عاجل
الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الملكة والراقصة! (1/2)

الغربة الأولى 9

الملكة والراقصة! (1/2)

أشهر مضت عليَّ في بيروت، حدث فيها ومنها ما حدث، وكان ما كان، وظلَّ فيها كلها، هاجس مراسلة مجلة "صباح الخير"، يَلِحُّ عليَّ، كما وعدت، يوم حزمت حقائب السفر وتركتُ "المحروسة".



 

وسنحت الفرصة، وأول رسالتين الى المجلة، كانتا عن إمرأتين، تولهت بهما مصر حد العشق، وأُرْغِمَتا على هَجْرِها وهِجرانها الى لبنان. ملكتان كانتا، واحدة على عرش مصر، صافيناز ذو الفقار، والثانية على عرش الفن، بديعة مصابني.

 

لم يتماسك القلم نفسه، يحفر بِسِّنِهِ، تتساقط الأحرف على الورق، تتوزع البياض، وتلملم طفرات الكلام، ودورانه على حكايتي الملكة والراقصة.

 

دار الكلام بين الناس:" الملكة فريدة  ستعرض في "لا غاليري" La Galerie، "عين المريسة"، 36 لوحة زيتية". 

 

بيروت كانت تعرف صافيناز ذو الفقار، بنت الحسب والنسب، قبل أن تصير الملكة فريدة، وبعدما رفعوا التاج عن رأسها بسنوات، إختارت سنة 1963 السكنى في بيروت التي أحبت، وفيها إلتقت بناتها.

 

كانت شقتها في "بناية آل ثان"، في منطقة "الروشة" التي تعطي وجهها للبحر، الملاذ، والأمان، وقد حولت إحدى غرفها الوسيعة الى محترف، تفوح منه رائحة الألوان والقماش.

 

تلألأ وجهها بالطيبة، أضاءت إبتسامة جذلي فمها وكل وجهها. عينان سوداوان مرتعشتان، يندلق منهما نور غريب. وضع الهمُّ على عمرها سنوات، لكنه لم يَمْسس جمال قسماتها.

 

"آه... مجلة "صباح الخير" تماوجَ صوتها، إفترت شفتاها عن بسمة حمَّلَتها كل لهفتها لسماع  اللهجة المصرية.  "هذا أنا... معلقة على الحيطان، في كل لوحة نتف مني". وأشارت الى اللوحات الزيتية، المتنوعة الأحجام، وتركتني أدور بعيني على تلك اللوحات، التي تنقلت ريشتها فيها، على مدارس الفن التشكيلي، من "الإنطباعية" فتراها في لوحات عدة، تُقبل على طبيعة الريف المصري.

 

و في لوحة أخرى، لا تكتفي بتسجيل إنطباعها، بل تعمد الى تحليله، والكشف عن الظلال، والألوان الحادة والباردة، فتقترب من "بول سيزان"، وتحاول لمس ريشة "كلود مونيه".

 

و في لوحات أخرى لوجوه فلاحين في غيطان الريف، تشعر أنها تميل الى "التعبيرية"، فتلك المدرسة إتخذت التعبير عن الإنسانية وآلامها، المحور الأساس في اللوحة، وأهملت المسائل الفنية فيها. ليس الجمال وحده مثار إهتمام الملكة فريدة في رسمها، فهي تريد من خلال السوداوية، والقبح، والعيون المذعورة... التعبير عن مآسي المسحوقين، والمعذبين. 

 

"تعرف لمن يعود الفضل في هذا المعرض؟".

 

" أصدقائي الكُثُر في بيروت، هم الذين شجعوني على المضي في الرسم".

"عادت"... تقف عند هذه الكلمة، تسأل وتتساءل، والملكة الرسامة تجيب: "سقطت الفرشاة من يدي لما دخلت "قصر عابدين"، أخذتني مهماتي الى جانب الملك، وإنشغالي بالبنات ورعايتهن، عن الرسم. حنيني إليه ظلَّ مكبوتاً الى أن أعادني خالي الى القماش والريشة والألوان، دواء لحزني ووحدتي بعد إفتراقي عن الرجل الذي أحببتُ". أينعت دمعة في عينيها، مسحتها بأصابعها، تمالكت نفسها، وغيّرت الحديث. وخال صافيناز ذو الفقار، هو محمود سعيد، إبن محمد سعيد باشا الذي ترأس الوزارة المصرية غير مرة، وقد كان من أبرز الرسامين التشكيليين في مصر، ومؤسس المدرسة الحديثة في الفن التشكيلي ، ولوحاته وهي الأغلى ثمناً،  يتهافت الذواقة، والعارفين بالفن التشكيلي، على إقتنائها.

 

كان والد صافيناز، يوسف ذو الفقار، قاضي قضاة محكمة الاستئناف المختلطة في الأسكندرية، شديد الحب لها والتعلق بها، وإضافة الى الرسم، علمها العزف على" البيانو"، وكان يجيد العزف على تلك الآلة التي عشقتها صافيناز، وتعلمت  تحريك أصابعها على مفاتيحها،  وقراءة "النوتة".

 

وما لم تتعلمه في البيت، تعلمته في مدرسة "نوترودام دو سيون" للراهبات الفرنسيات Notre-Dame de Sion العريقة التي يعود تأسيسها الى سنة 1880، فأتقنت اللغتين الفرنسية، والإنجليزية، وحرص  والدها على أن تتقن اللغة  العربية، فأحضر لها مدرسًا خاصًا يعلمها أصول اللغة، فأجادتها، كذلك دروس أصول الدين الإسلامي.

 

والدتها زينب ذو الفقار، هي الأخرى ، بنت حسب ونسب، وعلى درجة عالية من الثقافة، كانت كوكباً براقاً في المجتمع المصري  الأرستقرطي،  وصديقة حميمة للملكة نازلي، زوجة الملك فؤاد الثانية، فأصطفتها من دون الأخريات، لتكون وصيفتها الأولى .

 

في 27 فبراير سنة 1937 غادر فاروق ويصحبه أمه وأخواته وحاشيته بصحبته السيدة زينب ذو الفقار صديقة الملكة نازلي ووصيفتها في الوقت نفسه وابنتها صافيناز ذو الفقار في رحلة الى سويسرا، إستمرت أربعة أشهر طويلة. بعد وصولهم بدأ فاروق يُظهر كثير إهتمام بصافيناز. كان الحياء يورد خديها، فأعجبه منها خفرها، وجمالها، وطلتها البهية، ورأى فيها الفتاة التي يبحث عنها لتكون رفيقة دربه الشائكة.

 

"في هذه الرحلة، إقتربت من فاروق، تعرفت عليه، إكتشفت في الإنسان المخبوء في داخله، كله طيبة، وحنان، كان لطيفاً معي، ودوداً، فأحببته حباً جماً، لقد كان الرجل الوحيد الذي ملك فؤادي".

 

وتنتهي الرحلة، ويعود الملك، وأمه، وشقيقاته، و... حبيبته والحاشية الى الأسكندرية، فرست الباخرة في في 25 يوليو 1937. بعد أسابيع من حفل تتويجه ملكاً، حضر فاروق إلى قصر القاضي يوسف ذو الفقار في الأسكندرية، يطلب يدها  للزواج. 

 

في 17 نوفمبر  1938 كانت ولادة بكر بنات فاروق سموها  فريال، تيمنًا باسم والدة الملك فؤاد. وكانت فريدة فرحة بها، لكن من كانوا حولها في القصر حولوا الفرح الى حزن. وحمّلوها مسؤولية أن تلد ولياً للعهد.

 

 

وعند ولادة فوزية في 7 إبريل سنة 1940 كانت أجواء القصر كئيبة، متوترة، مشدودة، فقد كان الجميع يتوقعون أن يكون ولدًا ، أن يكون وليًا للعهد.، اما فادية فرزقني الله بها في 15 ديسمبر " كانون اول 1943 ، وكانت آخر ما رزقني الله، كانت أحب بناتي إلي ".

 

بعد ولادة فادية، بدأت هوة الخلاف تتسع، وأصبحت تراه في مناسبات مثل عيد ميلاد البنات، فقد كان  فاروق دائم السهر خارج القصر. وبدأ كل منهم يتجاهل الآخر، فراحت تعتني بتربية البنات . ومع مرور الأيام، وجدت فريدة أنه أصبح مستحيلًأ أن تناقش، وتجادل، أن تغضب...  ووجدت نفسها، تفاتحه في طلب الطلاق ، تمنع، إنتحل لها الأعذار، قال أنها عصبية ومكتئبة ،و لابد أن تسافر لتهدأ، فأصرت على الإفتراق والطلاق.

 

باغتتني الملكة، لونت نبراتها بالجدّة:

"طلبت الطلاق لأني أحب فاروق"!

ولقد بكى فاروق بعد أن وقع وثيقة الطلاق، ولما انتهت تلك المراسم إختفى الملك، وبعد عدة ساعات عثرت عليه شقيقاته في إحدى حجرات القصر وهو يبكي وينوح .

 

في 23 من يوليو 1952 هدرت الدبابات في شوارع "المحروسة"، أُرغم الملك على التنحي لإبنه أحمد  فؤاد الاول، وشُكِلت لجنة وصاية على العرش الى تاريخ اعلان الجمهورية في 18 يوليو 1953.

 

سلمت فريدة رجال الثورة كل مجوهراتها، وإحتفظت فقط بسلسلة صغيرة أهداها لها والدها وهي تلميذة عندما نجحت في المدرسة. أقامت فترة في "قصر الطاهرة"، في حي القبة. وإمتدت يد ضباط مجلس قيادة الثورة على القصر، فصادروه، فكانت  صافيناز تتنقل بين الاقارب والأصدقاء. 

 

بعد سنوات من قيام "الجمهورية"، طلبت صافيناز من الرئيس جمال عبد الناصر أن يسمح لها بالسفر الى بيروت، ووافق. "فسافرت فى عام 1963 الى بيروت، فيها إلتقيت لأول مرة بناتي وكان قرار عبدالناصر،  أن أسافر وأن أعود الى مصر متى أشاء".

 

وعلى الرغم من الإهتمام والمحبة والرعاية التي أحاطت بها في بيروت، إلا أن حالة من الإكتئاب إستحوذت عليها، واستيقظت ذات صباح محاولة الإنتحار:

 

"وجدت نفسي أنزل من الشقة مسرعة وأطلب من سائقي أن يذهب بي الى السفارة السعودية، وتركت بيروت لأكون فى ضيافة الملك فيصل وقرينته، أديت "العمرة"  ثم سافرت من السعودية لأستقر في باريس فى شقة فخمة أهداها لي شاه ايران محمد رضا بهلوي، ولكن الضرائب المرتفعة علي الشقة، ومصاريفها الباهظة أعجزتني، فقررت بيعها، وإستأجرت" ستديو "صغير في الحي 16 بباريس ليكون " أتيلييه" أرسم فيه وأنام " .

 

طافت الملكة الرسامة بفنها حول العالم، وأقامت العديد من المعارض في كل البلدان، ونالت التقدير، ولكن سُرِق العديد من لوحاتها منها مائتي لوحة فُقِدت في الولايات المتحدة! . 

 

قبل حضورها الي بيروت، عرضت هذه الأعمال في معرض بباريس ، وحين التقينا كانت سعيدة بحادثين:  زيارة الفنان المصري فاروق حسني لمعرضها والثناء الذي أهاله على أعمالها وحواره معها، فقد جمعهما حبهما للفن. 

 

والحادث الثاني الذي توّج سعادتها، الدعوة التي تلقتها من السفارة المصرية بباريس بمناسبة زيارة  الرئيس أنور السادات لفرنسا، وقد دعاها الى العودة لمصر والإقامة فيها، ونادى على السيدة جيهان وقال جهاراً :"الملكة فريدة، ولا يعرف أحد تاريخها مثلي، فدورها الوطني الرائع يذكره لها التاريخ، ألم يحن الوقت أن تحضري وتستقري في مصر الذي أحببتيه وأحبك؟ " .

 

.. وعادت الملكة الرسامة للبلد الذي أحبته وأحبها وعشقها شعبها لتموت هناك.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز