عاجل
الأربعاء 3 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
اعلان we
البنك الاهلي

تاريخ مملكة "قبائل الماندنجو" بالسودان الغربي

يتضح من ذكر أسماء القبائل في إفريقيا أن المصادر العربية قلما اهتمت بأسماء القبائل السودانية ومواقعها، وكانت تكتفي بجمعها تحت اسم واحد وهو أهل السودان، أو السودان فقط من دون كلمة أهل.



إلا أن المصادر الأجنبية- خاصة البرتغالية- أمدتنا بمعلومات قيمة عنها، ولعل من الأسباب المهمة لعدم اهتمام المصادر العربية بالقبائل السودانية جنوب الصحراء بدرجة كافية هو عدم الاحتكاك المباشر ببلاد السودان، فالبكري (المتوفى عام 487 هجرية/ 1094 ميلادية) والإدريسي (المتوفى عام 560ه/ 1164م) لما يزورا تلك البلاد، أما ابن بطوطة (المتوفى عام 779ه/ 1377م، الذي زار مملكة مالي عام 753- 754ه/ 1352- 1353م) ودخل عاصمتها، فلم يتحدث عن القبائل المؤسسة لها أو تلك التي خضعت لها، كما أنه لم يخبرنا باسم القبيلة أو الأسرة التي ينتمي إليها حكام مالي، لكنه بمجرد اجتيازه للصحراء وتوجهه داخل بلاد السودان أصبح الكلام عن القبائل شيئًا منسيًا ومهمشًا.

 

  لكنه من كثرة التقائه الجاليات المغربية المقيمة في بلاد مالي واختلاطه بها أخذ على نفسه ألا يختلط إلا بأصحاب البشرة البيضاء، سواء كانوا فقهاء أم تجارا من بلاد المغرب والصحراء، وهو ما أعاق أي محاولة للتعرف على السودانيين وأحوالهم عن قرب، على الرغم من إقامته بينهم زهاء عامين.

 

 

وقد تعددت المسميات لكلمة "الماندنجو" فتُطلق على مجموعة من القبائل التي شكلت شعبًا يُعد من أهم الشعوب في السودان الغربي، وقد سادت لبضعة قرون في المنطقة الفسيحة الممتدة بين نهر النيجر والمحيط الأطلسي، أي في الوديان العليا لنهر السنغال، وامتدت نحو الجنوب إلى حوالي خط عرض 9ْ درجة شمالًا، ولا توجد منها جماعات متناثرة في مناطق أخرى بحوض النيجر وما حوله.

 

 

وكلمة "ماندنجو" (Mandingo) عبارة عن اصطلاح لغوي، يقصد به مجموعة القبائل الناطقة بلغة "الماندي"، وتعني "رجلًا منتسبًا إلى مالي"، وتتكون من مقطعين: أحدهما "ما" والآخر "دي"، أما حرف النون فمضافًا للكلمة، ومعنى اللفظ في اللهجة السونينكية "مركز الحكم" أو "العاصمة"، وهناك تفسير آخر لكلمة ماندنجو ومؤداه أن كلمة "ما" تدل على معنى "الأم"، وكلمة "دانج" تدل على معنى "الابن" فتصبح الكلمة "ابن الأم"، وهنا دلالة على أهمية النسب إلى الأم، وهو أمر مألوف عند قبائل الماندنجو، وكذلك عند غيرهم من قبائل السودان الغربي، ولهذا فإن كلمة "ماندنجو" تطلق على القبائل الناطقة بلغة الماندي. 

 

 

وتذكر المصادر التاريخية أن شعوب الماندي هم من سلالة الزنوج الشماليين، ومنهم الماندي والبامبارا والسونينكي، وتُعد كلمة ماندي مصطلحًا لغويًا وثقافيًا، أشار إلى اللغة التي تميز الجماعة الأقوى والأكبر من حيث الانتشار الجغرافي من منطقة الساحل، وحتى الأجزاء الداخلية من منطقة السودان الغربي، وتعيش هذه المجموعة الكبيرة من السكان في حيز يمتد بين مجالي قبائل التكرور والصنغي، أي بين نهر النيجر شرقًا وأعالي نهر السنغال غربًا ومنطقة الغابات جنوبًا، وكان الماندنجو هم العنصر الأساسي لشعوب ممالك السودان الغربي.  

 

وتضم قبائل الماندنجو فروعًا عديدة منها الونقارة والملنكي، كما تضم أيضًا فروع السونينكي والبمباره والديولا، وهي تجسد أكثر من غيرها من قبائل السودان الغربي التركيبة السكانية المعقدة، والتداخل بين المجالين الإسلامي والوثني في السودان الغربي، فبينما تحول قسم من أبناء هذه القبائل إلى الإسلام، ظل قسم آخر متمسكًا بوثنيته رغم وحدة العرق واللغة، وكانت الغابة الكثيفة في الجنوب عاملًا ساعد الجماعات الوثنية من الماندنجو في الحفاظ على الموروثات والمعتقدات القديمة.

 

 

وقد أسس شعب الماندنجو مملكة مالي التي تعني في لغة الماندنجو "البرنيق" أو "البرنق" أي فرس النهر، وهو رمز القوة والبأس برًا وبحرًا، وقد أطلق أحد المؤرخين كلمة مالي على القبائل والعشائر المختلفة، مثل: ماندي وبمباره، وغيرها من أسماء القبائل المختلفة، والتي تمثل شعارات الحيوانات الخاصة بهم، ولهذا يمكن القول: إن مملكة مالي اشتهرت بأكثر من اسم، فهي تارة مالي ثم التكرور، وأخيرًا الماندنجو.

 

 

وباستقراء آراء الباحثين الذين تناولوا تاريخ قبائل الماندنجو، نجد أن المسميات المختلفة لكلمة الماندنجو ترجع في مصدرها إلى اختلاف لهجات سكان المناطق التي وجدت فيها هذه القبائل، سواء أكان وجودهم لممارسة حرفة التجارة، أو للعيش فيها بصفة دائمة، وإن اختلاف الأسماء الدالة على شتى فروع الماندنجو، يعني أن فئة من بطونها المختلفة، يمثل في حد ذاته جنسًا مستقلًا، فهم جميعًا يندرجون ضمن النوع الذي أطلق عليه علماء الأجناس اسم "الزنوج السودانيين"، ذات السلالات السودانية المتعددة اللغات، وقد كتب سيلجمان عن القبائل التي تدخل في دائرة الماندنجو فيقول: "وينتظم الماندنجو قبائل كبيرة لها أهميتها منها: جولا، وسونينكي، وجولونكي، وبمباره".

 

 

وشعب الماندنجو شعب سوداني أصيل، ولهذا وصف المؤرخون ملك مالي: "بأنه أعظم ملوك السودان المسلمين، وأوسعهم بلادًا وأكثرهم عسكرًا، ومن ثم الأقدر على دحر خصومه وأعدائه، فضلًا على ثرائه البالغ"، بل أكدت المصادر التاريخية الإفريقية ملك مالي وقوة نفوذه، فذهبا إلى أن سلاطين الدنيا أربعة: سلطان بغداد، وسلطان مصر، وسلطان برن- يقصد برنو- وسلطان مل (مالي)، واشتملت مملكة مالي على خمسة أقاليم كل إقليم منها عبارة عن مملكة قائمة بذاتها، هي: 

 

 

1- إقليم مالي: يقع هذا الإقليم وسط المملكة، ويحده من الغرب إقليم الصوصو، ومن الشرق إقليم كوكو، وعاصمته مدينة نياني. 

 

 

2- إقليم كوكو: يحد هذا الإقليم إقليم مالي من الغرب، ومن الشرق تحده مملكة كانم والبرنو، ومن الشمال الصحراء، أما الجنوب فشعب الهوسا وبعض القبائل الوثنية السودانية، ومدينة كوكو هي عاصمة الإقليم، وتقع هذه المدينة شرقي نهر النيجر وتبعد عن غانة مسيرة شهر ونصف. 

 

 

3- إقليم الصوصو: يحد هذا الإقليم من الشرق إقليم مالي، ومن الغرب إقليم غانة، ومن الجنوب الغابات الاستوائية والقبائل الوثنية، وسُمى هذا الإقليم باسم سكانه.

 

 

4- إقليم غانة: يحد هذا الإقليم من الشرق إقليم الصوصو، ومن الغرب المحيط الأطلسي، وعاصمته مدينة غانة التي تقع على ضفتي النهر وفي جنوبها مناجم الذهب.

 

 

5- إقليم تكرور: يقع غربي إقليم كوكو، ويمتد إلى المحيط الأطلسي غربًا، وفي الشمال تحده الصحراء الكبرى وقبائل مملكة الملثمين من صنهاجة وغيرها، وعاصمته مدينة التكرور وتبعد عن سجلماسة أربعين يومًا.

 

 

وقد أسهمت الحروب التي خاضتها قبائل الماندنجو، بدءًا من عهد سندياتا (628-653هـ/1230-1255م) وحتى سيطرة منسا موسى على مدينة جاو عاصمة مملكة صنغي عام (726هـ/ 1325م) بدور كبير في توسيع حدود المملكة، وإقرار نفوذها على مساحة شاسعة من السودان الغربي، حتى وصلت خلال القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، إلى قمة مجدها في عهد السلطان منسا موسى (712-737هـ/1312-1337م) الذي كَوّن مملكة مترامية الأطراف.  

 

مدرس التاريخ والحضارة الإسلامية – جامعة الأزهر  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز