عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الرصاصة لا تزال في جيبنا

الرصاصة لا تزال في جيبنا

جاء أكتوبر.. أهلًا أيام النصر.. تلك الأيام المجيدة.. التي يتجدد معها كل عام إحساس الفخر والعزة والكرامة.



وكأن الرجال يَعبرون الآن.. وتَعبر معهم الأمّة المصرية كلها حاجزَ الخوف والانكسار.. وصدَى صوتهم فى السماء: «الله أكبر.. الله أكبر»،  ودماء غالية لا تُفرّق بين مسلم ومسيحى هم أبناءُ هذه الأرض الطيبة، منها وُلِدُوا .. وفى سبيلها ضحّوا وعليها استشهدوا.. سلام على جيل أكتوبر.. سلام على الأرض والشهداء فى كل حين.

 

وفى كل عام نسعى لمعرفة تفاصيل أكثر عن حرب أكتوبر ومعجزة العبور.. نصر أكتوبر ليس مجرد مناسبة نتحدث عنها.. إنه الفصل الأهمُّ فى حياة الأمة المصرية.. نعم حياة الأمم عبارة عن فصول تاريخية.. تَبَدّل حالها.. تعيد رسمَ ملامحها من جديد.. فصول تضع الماضى والحاضر والمستقبل فى قوالب محددة؛ لتؤكد أن مرورَها لم يكن أبدًا مرورًا عابرًا.

 

عند الحديث عن نصر أكتوبر المجيد فنحن نقف أمام فاصل تاريخى غيّر كل الموازين العسكرية والسياسية والاقتصادية، بل إنه غيّر خريطة الشرق الأوسط.. وأعادَ ترتيبَ مُحددات القوى الدولية تجاه المنطقة بمفاهيم لاتزال قائمة إلى يومنا هذا.

 

حرب أكتوبر وإن كانت تشكل فى معناها المجرد حربَ تحرير بكل ما تحمله الكلمة من بطولات وتضحيات؛ نظل نحكى عنها ونتباهَى بها إلى الأبد.. إلّا أنها فى ثقلها الاستراتيجى فهى تشكل الحدث الأهم خلال القرن العشرين، الذي تمتد منه كل الخطوط الاستراتيجية التي تتحكم فى موازين الشرق الأوسط، سواء فى زمن مَضى أو زمن نعيشه أو زمن يحيا فيه غيرُنا..وهو ما سأسعى إلى توضيحه فى النقاط الآتية: 

 

أولا: الهدفُ الاستراتيجى المباشرُ عام 1973م والهدف الاستراتيجى الذي تحقق عام 2020م 

عندما تمكنت القواتُ المسلحة المصرية من تحطيم نظرية الدفاع الإسرائيلى يوم السادس من أكتوبر عام 1973م كان الرجال يُشعلون النارَ وينزفون الدماء على الأرض المقدسة لتحريرها وفى الوقت نفسه يُمزقون الأوراق والمفاهيم السياسية التي رَسمت مصير المنطقة منذ عام 1948م وبلغت مَداها عام 1967م والمتمثلة فى وهْم (نظرية الأمن الإسرائيلى) التي تَخلصنا منها عام 1973م لنعلن نحن عن قواعد جديدة للعبة من موقع المنتصر.. وظنى أن هذا الهدفَ الاستراتيجى المتمثل فى تحطيم نظرية الدفاع الإسرائيلى أو نظرية الأمن الإسرائيلى التي كانت تؤسّس على  ضمان تفوُّق إسرائيل على العرب.. كان حاضرًا فى عقلية الرئيس الراحل «محمد أنور السادات» والقيادة العسكرية المصرية، وهو ما ظهر واضحًا فى التوجيه السياسى العسكرى الصادر من الرئيس «السادات» إلى المشير «أحمد إسماعيل» يوم السادس من أكتوبر عام 1973م، وكذلك فى أحاديث متعددة للرئيس السادات خلال مسار استكمال استعادة الأرض بالسلام؛ ليصبح السادس من أكتوبر عام 1973م هو بداية تاريخ جديد للشرق بمفهوم استراتيجى جديد. واليوم وبَعد 47 عامًا على النصرالمجيد.. وبكل صدق لا نقول فقط إن مصر نجحت فى تحقيق هدفها بتحرير الأرض ولكنها نالت مَرادَها الاستراتيجى فى عام 2020م عندما أصبحت تمتلك القوةَ العسكرية الأكبرَ فى المنطقة؛ لنؤكد أن «الرصاصة لاتزال فى جيبنا»، وهو العنوان العريض لهذا العدد من «روزاليوسف»؛ حيث نسعى من خلاله إلى ربط ما جرى قبل 47 عامًا بما يجرى اليوم ونستشرف من خلاله القادم أيضًا.

 

نعم «الرصاصة لاتزال فى جيبنا».. ففى أحدث تصنيف لموقع «جلوبال فاير باور» جاء تصنيف الجيش المصري فى المرتبة التاسعة عالميّا، متفوقًا على جيوش إسرائيل وإيران وتركيا، وذلك بَعد طفرة التحديث الكبرى والشاملة لقواتنا المسلحة خلال السنوات الستة الماضية.. وبمعنى أوضح منذ أن تحمَّل الرئيس «عبدالفتاح السيسي» المسؤولية، والذي يدرك ما يمثله مفهوم «امتلاك القدرة»، وكثيرًا ما تحدث به لما تمثله القوات المسلحة المصرية من عامل قوة واستقرار لمصر والإقليم فى ظل حالة السيولة التي ضربت منظومة الأمن الإقليمى بعد سقوط عدد من الدول المركزية فى المنطقة وأصبحت ميليشيات الإرهاب تحاصر ما تبقى من دول بهدف الانقضاض عليها فى لحظة وهن وتدميرها بمساعدة دول إقليمية أخرى.

 

ثانيًا: مسؤولية القرار وحجم الضغط الذي يتحمله صانعُ القرار فى لحظات تقرير المصير

فى كتابه الشهير «البحث عن الذات» وصف الرئيس الراحل «محمد أنور السادات» التركة التي تسلمها من الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» بالتركة المبهمة!

 

كانت أوضاعُ الدولة المصرية عام 1970م عندما تولى الرئيس السادات الحُكم.. أوضاعًا مبهمة سياسيّا واقتصاديّا وعسكريّا، فضلًا عن الوضع الاجتماعى المتمزق.. الشارع الذي فقد ثقته فى نفسه وفى كل شىء.

 

تركة غير واضحة المعالم، وكان عليه أن يتحمل المسؤولية.. ويتحمل ضغط شعب جُرح كبرياؤه  ولا يستوعب الصدمة.. وفى الوقت نفسه كان عليه أن يقوم بالإعداد للمعركة وتصعيد جيل جديد من القادة لكى يخوض الحرب، وأن يتمكن من امتلاك القدرات العسكرية اللازمة لتحرير الأرض فى زمن دولى عُرف بزمن الوفاق.

 

ذلك لأن القوتيْن العظمييْن آنذاك، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتى، كان بينهما توافق على عدم التصعيد وإشعال جبهات بين المعسكرات.. وهو ما سُمى بحالة اللا سلم واللا حرب.. مرحلة رمادية مدمّرة كان على السادات كسْرها.

 

وهنا أتأمل حال الرئيس البطل الراحل «محمد أنور السادات» فى الأيام والساعات التي سبقت لحظة اتخاذ القرار.. حمْل لا تطيقه الجبال ولكن يتحمله رجال كالسادات، وهذا ما سيسجله له التاريخ.. «السادات شمس لا تغيب» وهو عنوان ملف خاص بالصور فى هذا العدد يقدمه المؤرخ الصحفى موفق بيومى لبطل الحرب والسلام محمد أنور السادات.

 

بالعودة إلى تصور حال الرئيس السادات فى تلك المرحلة.. دعنا نتخيل المَشهد كاملًا.. صحيح أن رئيس الجمهورية يتخذ القرار وفق تقديرات مؤسّسية لكن دائمًا وأبدًا هناك لحظات حاسمة تظهر معدن القادة العظام على مَرّ العصور.. لحظات يتقرر معها مصير الأمم والشعوب حينها يقف القادة أمام المسؤولية التاريخية بمفردهم.

 

ولذلك؛ فإن فلسفة التعاطى الصحفى والنخبوى بشكل عام مع القرار السياسى؛ خصوصًا القرار المصيرى هو أحد دروس حرب أكتوبر.

 

بمعنى أوضح، قبل الحرب خرجت أقلام تشكك فى القدرة على تحقيق النصر.. وبعد الحرب خرجت أقلام تشكك فى القدرة على استعادة ما تبقى من الأرض وإننا مُقبلون على مرحلة جديدة من اللا سلم واللا حرب.. نعم هذا حدث.

 

وعندما اتخذ السادات قرارًا مصيريّا آخر بكسر الجمود السياسى والمُضى قُدمًا نحو السلام.. خرجت أقلام تشكك فى إمكانية تحقيق ذلك.. وعندما توصل لاتفاق كان التشكيك فى إمكانية تنفيذه.

 

الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات وقد رحل الجميع.. ولكن أين السادات؟ وأين المشككون؟ فرضًا لو خضع السادات لضغط هذه الأقلام التي كانت تصنع رأيًا عامّا وتؤثر فى اتجاهات الجماهير.. ترى ما هو المصير الذي كان ينتظر مصر حينها؟

 

ولهذا؛ فإن القراءة السياسية المنصفة والتوثيق الصحفى لهذه المَرحلة يجعلنا نجزم بأن صناعة القرار تختلف عن القدرة على اتخاذ القرار، تختلف عن مناقشة أبعاد القرار والظروف المحيطة به.. وأن عدسة الرؤية لدى دوائر صُنع القرار تختلف عن عدسة الرؤية لدى صانع القرار، ومؤكد أنها تختلف كثيرًا عن مَن يناقش أبعاد القرار.. إذْ تكون رؤية شاملة لدى صانع القرار وحده، ولهذا فهو يتحمل المسؤولية السياسية والتاريخية.. وهو أمرٌ يُلخص أيضًا «قصة قصيرة طالت قليلا بين السادات وهيكل»، وهى الزاوية التي يسلط عليها الضوءَ الكاتبُ الصحفى الأستاذ رشاد كامل فى مقال خاص داخل هذا العدد. 

 

ثالثا: التوجيه الاستراتيجى بالقتال والمعجزة العسكرية التي جرت فى أكتوبر 1973م

«كلاوتز فيتز»، جنرال ومؤرخ حربى قديم له العديد من المؤلفات الاستراتيجية عن الحرب، وأسهمت كتاباته التي تعود لأكثر من قرنين من الزمان فى جعل علم التكتيك والاستراتيجية دربًا من دروب الفلسفة الإنسانية ولا تزال تُدَرَّس أفكارُه فى العديد من الأكاديميات العسكرية الدولية، وهو مَن أطلق العبارة الشهيرة (الحرب هى مواصلة السياسة بطريقة أخرى)، وبالتالى؛ فإن السياسة تسبق العمل العسكرى وتعقب العمل العسكرى، ترصد نتائجه وتبنى عليها اتجاهاتها من جهة ومن جهة أخرى تعظم نتائجه أو تهدرها.

 

وفى تقديرى، أن هذه الفلسفة الاستراتيجية التي أطلقها «كلاوتز فيتز» تنطبق إلى حد بعيد على ما فعلته مصرُ فى حرب أكتوبر عام 1973م؛ حيث مهدت للانتصار العسكرى بالقراءة السياسية والقدرة الاستخباراتية التي عرَّفها الرئيس السادات بـ«خطة الخداع الاستراتيجى»، وعند لحظة الحسم دخلت مصرُ الحربَ بتوجُّه استراتيجى واضح تضمن ثلاثة عناصر رئيسية كما تظهره الوثيقة الموقّعة من الرئيس السادات، وهى:

 

- إزالة الجمود العسكرى بكسْر وقْف إطلاق النار.

- تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والأسلحة والمعدات.

- العمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة.

 

تحققت المعجزة العسكرية وعَبَر الرجال حاملين السلاحَ والشرفَ والتضحية والفداءَ ليهزموا كل النظريات التي قالت إن العبور مستحيل ومخاطره لا يمكن تقديرها؛ ليسجلوا أسطورة عسكرية باسم القوات المسلحة المصرية.

 

التاريخ العسكرى اعتبر اجتياز مونتجمرى لحقل ألغام العالمين فى خمسة أيام خلال الحرب العالمية الثانية إنجازًا كبيرُا، ولكن هذا الإنجاز لا يُذكر إذا ما تمت مقارنته بما جرى يوم السادس من أكتوبر عام 1973م.. سواء فى اجتياز مانع مائى بحجم قناة السويس ثم تدمير خط بارليف وقيام الطيران المصري بتدمير كل مراكز قيادة العدو فى سيناء وكل مطاراته العسكرية وكل نقاطه الحصينة، ثم فتح نيران المدفعية التي حوّلت الجبهة إلى جهنم، وكل ذلك تم فى بضع ساعات.. وداخل هذا العدد من «روزاليوسف» يستعرض الكاتب الصحفى الأستاذ محمد الجزار والكاتبة الصحفية الأستاذة نعمات مجدى شهادات أبطال العبور.

 

أمّا عن أيام الحرب الأولى بحسب تقديرات البنتاجون الأمريكى؛ فقد بلغت خسائر إسرائيل خلال خمسة أيام فقط 110 طائرات،  400 دبابة، 3000 قتيل،  1000 أسير من بينهم 43 طيارًا وأكثر من 15000 مصاب وجريح، وهو ما استدعى التدخل الأمريكى المباشر لدعم إسرائيل، وهنا كان الجسرُ الجوى الأمريكى، وهنا أيضًا أدرك الرئيسُ السادات أن المعركة الآن أصبحت مع الولايات المتحدة وأنه بالفعل انتصر، وأن مصرَ قد عبَرَت حاجزَ الخوف بلا رجعة واستعادت كبرياءَها بين الأمم، وأن القوات المسلحة المصرية حققت المعجزة، وقد حان وقت العمل السياسى الذي يجب أن يعظم من نتائج العمل العسكرى بتحقيق الغاية ، وهى تحرير الأرض والانطلاق إلى أفق أبعد، وهو إعادة صياغة الشرق الأوسط وفق معطيات جديدة فرضتها مصرُ بنصرها فى حرب أكتوبر.

 

 رابعًا : ثبات الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة بعد نصر أكتوبر

قبل حرب أكتوبر لم تكن الدول العربية على رادار المصالح الأمريكية المباشرة ولكنها جزء من التصور السياسى الأمريكى فى معركته مع الاتحاد السوفيتى.. هذه النظرة اختلفت تمامًا بعد نصر أكتوبر المجيد.

 

عندما تمكنت القواتُ المسلحة المصرية من تحقيق النصر فى المواجهة المباشرة مع إسرائيل رُغم الدعم الأمريكى، كان ذلك البداية الفعلية للتأسيس الثانى للعلاقات «المصرية- الأمريكية» حتى وإن ظهرت بوضوح بعد اتفاقية السلام عام 1979م.

 

كذلك؛ فإن قدرة الدول العربية على التنسيق واستغلال سلاح النفط وقت المعركة.. أضاف أبعادًا أخرى فى نظرة واشنطن إلى الشرق الأوسط، بمعنى أنها أدركت أن هذه البقعة البعيدة عنها جغرافيًّا يمكنها أن تخلق أزمات فى الداخل الأمريكى.

 

وأن الصراع بين العرب وإسرائيل يمكنه أن يسبب أيضًا متاعب لأى رئيس أمريكى، سواء من الكونجرس أو من جماعات الضغط، وبالتالى السلام بين العرب وإسرائيل يَنظر له أى رئيس أمريكى على أنه ورقة تُضاف إلى رصيده الانتخابى.. صحيح أنها ليست ورقة الحسم، ومثال ذلك أنها لم تشفع لكارتر على سبيل المثال، ولكنها تظل إحدى الأوراق المهمة لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ اشتعال الحرب يوم 6 أكتوبر عام 1973م فى عهد إدارة نيكسون، وصولًا إلى عهد إدارة  دونالد ترامب فى عام 2020م، التي نجحت فى إنجاز اتفاق سلام بين دولة الإمارات العربية الشقيقة وإسرائيل فى توقيت انتخابى جيد بالنسبة لدونالد ترامب.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز