عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الكلام مصري والطباعة لبنانية!

الغربة الأولى 12

الكلام مصري والطباعة لبنانية!

غَلَبَني الانتظار. تتصارع الأفكار في رأسي. أشعلت غليوني، استطيبتها مع القهوة، أخذتُ نَفَسًا عميقًا، انزلق الدخان من أنفي، تكوَّمَ في سقف المكتب، سحابة رمادية تناثرت تدريجيًا. اندفعت الأسئلة في ذهني إلى آخر مدى: أترانا نجحنا؟



ماذا لو لم يكن ما ننتظره، بين دقيقة ودقيقة، وهو باكورة إصدارات "فرع بيروت للهيئة المصرية للكتاب"، بالمستوى المأمول والمرجو، والذي يؤكد ضرورة وجودنا في بيروت، ليس للقضاء على القرصنة فحسب، إنما أيضًا لإنتاج كتب على قدر كبير من الكمال تعتز بها الهيئة في مصر؟

 

ماذا لو كنا أغفلنا، تحت ضغط العمل والوقت، هنّة هيّنَة، في التصميم، أم في التوضيب والمونتاج؟

ماذا لو...ماذا لو...ماذا لو...

أثقل عبء يُلقى على إنسان، هو عبء المسؤولية، مسؤولية أي عمل، تتجمع حوله العيون وتنتظر متلهفة.

 

غَمَرَني القلقُ، كَرَّ شريط صور الأشهر الطويلة الماضيات، التي أمضيتها في المراجعة، والتصميم، ورسم الأغلفة، وانتقاء أحرف متن الكتب، وخطوط العناوين، والتفتيش عن مطبعة ترضينا، في زحمة المطابع في ببروت، المتباهية بحالها، والمتشاوفة بمطابعها.

 

شعرت، هنيهات، أنني عدت طالبًا في "كلية الفنون الجميلة"، أنتظر نتيجة امتحان التخرج، يأكلني القلق، وتختلط في رأسي الأفكار المرتعشة، المرتعدة والحائرة.

 

لَمْ أقوَ على الجلوس إلى الطاولة، انتفضت، رحت أزرع أرض الغرفة بخطوات مضطربة، غير متناسقة، عدت إلى فنجان القهوة، احتسيت آخر حسوة...نسيت كم فنجان قهوة احتسيت، وكم مرة دخلت فاطمة، السكرتيرة التي يورد الحياء خديها، على بفنجان جديد، وابتسامة وديعة تتركها على شفتيها، وكأنها تقول: "كل شيء سيكون خيرًا".

  خرجت من غرفة مكتبي، رميت نظرة عليه، لم يكن إسلام شلبي، ممن تَسْهُلُ قراءته، ولكنه في ذلك الصباح، بدا لي مجذوب الخاطر، ساهي الفؤاد، انطفأت في عينيه اللوزيتين النظرات التي كانت تلهبنا حماسا، وتنشر بيننا الطمأنينة.

 

وحدي كنتُ أعرفُ ما يجول في خاطر إسلام شلبي، فهو لم يكن يخفي، خلال اجتماعاتي المتواصلة معه، قلقه من فشلنا في القيام، ليس فقط، بمحاصرة "مافيا قراصنة بيروت"، إنما أيضًا، طبع كتب متميزة، إن في التصميم أو الإخراج، والطباعة القشيبة، تكون جديرة أن تحمل اسم "الهيئة"، خصوصًا أن وجهتها دول الخليج والدول المغاربية.        كان إسلام شلبي، يسقي أحرف كلماته إحساسًا، وتصميمًا، وعزمًا، وهذا ما كان يعزيني، ويقوي من تصميمي، أنا الآخر، على النجاح، والبحث عن الأحسن، والأفضل، والأحلى، إن في الإخراج والتصميم، أم في الطباعة.

 

على أن نازع القلق مما قد ينتظرنا في القاهرة من ردّات فعل، كان يؤرقني، ويلح على إسلام شلبي، ولطالما هَتَفَ أمامي وشَكا، من أن يأتي داخل "الهيئة" في القاهرة، من ينازعنا، وينافرنا، فنخسر النِّفارُ، ويغلق فرع بيروت، وتكون الأشهر الطويلة التي أمضيناها في التنظيم، والترتيب، والتجهيز، والإعداد، والاستعداد، والوقوف على كل شاردة وواردة، وعلى أدقّ التفاصيل لإنجاح مشروع النشر في بيروت، تذهب سُدى، وأدراج الريح.

 

تكتكات آلة المحاسبة الكهربائية، انتشلتني من لجة الأفكار المتدافعة في رأسي وأرجعتني إلى صوابي. كانت أصابع سي عبد الغفار (كما كنا ننادي عليه مداعبين) تنزل برتابة على مفاتيح الأرقام للآلة الحاسبة الكهربائية، تحدث تكتكات تزيد شحنات من التوتر، كأنما هي "حنفية" تَنِزُّ"، وتُنْزِلُ نقاط الماء برتابة مثيرة للأعصاب.

 

امتصَّ علاء توكل، المسؤول عن التسويق، امتعاضي من سي عبد الغفار أفندي، نظر إلى الساعة في معصمه، قلب شفته، قال بنبرة هادئة محببة:

"نعمل إيه... الغائب حجته معاه."

 

أتبع علاء كلماته بابتسامة، أعطاها مداها.

 

رنَّ جَرَسُ الهاتف. ساد صمت متحفَزٌ لَفَّ المكتب. توقفت أصابع سي عبد الغفار عن الحركة، أكل علاء توكل وجه فاطمة بعينين شبقتين. هَمَدتُ في مكاني، عرق بارد طرّز جبيني. خرج إسلام شلبي من غرفة مكتبه، وقف مثل قصبة ممصوصة، صوَبنا عيوننا على وجه فاطمة، حركت شفتيها، استرخت على مقعدها، كأنها ترمي عن كتفيها حملًا ثقيلًا. مسحت وجوهنا المسكونة بالقلق، رَشَّت علينا ابتسامة عريضة، حمّلتها كل غبطتها، اندفعت الكلمات من بين شفتيها الدقيقتين:

"وصلت... وصلت الكمية".

أحسست، وأنا أرنو إلى وجه إسلام شلبي، أن قلبه انفطر، علّقَ سيجارة بين شفتيه، عبَّ نفسًا عميقًا، تمالك نفسه، وهذا ما لم أستطعه، الصوت في داخلي، مشروخ، يرتجف ويجف: "في الدقائق الآتية سيتحدد مصير مكتب بحاله، إما أن يغلق بالشمع الأحمر، وإما سيستمر".

 

مسحت تلك الأفكار المختلطة من ذهني، وبقيت هامدًا، ساكنًا.

سمعنا صرير أكرة الباب. نظرنا جميعنا، صوب الباب. فتحه رجل ربعة في القامة، خلفه شاب مفتول العضلات، يحمل ثلاثة صناديق كرتونية. وقّع علاء على استلامها، وما أن خرج الرجلين، حتى انقضضنا على واحد منها.      كانت الصناديق من محترف عبد الحفيظ البساط للتجليد، الذي بلغ رفعة المنزلة، وبُعدُ الصيت. تمكّن الحاج عبد الحفيظ من صنعة التجليد، ونقلها بدوره إلى العاملين في محترفه، ومنهم بعد تخرجهم به، أسسوا محترفات غزلوا فيها على منوله، في حرفة الصنعة، وجودة العمل. وكان محترف البساط قد تسلم من المطبعة الملازم المطبوعة.

 

بواكير إصدارات فرع بيروت، كانت "عودة الروح" و"أهل الكهف"، من أعمال توفيق الحكيم. والكتابان كانا على لائحة أكثر الكتب قراءة للأديب المخضرم.

 

كانت كل نسخة مغلفة بحرص وعناية بورق "الكرافت"، للحفاظ عليها داخل صناديق كرتونية سميكة، تحمل على جانبيها اسم الكتاب والناشر. بهرتنا تلك العناية، وتلك الدقة في التجليد المتأنق.

 

تناولت كتابًا، أقحمت عينيّ في الصفحات، التي كنت أفرُّها على مهل، فلم أجد هنّة طباعية واحدة، ولم أعثر في الصفحات على أسطر فيها غشاوة في الحبر، والحبر لا يغمق في ملزمة، ويبهت في أخرى، دّقة متناهية في ضبط الطباعة ومراقبتها، وفي دوزنة الأحبار، لا غش في الورق الذي انتقيته.

 

ترقرت ضحكة اعتزاز على شفتي، أدركت أننا أنجزنا عملًا فنيًا على رفعة في المستوى، وأننا... نجحنا.

 

انطلقت عيناي تعبثان في الوجوه، شعرت بالاعتزاز، انبسطت أسارير إسلام شلبي على مديد الطمأنينة. مسح جبينه بمنديل، صفا خاطره، سار إلى غرفة مكتبه بزهو الطاووس.

 

عاد سي عبد الغفار، للجمع والطرح والقسمة، وحك الرأس، ودفع الفواتير، فعنده كل شيء يبدأ بالأرقام، وكل شيء ينتهي عندها.

 

انشغل علاء توكل في توضيب ادبارات الشحن والتوزيع، تقدم مني، وقد دغدغته سعادة غامرة:

"مش قلتلك الغايب حجته معاه، أهو... مبروك يا سيدي".

وربّت على كتفي.

صرخت فاطمة، نادت علي:

"مبروك... حصرم في عيون الحساد... حلاوة الكتب فنجان قهوة". *   جلس إسلام شلبي إلى طاولة مكتبه، رشف رشفة من فنجان القهوة، أخذ نفسًا عميقًا من سيجارة حبسها طويلًا بين أصابعه، انتعش الدخان في سقف المكتب، كان لحظتها منتشيًا، عيناه مليئتان ببريق الفرح. فرك رأس السيجارة في منفضة الدخان، مسح وجهي بنظرة فيها مرارة، سألني، دَهِشًا، مستنكرًا:

 

"تعرف... من الأشياء التي تحيرني، ولا أجد لها أجوبة، هي مسألة الطباعة في مصر".

 

قرأت في وجه علامات الاستفهام، ما تركني أسال، تنحنح، وأحكم قعدته، حك رأسه وقال:

 

"إن آلات الطباعة الموجودة في القاهرة، هي نفسها الموجودة في بيروت، الورق نفس نفس الورق، بأنواعه وقياساته، متوافر لكل المطابع في كافة أنحاء العالم، فلماذا تتفوق بيروت في الطباعة والتجليد على القاهرة، لماذا لا تخرج من المطابع المصرية كتب مثل التي تسلمناها من المطابع اللبنانية؟."       "العمالة..."

وسكت. نما فيه الفضول، فتح إسلام شلبي عينين كبيرتين تلتهمان وجهي، تجاهلتهما:

 

"العامل المناسب في المكان المناسب، هي مشكلة العمالة في مصر، "القوى العاملة"، تفاديًا للبطالة، توفد إلى المطابع أشخاصًا لا علاقة لهم بالطباعة لا من قريب ولا من بعيد، تفرضهم فرضًا، فيخضع للتدريب المتعجل، يلتقط الصنعة من دون رغبة فيها، كل همه، أن يحصل على راتب يطعمه عيشًا، كما نسمع دائمًا".   هزّ برأسه، تركني أكمل:

"إن تركيبة النظام قضت على المبادرة الفردية والطموح، وعلى الإخلاص والتفاني في العمل واحترام المهنة. العامل اللبناني طماح، يغلي ويفور، يقتنص المبادرات، وأحيانًا كثيرة يخلقها. لذلك، هو يعشق مهنته، ويتقنها، ويقدم الجودة في كل ما يفعل... في أقصى الظروف، عندما غرز الاحتراب الداخلي أنيابه، فأثخن لبنان جراحًا، ووزّعَ الموت والخراب في كل المطارح، كانت تخرج من مطابع بيروت أفضل الكتب طباعةً وأفخرها تجليدًا".

  صمت هنيهة، برق في ذهني خاطر عن أهمية المبادرة الفردية عند اللبناني، فرويت حكاية عامل بسيط، أصبح شيخ المجلدين: 

"في بيروت يعتبر رياض خباز من أبرز مجلدي الكتب على الطريقة اليدوية، وشيخهم، لا يبزه في الصنعة أحد.

كان رياض خباز سنة 1969، عاملًا بسيطًا في مطابع صحيفة «الحياة»، حيث كان يهتم بطبع تذاكر «الترامواي» (القطار الكهربائي) وضمها في رزم على غرار رزم تذاكر "الأوتوبيس" على زمننا هذا. وعندما اتخذت الحكومة اللبنانية قرارًا بإلغاء الترامواي، الذي كان الوسيلة الشعبية للنقل داخل العاصمة، انتقل رياض إلى مهنة تجليد الكتب في المطابع نفسها، وقد صرف وقتًا في تجليد الصحف، والمجلات، وكتب الأطفال، وكل ما كان يرد إلى آل مروة (أصحاب مطابع "الحياة").    وتقضَّت الأيام، يوم ميت، وآخر مولود. بعد سنوات خمس، مَلَك رياض المهنة، احترف صناعة التجليد، وأخذ يجدد فيها ويتفنن، وحدث أن انتقل للعمل في التجليد في "مطبعة البساط"، المعروفة للقاصي والداني في بيروت. ولم يمض عليه كثير وقت، عليه حتى جاءه مسؤول المطبعة وهمس في أذنيه: "لا يمكنك أن تكمل عندي لأن عمالي سيغارون منك. أنا أنصحك بأن تفتح محلا وتعمل على حسابك". اعتبر رياض خباز، أن النصيحة حافزا له، فبادر، وأخذ يفتش عن محل، يحوله إلى محترف يمارس فيه صنعته.        وكان أن اشترى محلًا على مقربة من السراي الحكومية، وبدأ العمل، وذاع صيته، وأصبح شيخ المجلدين، الذي حافظ على الصنعة التراثية، وتحدى بها التكنولوجيا الحديثة وآلاتها، ليس في لبنان وحده إنما في العالم العربي، رمة.

كان "معلم رياض"، يتقاضى ليرتين ثمنًا لتجليد الكتاب، وإذا كان التجليد «إكسترا»، أي من الجلد الأصلي، كان يتقاضى 5 ليرات. وطبعًا، مثل كل صنعة، تتغير الأسعار حسب نوعية التجليد، ونوعية الجلد. وهناك تجليد كتاب واحد يستغرق شهرا، لكنه يخرج من بين يدي المعلم رياض، قطعة فنية. لذلك كان كمال جنبلاط يقله بسيارته إلى منزله في "فرن الحطب" من بيروت لتجليد كل ما تحتويه مكتبته الغنية من كتب ومخطوطات. وكان المحامي المعروف والنائب صبحي المحمصاني يأتي رياض خباز بعشرات الكتب ليهتم بتجليدها. ووردت إليه طلبات من الإمارات والسعودية وغيرهما لتجليد المخطوطات، فجلّد لحساب أحد الأمراء قرآنا مكتوبا بالقصب".

 

"على سيرة التجليد"

ضرب إسلام شلبي كفًا بكف يتأفَّفُ:

"في طول وعرض مصر لا يوجد إلا أربعة محترفات لتجليد الكتب، في مقدمها وأبرزها محترف عبد الظاهر، خلف جامع الأزهر، حيث التجليد لم يزل يتم على الطريقة اليدوية.   "أعرف... أعرف".

واسترسلت بما أعرفه عن الرجل ومحترفه:

"سنة 1963، فتح عبد الظاهر محترفه، وبعد وفاته، أكمل ولداه، حسام ونبيل، الصنعة. زبائن المحترف من الأجانب المقيمين في مصر، الذين يقدرون أهمية هذه الحرفة التراثية. وأهم الكتب التي عمل عليها عبد الظاهر ترميم كتاب "وصف مصر"، كما جلّد كتب مهمة مثل كتاب "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"... ومثلها مثل أي حرفة تراثية تعاني حرفة تجليد الكتب على الطريقة اليدوية من إهمال اتحاد الصناعات."

أيبست الدهشة لسان إسلام شلبي، رمقني بنظرة من يرغب الاستزادة، لم أكذب خبرًا، زدت على كلامي كلامًا:

"تعرف، ما يحَزّ في القلب، أن يكون فن التجليد ولد في مصر، وانتقل إلى العالم العربي، فتخلفنا، وسبقنا من أخذوا عنا ذلك الفن".

 تلامح الاهتمام في عينيه، أكملت:

"إنَّ فن تسفير الكتب وتجليدها، ظهر أول مرة في أديرة الأقباط في مصر، وأقدم ما وصل منها يعود إلى ما قبل "الفتح الإسلامي" ببضعة قرون. من الأقباط اقتبس الروم والعرب المسلمون فن التجليد وطوَروه. وتفنن المسلمون في تسفير المصاحف من القرآن الكريم والكتب القيمة".        نسيت الغليون ينطفئ بين أصابعي، رميت محتواه في صحن الدخان، انتشى إسلام شلبي بكلامي، تابعت:

"الحقيقة، بما تجمع عندي من معلومات، فقد مرَّ تغليف الكتاب بمراحل مختلفة فبدأ باستخدام ألواح الخشب غلافًا واقيًا، فكان يُزخرف ويُطعّم بالعاج أو يُكسى بصفائح الذهب والفضة، أو بالقماش والحرير المطرز، ويُزين بالأحجار الكريمة. ثم استبدل بألواح الخشب الكرتون أو الورق المقوى، واستبدلت بصفائح الذهب والفضة شرائح الجلد التي غَدَت المادة الرئيسية في فن التغليف ومنحته اسمها. ويعدّ القبط مرة أخرى أول من استعمل الجلد في هذا الميدان، وانتقل على يد النساطرة إلى المشرق العربي وإلى بلاد فارس وما وراءها".

أثَارَ الأمر والحكي عن الكتاب اهتمام إسلام شلبي وحرّك أحاسيسه فأعاد طرح خطته في إنشاء مطبعة للهيئة العامة للكتاب في بيروت وطلب منى الإسراع في البدء... ولهذا المشروع قصة أخرى.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز