تفرغت لتربية أولادها، و السهر على تدريسهم. و كانت مدرسة صارمة، يعترف صلاح: « أنا أخذت كل عقاب أطفال المدرسة لوحدي ».

 

أفضل الأوقات، عنده، ساعة يجلس الى أمه، فتبدأ تقصّ عليه روايات الأدب الإنكليزي بطريقة، مبسطة و مبهرة.

 

ومع العلم و الأدب أخذ صلاح عن أمه الحس الوطني، ثائرة كانت، أصرت أثناء دراستها، على أن تقابل سعد زغلول باشا في منزله، و كان لها ما أرادت، دخلت « بيت الامة »، إلتقت الباشا، و «أم المصريين » السيدة صفية، و شاركت في التظاهرات النسائية... هذه النزعة النضالية، تشربها صلاح، و إنعكست على مواقفه السياسية، و الوطنية، فيما بعد.

 

وكانت أمه الصدر الذي يرخي عليه رأسه المتعب، المثقل بالهموم، ترد عنه عوادي الزمان، و غدرات الأيام، تبلسم جرحه، تحنو عليه لحظة التشرذم و الشرود.

 

« مولاتي »، كان يطلق عليها، و أولى هداياه لها، و هو بعد طفل، « قرط »، ضفره من عيدان الدرة، على شاكلة قلب، إحتفظت به الست أمينة حتى وفاتها.

 

---

لما أتّم دراسته الثانوية، رغب والده أن يدرس القانون، فدخل صلاح كلية الحقوق، كرمى لوالده، غلب عليه الميل للرسم، فترك الحقوق، و القوانين، والكتب السميكة، و أقبل يدرس الفنون الجميلة،  إلا إنه لم يُكمل حتى دراسة الفنون، فترك كليتها!

 

كان شيئًا في داخله يريد الإنعتاق من أسر المناهج، و الكتب، و يريد أن يطل سريعا الى النور، أن يعلن للملأ مواهبه وإبداعاته.

 

و إنتظر الفرصة، فجاءته عن طريق أحمد بهاء الدين.

 

سنة ١٩٥٥، لما ترك الرسام عبد السميع، « روز اليوسف » الى « الأخبار »، و الأخوين مصطفى و علي أمين، فتح إحسان عبدالقدوس أبواب المؤسسة أمام الرسامين الشباب. سنتها انضم صلاح جاهين الى « روز اليوسف »، سكرتيرا للتحرير، وطمس موهبة الرسم، وتكتّم عن ولعه به، وبالكاريكاتور تحديدًا، الذي لم يخف تأثره بما كان يبدعه هاكوب صاروخان و عبدالمنعم رخا، ولم تستقم ريشته إلا بتأثره بهما.

 

وكان صلاح، عندما يجد متسعا من الوقت بعد إتمام عمله المُتطلِب في سكرتارية التحرير، يخلد الى مكتبه، يسبح قلمه على الصفحات البيضاء، و يبدأ يكوّن الخطوط، و تطلع الرسامات الهازلة.

 

ذات يوم، و جريًا على عادة منه، تفقد أحمد بهاء الدين المكاتب، عرج على مكتب صلاح جاهين، لم يكن فيه، فاسترعت إنتباهه الأوراق المبعثرة على طاولة المكتب، بَهَره الرسم الهازل، الذي مسح عينه فيه لواذع النقد،  وجرأته، و هما من لزوم الرسم الكاريكاتوري، إضافة الى الإبداع  في التنميق و تظهير الفكرة، و كانت آية في براعة الفكاهة، و حلاوتها. فأدرك أحمد بهاء الدين، إنه أمام رسام موهوب، إذا أُعطي فرصة، نما فنه، وأبدع، فشجع صلاح على الرسم، وخفّف عنه أعباء سكرتارية التحرير، كأنه كان يُحّضره لمرحلة جديدة من حياته.

---

 

لم يمض كثير وقت، حتى كان بهاء الدين يُكلف بإطلاق مولودة جديدة لمؤسسة « روز اليوسف »، إسمها  «صباح الخير »، فنُقل صلاح جاهين الى المجلة الجديدة.

 

في ١٣ يناير سنة ١٩٥٦ صَدَر العدد الأول من « صباح الخير »، فوجىء القرّاء برسومات جديدة، مختلفة، لم يألفوا مثلها من قبل، فأنَسوا لها، لأنها كانت تشبههم، لا تبرج فيها ولا تزويق، تشبه جيرانهم، و جيران الجيران، و تنقل صورًا عن بيوتهم، و بيوت ذويهم في القرى النائية، و شاهدوا في تلك الرسومات المقاهي التي يرتادونها، و دوائر الدولة، و الموظفين الكسالى، المتقاعسين، و دكاكين أحيائهم، بائع الخضار الجوال، و الحانوتي، عيادات الأطباء، و… مناحي حياتهم في خطوط منمقة، بديعة، تحكي حكايتهم، و ترسم همومهم على الورق، تنتقد، تلدغ، و تلسع، تُضحِك، تُدمي، تُحزِن، و تُبكي.

 

وأسبوع بعد أسبوع، أصبح صلاح جاهين، مترامي الذكر في جميع الآذان و…بعض القلوب.

 

أحّب الناس في « صباح الخير » شخصيات صلاح جاهين الكاريكاتورية، كانوا يتشوقون لرسوماته « قيس و ليلى »، وما يدور في « قهوة النشاط »، وينتظرون « الفهامة »، و«درش ».

 

 

Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_6704.JPGDescription: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_6708.JPG  Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_6703.JPG  Description: C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_1470.jpg

 

---

 

التلوّن في شخصية صلاح جاهين، يدل على إنسان مبدع، خلاق، مقبل على الحياة، يأخذ من جوانبها الجادة و الهازلة بطرف

أوتي من نفاذ البصيرة، و الموهبة، ما لم يؤته إلا الأقلون  في كل زمن. و لم يتعب من التنقل بين أنواع الفنون المتعددة، فكانت له فيها إجادات، وممتعات: رسم فأبدع، و تميز، ومد بساط النكتة في فن الكاريكاتور، سبح قلمه في فن « الأوبريت »، فنظم أوبريت « الليلة الكبيرة » لمسرح العرائس (الدمى المتحركة)، أخرجها وقتها صلاح السقا، و صمّم الدمى ناجي شاكر، و لحنها سيد مكاوي لينشدها كل من محمد رشدي، حورية حسن، سعاد مكاوي، و أوبريت ثان « القاهرة في ألف عام » . أحب السينما، فكتب « خللي بالك من زوزو » الذي إستمر عرضه في السبعينات ٥٤ أسبوعا متواصلا، و« شفيقة ومتولي»، و« المتوحشة »، و«أميرة حبي انا »، و أنتج « عودة الإبن الضال »، و مَثّل في ثلاثة أفلام.

  

                   Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1429.JPG    Description: 7 حقائق مدهشة عن صلاح جاهين | زحمة                  Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1430.JPG 

جاهين مع سعاد حسني بطلة أفلامه  ورشدي أباظة في فيلم "لا وقت للحب"  وشادية في فيلم"اللص والكلاب"     

 

وأيا كانت إنجازاته، في الكاريكاتور، أو في السينما، فإن شعره باقِ وحده على مر الزمان.

 

ولا غرابة في ذلك، فالصورة الكاريكاتورية، سرعان ما تبهت في الذاكرة، كذلك الشريط السينمائي الذي يتقادم،  و يُنسى، أما الكلمة المنظومة، و خصوصا إن كانت تلمس قلبا، أو تضغط على جرح، أو تحكي عن قضية مُعاشة، فهي تُحفَر في الذاكرة، وتبقى من طفرات الكلام في دورانه على شؤون الدنيا.

 

بين صلاح جاهين الرسام والسيناريست، وصلاح جاهين الشاعر، هوّة، فبقدر ما أبدع في رسمه، وفي الأفلام التي كَتَب، بقدر ما ظل شعره مثل حجر Alexandrite الكريم، يتغير بريق إشعاعاته، مع كمية الضوء، و زوايا سقوطه على مدار اليوم… ولعمري، تلك سمة الإبداعات التي لا تموت، بل تعبر الأزمان و الأماكن، ورباعيات  صلاح  جاهين  من تلك العينة.

---

 

ذات صباح سنة ١٩٥٩، عندما كان صلاح جاهين يجّد في طريقه الى مكاتب « روز اليوسف »، ألحت عليه أربعة ابيات. توقف  في الشارع، أخرج دفتر صغير من جيب سترته، فتّش عن القلم، وضع الدفتر على ظهر إحدى السيارات المركونة بمحاذاة الرصيف، دوّن الأبيات الأربعة التي كانت تنغل في ذهنه تريد أن ترى النور،  و كلما أراد أن يُضيف على تلك الاأبيات أبياتًا أخرى، كان يعصاه القريض، و يتجمد القلم بين أصابعه، و يأبى أن يكرج على الورق.

 

دخل مكتب أحمد بهاء الدين، يشتكى من عدم قدرته على زيادة بيت واحد على الأبيات الأربعة .

قرأ على الأستاذ الأبيات:

 

مع إن كل الخلق من أصل طين

و كلهم بينزلوا مغمضين

بعد الدقائق و الشهور و السنين

تلاقي ناس أشرار و ناس طيبين

إنتشى أحمد بهاء الدين بهذه الأبيات و هتف منشرحا:

« إنت عايز تزيد على الأبيات …ليه، هي مكتملة، معناها عميق و كاف ».

و طلب منه أن يكتب أربعة أبيات كل أسبوع .

« إنها الرباعيات… سميها رباعيات ».

قال أحمد بهاء الدين و طار بزهوه.

ووُلدت « الرباعيات »، كتب منها ١٦١ قصيدة، جمعت و نشرت في كتاب، (بيع من طبعة « الهيئة العامة للكتاب » ١٢٥ الف نسخة).

 

إعتمد صلاح جاهين في نظمه الرباعيات، على أن يكون البيت الأول  والثاني لعرض الموقف أو الحالة، بينما في البيت الثالث ذروة الموقف الشعري، و الرابع يحمل البعد الفلسفي و الإنساني.

 

 وهو نحا فيها نحو « إبن عروس »، محمد بن عبدالله، صاحب الرباعيات، (و ربما إستقى بهاء الدين الإسم منه و ليس من رباعيات الخيام كما يُظَن)، و نهج نهجه في تقسيم الأبيات. فرباعيات « إبن عروس » من بحر « المجتث »، الذي يتكون من التفعيلة » مستفعلن فأعلن »، و تتكون كل رباعية من أربعة شطرات متبادِلة القافية، البيت الأول والثالث قافية، والبيت الثاني والرابع قافية موحدة، كقوله:

 

من حبنا حبيناه

صار متاعنا متاعه

ومن كرهنا كرهناه

يحرم علينا اجتماعه

 

مع إختلاف، إن البيت الثالث في رباعيات صلاح جاهين لا تتماشى قافيته مع قافية الأبيات الأخرى، كقوله:

انا شاب لكن عمري ولا الف عام

وحيد ولكن بين ضلوعي زحام

خايف ولكن خوفي مني انا

اخرس ولكن قلبي مليان كلام

 

تحت عنوان: "صلاح جاهين الشاعر والانسان "، يؤكد الناقد الراحل رجاء النقاش، أن طاقة صلاح جاهين الشعرية تجسدت في قمة إبداعاته الشعرية في قصيدة مؤثرة بعنوان " بكائية " قال فيها :

 

نزل المسيح من ع الصليب 

نزل و نام 

في مرج دمع 

من غير قميص

و ثلج شمع 

و المجدلية تميل عليه و تنوح .. تنوح

تنده عليه 

تلاغيه 

تولول 

تحتضنه 

تندب عليه و كأنها بتهنِّه

تجدل مهده من جدايل شعرها

وتدفئه في صدرها

مارضعش منها إلا جرح من الجروح.

 

فنزول المسيح من فوق الصليب و نومه في “ مرج دمع “ تعبيراً عن الحزن ، و المجدلية نبع من منابع الحنان  و الحب ، و إتساع الخيال الشعري في هذا الربط وحسن التعبير من خلالالقدرة علي رسم الصورة الشعرية     و بناء الموقف الشعري .

 

لم تمنعه ثقافته الإسلامية من معرفة و إستخدام رمز مسيحي شهير ، و هو “ يوحنا المعمدان “ الذي كان يوصف بالصوت الصارخ في البرية لقوته و شجاعته في المجاهرة بالحق ، فنشرت جريدة الأهرام رسما كاريكاتورياً شهيراً له ، و قصيدة رائعة في رثاء الرئيس الأمريكي جون كيندي بعنوان “ يا جون .. يا يوحنا المعمدان “ ، مطلعها :

 

يعني كان لازم  تطاطى و تغسل الرجلين يا " جون “ ؟ 

يعني كان لازم يفيض بيك الكرم ،

وتفيض بروحك ع الغيطان 

يعني كان لازم تموت ؟ ..

 

عشان أفتح محارة قلبي عن كلمة حنان ..

مرة في العمر ، لمليونير من البيض 

الجبابرة الأمريكان

بس إنسان ؟ ..

 

و أجدني أتفق مع الدكتور محمد عبد المطلب، الذي أحصى المفردات اللغوية التي تضمنتها الرباعيات، فكانت النتيجة لافتة، ذلك أن المفردات تبلغ ٣٦٤٣ مفردة فيها ٣٩٦٠ مفردة فصيحة و٦٣٨ مفردة عامية، و النسبة بينهما 82 % للفصحى  و   18%  للعامية، و معنى هذا أن الرباعيات تنتمي للغة الفصحاء على نحو من الأنحاء، حتى أن بعض الرباعيات جاءت مفرداتها فصيحة خالصة ».

 

إن كل رباعية كتبها صلاح جاهين، ومضة، قيمتها إختصارها، عبارة جزلة اللغة، ذات مضمون حياتي، سلسة، لطيفة التصوير، مستملحة، قريبة من القلب، تسكنه متربعة، و فيها عشق، و وجع، و جراح، و ثورة، و غضب.

 

يُحيّرك صلاح جاهين في رباعياته، هل هو يضحك و هو يعلن قسوة الحياة، أم يبكي و ينوح؟ هل هو خائف، هلوع أم مطمئن، فَرِح أم حزين، مستسلم للحياة راض بالمقسوم، أم يعيش محنة التيه الأبدي، رافضا، ثائرا، منكسرا كسور الزمن و ما يحرق و لا يسعد…

 

لن تجد أجوبة عن أسئلتك، و أنت تمسح عينيك على تلك الومضات المتعجلة، التي تخطفك الى مطارح الدهشة، و المخيلة الخصبة. وكل ما تعرفه، إنك و أنت تفّر الصفحات  بأصابعك إنك منتش بما تقرأ.

 

---

 

في سجن مبني من حجر

في سجن مبني من قلوب السجانين

قضبان بتمنع عنك النور و الشجر

ترى العبيد مترصصين 

 

قرأ صلاح جاهين هذه الأبيات مرات عدة، ما قرأ في الشعر العامي ما يجاريها، تهلل صوته، طوى الجريدة، و لم يهدأ عن الإستفسار عن ناظم تلك الأبيات، و راح يفتش عن فؤاد حدّاد، الخارج وقتها من المعتقل.

و إلتقاه:

« أنت رابع شعراء العامية  في مصر بعد إبن عروس و النديم و بيرم  ».

 

 

Description: C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_1451.jpg            Description: C:\Users\acc\Desktop\IMG_6712.JPG                     Description: C:\Users\acc\Desktop\IMG_6713.JPG

صلاح جاهين و فؤاد حدّاد              مني قطان مع سعاد حسني       وعماد حمدي في فيلم" أميرة حبي أنا"

 

وفؤاد حدّاد، لبناني الأصل و التربية و التعليم، مصري الإقامة والدار و المثوى الأخير، على هوى ماركس و لينين كان، وبسبب من عقيدته الراسخة، دخل المعتقل ثلاث مرات، آخرها أطولها، تمددت على سنوات ست.

 

إعترف صلاح جاهين بفضل فؤاد حدّاد عليه شعريا فقد أشاد بتجربته الشعرية الزائدة و قوة مضمونها التي وقف أمامها وأفاد منها كثيراً ، فشاعرية حدّاد كانت تعتمد علي معرفة وثيقة بالشعر الكلاسيكي ، وتستفيد من الشعر الفرنسي في طفراته نحو التجديد والحداثة.

 

ولأنه فتح له اللغة الفرنسية، كما لم يفتح لغيره، إذ دَرَسها في مدرسة « الفرير »Frères (الإخوة الدارسين)، ثم في « الليسية الفرنسية »  Lycée Français .

 

راح فؤاد حدّاد يترجم أعمال الشعراء السرياليين لوي أراغون Louis Aragon، بول إيلويار  Paul Éluard ،   و بيار ريفردي Pierre Reverdy، و أعمال رائد المدرسة الرمزية بول فاليري Paul Valéry.

 

وضع بين يدي صلاح جاهين أعمال هؤلاء، و لفتَه الى أساليب جديدة في الكتابة الشعرية و الأدبية، و جعله يتأثر مثله ب « المدرسة الاجتماعية » Unanismiste، التي كان رائدها بول إيلويار.

 

و مضى فؤاد حدّاد في تأثره بالأدب الفرنسي، فحوّل رواية « الأمير الصغير»Le Petit Prince  للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري Antoine de Saint-Exupéry الى مسرحية غنائية بالعامية المصرية.

 

ومثلما عبّر فؤاد حدّاد عن التراث الشعبي، فَعَل صلاح جاهين، فكتب عنه « المسحراتي » فؤاد حدّاد:

 

« إن من يستمع الي الليلة الكبيرة ينعم بالمشاركة في الأصالة المصرية الأصيلة، و في الوجدان الشعبي الصميم ».

 

و علاقة « المسحراتي » فؤاد حدّاد بصاحب « الرباعيات»، لم تنته بعد وفاتهما، بل توجت بعلاقة النَسَب لتكمل مسيرة الغناء والكتابة فشكل الأبناء و الأحفاد فرقة " الشارع " التي تضم الإبن أمين حدّاد زوج السيدة أمينة إبنة صلاح جاهين و سلمي حدّاد " الحفيدة ".  

                                                

Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1431.JPGDescription: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1439.JPGDescription: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_6707.JPG

 

جاهين مع زوجته الأولي و مع أطفاله بهاء وسامية

---

 

بين توفيق صالح، المخرج المعروف و صلاح جاهين، عشرة، و ود، و رفع كلفة، فلمس أن الاكتئاب بدأ يتكمش بصديقه، فعنّ عليه خاطر  بأن يضم جاهين الى « شلة الحرافيش »، لعل ذلك  يُسهم  في تخفيف حالات  الإحباط و الإكتئاب التي تلفه، و تستولي عليه، خصوصا أن في الشلّة من يعرفهم و يعرفونه، و على رأسهم شيخ الحرافيش نجيب محفوظ، أحمد مظهر، عادل عفيفي، عادل كامل، بهجت عثمان (بهاجيجو)، صبري شبانة إبن عم عبد الحليم حافظ، إيهاب الأزهري، جميل شفيق، و أعضاء زائرين « غير مداومين »، كما كان يُطلق  عليهم شيخ الحرافيش، و هم مصطفى محمود، لويس عوض، أحمد بهاء الدين، ثروت أباظة…

 

و « الحرافيش »، إن أنت سألت، أجابك أحمد مظهر، بأن الكلمة في الأصل مكونة من كلمتين: « حارة »     و « فيش »، أي أناس لا ينتمون الى حارة معينة.

 

و تغوص أكثر في أصل الكلمة، فتجد إنها « العوام »، أو، « الزعر »، كما أُطلق على الطبقة الشعبية الكادحة من سكان مصر، في بداية العصر المملوكي، و لحق الإسم بهؤلاء حتى نهاية الزمن العثماني.

 

و«الحرافيش»، لمن يربد إستزادة، هم أجداد الثوار المصريين ، في أيامنا هذه، و هم ملح أرض مصر  وأصلها وفصلها، ومنهم إستوحى و إستلهم نجيب محفوظ شخصيات « ملحمة الحرافيش » سنة ١٩٧٧.

و لعل ما نَظَمه صلاح جاهين بهم، يفي الغرض:

 

الخلق صنفين و تالتهم يا حسرة ما فيش

صنف إبن شياطين فتوّة يعيش بالتهميش

و صنف غلبان يا عيني ماشي جنب الحيط

و هما دول  اللي يسمومهم حرافيش

الكورال : الحرافيش شغالة عتالة الحرافيش رجالة.

 

قهوة « قُشتمُر »، المزروعة مثل نبتة برية، في زقاق ضيق في « حي الجمالية »، باتت مَعلمًا، فعلى كراسيها المخلوعة، و الى طاولاتها العتيقة، جلس الحرافيش، بدءًا، و تكرّرت أمسياتهم فيها، يغزلون أحاديث الأدب ،  و الشعر ، و الفن، و السياسة، ويغوصون في أعماق القضايا الملحاحة، و المعايشَة: الدين، العقيدة، و الفلسفة… و يتسامرون حول السينما و همومها، و المسرح و مشاكله، و تليفزيون « ماسبيرو » و تخُلفّه عن الرَكب… يسهر معهم الليل، و لا يتعب من السهر ، و منهم، و من الحكي.    

 

و لقد وجد جلّاس قهوة « قُشتمُر » في العضو الجديد الذي أتى به توفيق صالح، نديما من أصفى الندماء، خفيف الظل، عذب الحديث حلوه، يخضع له التعبير خضوعًا غريبًا، لرأيه وقع بين الحرافيش، ينزل في أسماعهم، و يعجبون له وبه، فكان يقول، فينصتوا، يُجادل، يقنعهم مرة، و يخالفونه الرأي مرات، و يبقى عندهم الجليس الأنيس، فصلاح جاهين من طينة الذين قد تختلف معهم، و لكنك، لا يمكنك البتة، أن تختلف عليهم.    

 

 لم ينقطع صلاح جاهين عن جلسات ليل الحرافيش إلا بعد زواجه الثاني من منى جان قطان ، التي شغلت وإنشغل بها. و غيابه ترك فراغًا في أمسيات « قُشتمُر».  « من أحب الشخصيات الى قلوبنا، لخفة روحه، و بساطته، و طيبة قلبه، و جاذبيته التي لا تقاوم ».

 

قال نجيب محفوظ عن الحرفوش صلاح جاهين، وإعترف:

« من فرط إعجابي  به، و بمواهبه، إستوحيت روايتي « قُشتمُر ».

 

وفي الرواية جسّد طاهر عبيد الأرملاوي، شخصية صلاح جاهين، الذي وصفه بأنه مثل القمر في تألقه، وينطلق الى النجاح، مثل الشهاب الوضاء.

 

---

 

 

Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1420.PNGDescription: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_6705.JPG   Description: C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_1470.jpg

 

كان صلاح جاهين من الغيارى على « ثورة يوليو »، غيرة عشماء ، بل، عمياء! 

 

شاعرها كان، و شاعر الفقراء و الغلابة الكادحين، تولّع بجمال عبدالناصر، إعتبره النبراس، و المثال، و المنقذ الذي سيخلّص البلد من متاعبها، و يأتي الفقراء بالمنّ و السلوى.

 

لم  ير لجمال عبدالناصر عيبًا، و لم يسمع عليه من خصومه حجة، سدّ أذنيه عما يقال، و بعض ما كان يقال من واقع الحال و المآل.

 

كان من موقعه في « الأهرام »، و قربه وتقرّبه من بعض أصحاب الشأن، و الحول و الطول، يقف على بدايات الصراع على السلطة، و مع ذلك رفض أن يصدق ما يقال و يُحكى. ظلّ يُنظم أشعارا للثورة، لعبد الناصر، و…لمصر.

 

 

Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1447.JPG                      Description: C:\Users\acc\Downloads\attachments (17)\IMG_1441.JPG

عبد الناصر يقلّد صلاح جاهين      جاهين وزوجته الثانية مني قطان في إحدي السهرات وسام الجمهورية

 

سنة ١٩٦٧ جاء الصيف على مصر بالحديد، و النار، و الدخان، و الإنكسار، و… النكسة.

 

لفّ الإحباط صلاح جاهين، و إنكسرت نفسه، شعر بخيبة الآمال، و إندثار الأحلام الجميلة التي كان ينتظر أن تحققها الثورة، التي نظم بها ولها أحلى الأشعار، و كَتَب عنها أحلى الكلام.

 

أحس  بعد الإنكسار الكبير، أن شيئا ما مات في داخله، فبات مثقلًا بأوجاع بلاده، فدخل في حالة التيه، كما وصفها في « تراب و دخان »:

 

 

واديني ماشي لوحدي في الشارع

معرفش رايح فين لكن ماشي

والليل علي وضع البلد غاشي

و لقيت في جيبي قلم

كتب فيه غنوة عذاب

 

إستسلم لإحباطه، الألم في داخله يدّمره، يبعده عن الناس، فانزوى في شرنقة نفسه.

في ٢١ إبريل سنة ١٩٨٦ وضع حدا لإكتئابه: تناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة. 

كان في السادسة و الخمسين من سنيه.

---

 

في « يوميات »، عموده في « الأهرام »، كتب أحمد بهاء الدين، بعد أسبوع على رحيل صلاح جاهين، مقالًا من جزءين: « جاهين و التنين »، بدا فيه مصدوما من فراق صاحب « الرباعيات » المفاجىء، و ترك غضبه في كلماته عن القيل و القال في الصحف، الذي رافق الرحيل المؤلم لمن رعاه رسامًا، و شاعرًا، و كاتبا.

 

كتب ما مؤداه هنا:

« كيف أنصفك يا جاهين من بعض الأحياء ، الذين خنقوك في حياتهم بأنفاسهم الغليظة؟ الذين كتبوا عنك وكل منهم كأنه ينزع قطعة من جلدك، يتخذها سفينته في الإتجاه الذي يريد علي حسابك ؟ ».

 

" و إنكسر قلبه الكسرة التي لا تلتئم ..هاجمه التنين المخيف ذو الأذرع المتعددة، القسوة ..الغلظة ..

 

عدم الحساسية عدم العرفان .. عدم أدراك خفايا النفس الإنسانية .. لنفس أسعدت الجميع ".

 

 

 Description: C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_6697.jpgDescription: C:\Users\acc\Desktop\IMG_6702.JPGDescription: C:\Users\acc\Desktop\IMG_1452.JPG

              

---

حاجات كتير بتموت في ليل الشتا

لكن حاجات أكتر بترفض تموت

عجبي

 

غياب صلاح جاهين يكثّف حضوره، فهو عصّي على النسيان.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز