
الحبيبة (العين باب القلب )
بقلم : جيلان خالد الهواري
عندما تنطفأ الأنوار فجأة .. يتوقف العقل عن الإدراك للحظة .. ويصبح شُغله الشاغل أن يبحث عن مصدر للنور .. لترجع الحياة لعقله من جديد .. ويرجع الإدراك والوعى بكل ما يحيط بنا .. ومن هنا يبدأ النظر من جديد فى إعادة الاتصال بين ما يحيط بنا وبين العقل .. وكأننا بإختصار نفتح للعقل باباً على الدنيا من جديد .. ألا وهو العين .
من تلك اللحظة التى يغيب فيها إدراكنا عند انعدام حاسة النظر لثوانى معدودة .. نستطيع أن نستنتج بكل ثقة بأن ما تراه العين يشكل جزء كبير من محتوى العقل .. فالإنسان يتشكل وعيه و أفكاره ومن ثَم شخصيته من كل ما يتلاقاه من سمعه وبصره .. فكيف للأصم أن يتكلم وهو لم يسمع بنطق الحروف من قبل !! .. وكيف لفاقد البصر أن يتخيل شكل الألوان مهما سمع عن وصفها !! .. فالطفل الصغير هو نموذج مبسط لبنى الإنسان .. إذا أردت أن تجعله صالحاّ فيما بعد فأسمعه كل ما يرتقى بعقله وروحه من علوم الدين والدنيا .. وإذا أردت أن تنأى به عن الصلاح فاتركه يرى ويسمع بدون متابعة .. ولا تناقشه فيما يُعرض عليه فى شاشات التلفاز أو ما يُعرض عليه فى صالات عرض الحياة ..
ولكن .. المهم الآن هو أنا وأنت .. فلم نعد أطفالاً بعد .. فنحن من نختار حالنا فى هذه الدنيا .. فأنت إما أن تختار أن تكون شخصاً "ناضجاً " يعى لكل ما يُقدَم أمامه سواء فى الشارع أو فى جامعتك أو عملك أو فى بيتك .. ويختار من كل هذا ما يساعده على الرقى بنفسه .. فعلى سبيل التوضيح "الإعلام والإنترنت " كلاهما سلاح ذو حدين .. فيه ما هو نافع وما هو ضار .. فلو اخترت أن تكون شخصا ناضجا ستختار منهما ما ينفع .. ما يضيف لك شيئاّ .. ليس فقد ما يسليك .. فالتسلية والترويح عن النفس هدف جميل بل وضرورى ولكن لبعض الوقت .. فعندما تصبح التسلية هدفاَ فى كل الوقت.. تضرولا تفيد .. تسلب الوقت ولا تُعطى نفعا ّ .. فعلى الشخص الناضج أن يختار ما يسمع وما يرى .. ولا يسمح لأى كلمة أن تكون من قاموسه فى التعامل مع الآخرين .. فكم منا الآن يرى الشتائم وقد أصبحت وكأنها هى الأساس فى التعامل بين الأصحاب والإخوة مثلاّ .. وكأنه يعبر بها عن مدى القرب بينهم !! .. .. فلا بد ان مَن ينطقها الآن بعفوية .. كان له مرةً أولى .. سمعها باستغراب من شخص ما .. ثم ترك سمعه بلا غربال .. فأصبحت بعد أيام على لسانه .. ..
ومن منا لا يرى أو حتى يسمع فى مجتمعه أو فى الإعلام عن ظاهرة الأفلام الإباحية بين الشباب بل والأطفال وكبار السن للأسف .. فصاحبنا الذى أدمن مثل هذه الأشياء كانت له مرة أولى أيضاً .. سمح لعينه وحواسه أن تتفاعل معها .. ولم يجعل لما يراه غربالاً ينتقى به ما يرى .. .. ولا يوجد عذر لمن لا يضع مثل هذا الغربال إلا .. أن يختار الإختيار الثانى .. وهوأن يصبح " طفلاً" فى اختيارته .. وليس بالمعنى اللفظى .. ولكن بمعنى فقدان السيطرة على ما يتلقاه .. وليس هذا بعذر ولكن دعنا نقول "غفلة" .. نعم غفلة بكل تأكيد .. فصاحبنا الطفل لم يدرك بعد أن كل مايراه وما يسمعه يُخَزّن فى عقله .. ويشكل مع الوقت إدراكه و من ثَم حكمه على الأشياء .. فمجتمعنا الذى كان بالأمس يستحى من مشهد رومانسي فى أفلامه القديمة ويراه مبالغاً فيه .. هو نفس المجتمع الذى يتقبل العرى فى إعلامه الآن بلا أى حياء بل و نجد شرائح من هذا المجتمع تشجعه !! .. لم يحدث هذا بين يوم وليلة .. بل حدث على مر الزمن .. مع كل فرد ترك سمعه وبصره بلا غربال .. ومن ثَم شكل هؤلاء الأفراد مجتمعاً .. فلكى نصبح على مستوى العقل الذى وهبنا الله إياه ..يجب أن نحترمه ...وننميه.. ونثقفه.. و نعى بأن كل ما نراه ونسمعه يشكل وعينا ومن ثَم أفعالانا وأرائنا فى الحياة . "قصةــــــ< عن هارون بن رباب : أن غزوان وأبا موسى كانا فى بعض مغازيهم(جمع غزوة) .. فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت ( أى ورمت) وقال : إنك (أى العين) للحاظة إلى مايضرّك."
و بعينك تستطيع أن تفتح لنفسك وعقلك عالماً جديدا ترتقى فيه بهما .. فمن لا يقرأ يفوته الكثير .. ففى كل معلومة جديدة تقرأها بعينيك يتفاعل معها عقلك وقلبك .. يزود ذلك من ثقتك فى نفسك .. ويعطيك شمولية أكثر فى أرائك .. ففى كل معلومة جديدة تقرأها بعينك وتعيها بعقلك تشعر وكأن باباً من نور أضاء بداخل عقلك .. ليس فقط فى مجال عملك .. فهذا شغفك * أو ما ينبغى أن يكون* .. ولكن لكى تنير هذا العقل يجب أن تقرأ فى كل شئ .. لا أقول مجلدات وكتب كبيرة ولكن اقرأ ولو معلوات بسيطة .. يضيف ذلك لشخصك .. وتتخذ من هذه المعلومة سبيلا لشكر الله على نعمة البصر.
و فى الشرع أطلق الله على العين اسم "الحبيبة" .. فبها يبدأ القلب فالعقل بالتعلق.. ثُم يأتى الحب .. بها تستطيع أن تحب الدنيا .. وترى فى الوجود جميل صنع الله .. فتحب الجميل لأنه من صنع الجميل .. و للقلب عيون مثل عيون الوجه .. ولكن ليس لها بصر مثلها بل سمها الله "البصيرة" مشتقة من نفس اللفظ .. ليبين لنا بأن البصيرة تتشكل من البصر .. أو جزء كبير منها يترتب على البصر .. فالبصيرة هى إدراكك لمعانى الأمور على حقيقتها .. وكلما كان القلب معلقاً بخالقه .. متصلاً به على كل أحواله .. كلما كانت البصيرة أقوى و أصدق .. فمن تعرف على الله فى كتابه المرئى "الكون" بعينه شاهد آياته واستشعر أسمائه الحسنى بمعانيها فيما يحيط به فى الكون .. و تعرف عليه فى كتابه المكتوب "القرآن" بعينه .. تعلق القلب والعقل بسبب تأملاته المرئية بالرب .. و أُنيرت البصيرة .. وكلما اترقى العبد فى علاقته بالرب كلما أنار النور بصيرته أكثر وأكثر .. حتى يصل بها إلى أعلى المراتب .. وهى أن تصبح عيون القلب ترى الهدف واضحا وضوح الشمس .. فمن أحب بصدق وقف نظره عند محبوبه .. صحيح عيون الوجة لا ترى غير الدنيا ولكن عيون القلب ترى الله فى كل شئ .. رأته هدفا لها فى كل صغيرة وكبيرة .. يرى ما يرضيه هو قبل مايُرضى نفسه ..ويسعى له بكل ما أُوتىَّ من إرادة .. لا يرى غير هدفه الله ..وهذا هو نور الله الذى يطفيه على العبد الذى يسعى للجوء إليه دائما حتى وإن أخطأ بل تكرر خطأه فالله يحبه إذا عاد وتاب .. فالله يحب التوّابين .. ليس التائب الذى يفعل الذنب مرة لا بل التوّاب الذى يفعلة أكثر من مرة ولكنه يرى الله هدفه واضحا أمامه حتى عندما يُخطئ .. فأنار الله له عيون البصيرة دنيا و آخرة ..
ومن هنا نرى بأن العين باب الهداية .. بها نعرف الله وبها يعلمنا الله هدفنا (الله )من تلك الدنيا .. ومن لا يراه فى الدنيا _أعازنا الله _ لا يستعجب حاله فى الآخرة *** قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ( 125 ) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( 126 ) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ( 127 ) ***
فدائما ما يربط الله بين العمى والضلالة .. أو بمعنى آخر بين البصر و الهداية .. ذلك نتعلم منه أن البصر ومن ثَم البصيرة سيشكل هدايتنا أو أعازنا الله ضلالتنا عن الطريق .
و كما أن العين بابا للقلب .. فالقلب من أبوابه العين أيضا .. فكما يشكل وعى القلب والعقل ما تراه العين .. فأيضاً ما يوجد فى القلب والعقل تنضح به العين .. ولو بفلتات منها .. فمن حرص على أن يجعل عيناه ترى ما ينفعه "أى ما يرضى ربه" .. كان أغلب ما يشكل قلبه جميل .. أغلبه صافى لا يحمل مشاعر سلبية للآخر بسهولة .. فمن عوّد عينه على الجميل "مايرضى ربه " .. سيكون أغلب ما بقلبه جميل .. وستكون عيناه تحمل الخير فى أغلب أحوالها لمن حوله .. حتى لو حملت فى يوم بعض المشاعر السلبية فى فلتاتها .. سرعان ما يطغى الأغلب على البعض .. وبقليل من الفكر ومحاسبة النفس .. سيطغى الجميل الأغلب "مايرضى الله" على بعض المشاعر السلبية .. فكلنا بشر وخطّائون .. ولكن من عوّد نظره فعقله فقلبه على الجميل "مايرضى الله" سيسعى دوما له حتى ولو فلتت منه أحيانا.
فالعين تنطق والأفواه صـــامتة ....... حتى ترى من صميم القلب تبيانا
وأخيراّ وليس آخرا .. لكى يعلمنا الله فضل نعمة البصر .. وفضل تلك العين .. وعظمها فى تعرفنا على عالم الدنيا والآخرة .. وعد الله عباده الذين ابتلاهم بفقدان البصر *بالجنة * إذا صبروا كما علمنا سيد الخلق *صل الله عليه وسلم ****يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة" *** .. ولعل فاقد البصر لديه بصيرة يعجزأن يدركها أ صحاب الأبصار .. فمن صبر على مثل هذا الإبتلاء .. لم يجد الله له مكافأة على صبره يعدُه بها وهو فى الدنيا غير الجنة .. ليعلمنا نحن أصحاب الأبصار أن نحمده ونشكره على تلك النعمة .. التى لا يضاهيها نعمة .. وشكره ليس بكلام ينطق على اللسان .. فالشكر بالفعل والقول .. أن نعده معاً.. من الآن... أن نضع غربالاً على أعيننا .. ينقّى كل ما نراه بل وما نسمعه .. ونسأله الثبات على ذلك.. ليكون راضيا .. فَرحاّ بنا عندما يرانا نرى ما يفيدنا فى دنيانا وآخرتنا .. فالله لم يحرم علينا شئ قط إلا فيه صلاح للقلوب فى الدنيا والآخرة .. ولنتخذ بصرنا بل وسمعنا سبيلا لينير الله بهما بصيرتنا .. ونراه عز وجل فى الدنيا بعيون القلب قبل أن نراه فى الآخره رأى العين ..
اللـــــــــــــهم لا تحرمنا لذة مشاهدة نور آيتك فى الدنيا ولا لذة النظر لنور وجهك الكريم يوم نلقاك.. يا نور السموات والأرض .. اللـــــهم آميـــــــــــن.